مكابدات الأمل

(نسيانهم لا يكفي، واستعادتهم من المستحيل)

(2012)

قاسم حداد

مكابدات الأمل

الفهرس

  • إهداء
  • بدايات دائمة
  • ديمقراطية الاصغاء
  • الحرية هوية الكائن
  • حصتنا في البحر
  • "خولة" من خطّ النخيل الى بيت البحر
  • ماء يوقظ النهار
  • لم تكن النساء تكفيه
  • كائنات ممر الطفولة
  • السيدة السمراء في "المحرق" بزنديها الحانيتين
  • الشاعر
  • "ليلى فخرو" لانتذكرك لأننا لا ننساك
  • "هشام الشهابي" قل شكرا لنفسك
  • "أحمد الشملان" التجربة في سياقها الانساني
  • أول البحر
  • مهرج يتماثل للنوم
  • الثلج في الخارج
  • لا تثقْ،واسأل الشك، وامش على شوكه
  • من يصدق في الحب لا يخطئ في الحياة
  • ناحية "حانة الذئب"
  • سحقاً للقصب الذي صار ناياً
  • جبل يصغي للريح
  • حزن طويل القامة
  • درس الأرز
  • يؤخذ على المرآة صراحتها
  • تنهدات حارس الحلم
  • لكم دينكم
  • نورس يرسم البحر بجناح مكسور
  • محاولة لتقليد البحر
  • تعرف القاعدة جيداً، تكسرها بشكل ممتاز
  • لا تخدم ملوك العرب ولا تملك عبيدهم
  • الوحيد وحده
  • في الشعرية
  • المجاز .. مكر اللغة
  • لا تخف من الكمال، فلن تدركه
  • الوسيمون يوقظون الغرائز
  • اللغة في حضرة المليكة
  • كأن في الفن فتنة
  • فلنزرع حديقتنا
  • هكذا تكلم "فولتير"
  • عبدالقادر عقيل، أن تذهب إليه بطفولتك
  • غازي القصيبي، قدمان في زرقة البحرين
  • أمين صالح، لا يروي، لكنه يرى
  • محمد الماغوط، لست محسوداً على الموت
  • عذابات المثقف (ك)
  • لحظة النص/ لحظة الجسد
  • سيرة النص
  • السيرة
  • اسمعْ يا "آرثر"

***

إهداء

إلى
ليلى فخرو
و
هشام الشهابي
و
عبدالرحمن النعيمي

بدايات دائمة

هذي بلادٌ سوف تبدأ مرة أخرى لفرط اليأس
كنا نختفي في مائها السريّ
كانت دمعة وصديقة لعيوننا
تبكي علينا أو لنا
لكننا في آخر الأسفار نستهدي بيقظتها
ونعلن أنها فينا .. بعيداً
أنَ باقي وردنا في صدرها الماسيّ
في تنهيدة المأخوذ نحو جمالها
لا ننتهي كي يبدأ التأجيل
لا يبقى لها فينا
سوى الحجر الكريم على الكتاب.

ديمقراطية الإصغاء

الإصغاء إلى الآخر موهبة يستدعيها الحوار.
فلكي تحسن الإسهام في أي حوار، ستحتاج إلى موهبة أكثر حيوية من طاقة الكلام، تلك هي موهبة الصمت والإصغاء. فإذا لم تمتلك هذه الموهبة، لن يتسنى لك الزعم بأنك شاركت بشكل إيجابي في الحوار.

من هذه الشرفة، سأرى إلى مشهد واسع فسيح الأرجاء في سجال يدور، هنا وهناك وهنالك، بوصفه حواراً يبالغ في الكلام الجماعي، مثل جوقة فالتة على الآخِر، تنقصه لحظة الإصغاء إلى الآخَر. الأمر الذي يرشّح العديد من المشاريع إلى فشل ماثل أو تعثر وشيك، بسبب غياب مسافة الفهم المشترك المترتبة على كلام متواصل من جميع الأطراف، بلا لحظة إصغاء فعالة تتيح للشخص أن يفهم الآخر، قبل التسرع في طرح الصوت العالي الصادر عن موقف مسبق، يسعى إلى ما أرغب أنا في قوله/ لئلا أقول: في فرضه عليك، فيبطل الجوهر الحضاري لمعنى الحوار، القائم على تبادل الأفكار ونقضها، لكن ليس فرضها.

في الصمت النادر، لحظات احتدام الحوار، سوف تكمن الفرص الذهبية لردم فجوات الخلاف الفادح.

أقول صمت الإصغاء، لا لكي أعني البحث عن تفادي الاختلاف، على العكس، إنني أعني أن في الإصغاء طريقاً ملكية لجعل الاختلاف مكتنزاً بالفعالية والجدوى، حيث الاختلاف جمرة الحركة الحيّة لحياتنا. غير أن هذه الجمرة الجميلة سوف تفقد تألقها إذا لم نوفر لها القدر الكافي من رصانة الحوار مع ما تنطوي عليه جماليات الاختلاف من غنى وتنوع.

لكن،
لا يكفي أن نعلن قبولنا للرأي الآخر، إنما يتوجب أن نبدأ في الإصغاء إليه. فكل كلام عن الديمقراطية وعشقها والولع بها يظل كلاماً إذا نحن بقينا نصدر عن الوهم بأن الحقيقة تكمن في الصوت الأعلى والمتواصل والذي يشغل المكان والزمان معاً. فأنت لن تقدر أن تكون محاوراً فاعلاً ورصيناً ما لم تتأكد وتثبت قدرتك على استخدام أذنيك أكثر من لسانك. فكلما أصغيتَ أكثر، منحتَ محاوريك الثقة باستعدادك لصياغة أفكارك وإعادة صياغتها مراراً على ضوء تبلور معطيات الحوار، ففي إصغائك دلالة على مقدرتك ليس فقط على محاورة غيرك، وإنما أيضاً، وبالضرورة، على تمكنك الحقيقي من محاورة ذاتك، واستعدادك الحيوي لطرح أفكارك قيد المراجعة فيما أنت تكتشف وتستكمل الحقائق مما تسمع، من آراء الآخرين وأفكارهم. فالمحاور العميق هو من يصدر عن ثقة بأن الحقيقة ربما تكمن هناك، في الأطراف الأخرى من الحوار، فالشخص، مهما كانت معارفه ومزاعمه لن يكون مصدراً وحيداً للحقيقة.

هذه الحقيقة الحوارية لا نستطيع مجاراتها إلا إذا تمتعنا بموهبة الإصغاء بالصمت العميق، اليقظ، أثناء الحوار، ويقيني أننا سنحتاج مثل هذه الموهبة دائماً كلما اشتدّت وتيرة السجال واحتدمت الآراء. والحكمة هنا ستعتمد على قدرتنا على الاكتراث بمن يصغي أكثر ممن يتكلم.

هل قلنا غير مرة، أن الديمقراطية ليست في حرية الضجيج؟!
هل نضطر دوماً إلى التأكيد بشدّة على أن الحرية هي ديمقراطية الإصغاء؟

الحرية هوية الكائن

( 1 )

الآن،
في غابة العصبيات المستعرة،
ليس يخلو من المخاطر الكلامُ عن الهوية، في ظل حكومات تتلاعب بهويات البشر من منظور خيمة القبيلة وعقليات "الجمع والمنع"، خصوصاً عندما يتعلق الأمر باعتبار كل واردٍ أو وافدٍ في هذه المنطقة هو مواطن من الدرجة الثانية أو الثالثة.
فالعرب (العاربة / الهاربة)، سيكون كلامهم عن الهوية عرضة لخطرين شديدي المثول: تفاقم تورم الذات الفارغة، واستفحال احتقار الآخر ونفيه.
وهما سلوكان يحدثان في اللحظة ذاتها، كلما بدأ الحديث عن الهوية.

( 2 )

أولا،
كنت ُمنذ الربع الأخير من القرن السابق،
كلما سمعتُ دعوة للتعبير عن "الهوية"، استنفرت حواسي، وتوجست، خشية أننا قد أمسينا في مهب الانكفاء على أكثر الدعوات قلقاً.
أقول قلقاً، (لكي أعني شبهة).
ففي السنوات الأخيرة، كلما تعثرتْ محاولات التأمل الفكري لواقعنا العربي، تسنى لمفاهيم الهوية الإنسانية الوقوع في شـرّ تأويلاتها.

ثانياً :
حين أسمع الدعوة للتأكيد على الهوية في راهن الحال العربي، أخشى من احتمالين إثنين:

  1. الكلام القومي عن الهوية ذهاباً إلى التحصّن بأوهامنا العنصرية التقليدية التي تضع العرب في غير سياقهم البشري، وبمعزل عن التبلور الكوني للحياة مع الآخرين، وهي أوهام سحقتنا في التجارب السابقة، وتوشك على صقل سلوكٍ فاشي كامن.
  2. الكلام الديني عن الهوية، سوف يشي، غالباً، بالعصبوية الإسلامية كلما جرى الكلام عن الأصالة، بوصف الدين هو القيمة والحل والمصير.
    وهو ما سنصادفه في معظم أطروحات الكلام عن الهوية تمترساً وراء فكرةٍ تضاهي العنصرية القومية، بما يشبه "الحق" الديني في تميز الهوية الإسلامية في العالم لمجابهة غير المسلم "الكافر"، لتبدو لنا الهوية، من هذه الشرفة، أكثر مظاهر التعصب خطورة على أصحابها وغيرهم.

( 3 )

قلت مرة منذ سنوات: "لسنا جزيرة إلا لمن يرى إلينا من بعيد".
وظني أن هذه الصورة يمكنها أن تتجاوز الجغرافيا، كون البحرين جزيرة، لتشمل منطقة الخليج عموماً.
وحين يسهم البحر "جغرافياً" في صياغة الطبيعة الإنسانية والاجتماعية، بوصفها ملمحاً تفصيلياً لكائنات هذه المنطقة، فإننا ندرك بأن البحر بدوره ليس سمة محلية، خاصة، في أي مكان أو زمان، ولا هي تصمد كشرط ناجز لهوية مختلفة. فالخليج يظل، عُمقياً، شرفة عربية على هذا الماء الشاسع من الخليج حتى المحيط. ربما تبدو هذه الهوية أكثر حيوية في تاريخها كلما نظرنا إليها بوصفها الميناء الرحب تجارياً وثقافياً الذي عبره العرب نحو أفريقيا وآسيا، مثلما اجتازه الآخرون، بشتى تلاوينهم، في اتجاه البلاد العربية. الأمر الذي صقل السليقة والتكوين الحضاريين لعرب هذه المنطقة وأكد على حضورهم العربي والإسلامي في النسيج الكوني، دون التقليل من شأن الهويات التي لا تحصى، وهي تسافر وتعبر وتقيم وتعمل، مساهمة في إنشاء المكان الإنساني الجديد في الخليج.

( 4 )

الآن،
سوف يحتدم الصراعٌ بين الانكفاءات القبلية والطائفية والدينية من جهة، والانفتاح الكوني المتمثل في تحولات متسارعة ليست العولمة إلا قمة الجبل الجليدي فحسب.

الآن،
وتجربة الحداثة، في السياق العربي، تتماثل بصعوباتها، متبنية النظر الإنساني المتحرر، سوف يبدو الكلام عن الهوية بمثابة الإجهاض الواعي لمشروعها، والتقويض القتالي لكل ما يتصل بتجاوز الإرث العنصري الذي باتت الاجتهادات الأصولية تستعيده وتعمل على تكريسه لفصل المشروع الحضاري الذي حلمت به الأجيال الجديدة وقطع الطرق عليه.

الآن،
في هذه اللحظة الكونية،
سيكون من الحرج الحضاري الكلام، بلا قلق، عن مسألة الهوية الضيقة التي يتذرع بها قوميو العرب وأصوليوهم، بل أكاد أقول بأن التفريط، المبالغ فيه، في كل منجزات وسائط الاتصال والانفتاح العالمية، مهما كانت ملابساتها، الدولية/السلبية، هو ضربٌ من الإمعان في التنكيل الضاري بكل الفرص الإنسانية التي تسعد المجتمعات العربية في سعيها نحو مستحقاتها الحضارية المشروعة، تلك التي عطلتها منظومات عربية لا علاقة لها بالمستقبل إلا بوصفه فرض وهم.

( 5 )

سوف يصطدم الذي يبالغون في الكلام عن "الهوية"، في البلاد العربية، دول الخليج خصوصاً، بواقع تفرضه مصالحهم الاقتصادية، من جهة أن أية تنمية أو مشاريع اقتصادية وتجارية هي رهن تشريعات رأسمالية عالمية سيكون من شأنها دائما حماية حقوق جميع الأقليات العاملة في هذه الدول، أفراداً وجماعات، حيث الحقوق الفردية لكل شخص، أيا كانت جنسيته أو عرقه أو دينه، في أي مكان من العالم، هي حقوق مكفولة تحميها قوانين وتشريعات كانت هذه الدول قد وافقت عليها ووقعت بنودها قبل الانضمام إلى سوق التجارة الحرة.

أكثر من هذا،
ستوضع هذه الدول، فيما تحاول الانكفاء على هويتها، على محكّ حرج غير مسبوق، من جهة موقفها من حق الفرد في التمتع بشروط المواطنة الكونية، بوصفه إنسانا لا بوصفه عربيا أو هنديا أو إيرانيا.
فكلما حوصرت "لئلا نقول قوّضَت" قوى المجتمع المدني ومؤسساته في هذه الدول، صار الكلام عن الهوية إعلاناً مضاداً لهذه الحقوق الإنسانية التي تصبح شأناً جماعياً ملحاً ينقض المشاريع الإصلاحية ويفضح فشل التحول الحضاري اللازم.

( 6 )

إن سعي المنظومات السياسية الحاكمة في هذه المنطقة إلى إعاقة وتأجيل، ورفض، أي تحول ديمقراطي حقيقي، بل وإضمار العداء له، هو نموذج فاضح على عجز هذه المنظومات وتخلفها عن المعنى الحديث للدولة الحديثة والشروط الإنسانية.

ولعلها سوف تلجأ إلى أطروحات مختلفة من أجل حماية عجزها وتحصين مصالحها، وبالتالي تمسكها بجوهر العقلية التقليدية في الحكم، من بينها مسألة "الهوية" والحفاظ عليها في

مجتمع بات أبعد ما يكون عن الحفاظ على شيء أكثر جوهرية من استمرار الوضع كما هو عليه.
إنهم يحسنون إلهاء الشعوب بقضايا الهوية لمواصلة حرمانها عن الحاجات الضرورية في الحياة.

حتى التجارب النادرة التي أطلقت مشاريعها "الديمقراطية" بين ظهرانينا، ظلت رهينة القانون القبلي الكامن، المتفجر بين وقت وآخر، مما يعمل على إعاقة ومسخ هذه التجارب. ففي مجتمع لا يزال قطاع كبير من مواطنيه محرومين من حق التمتع الطبيعي بجنسيتهم، فيما يجري التلاعب بها، كيف نفهم الكلام عن "الهوية"، دون أن نصاب بخيبة الأمل الحضارية، بحيث نشعر فعلاً بأن هذه المنظومات لا تزال تعيش عقلية البدوي الذي يتعثر بمفهوم "الحـَضَر"؛ وهي مرحلة تسبق الحضارة بسنوات ضوئية.

( 7 )

هوية الإنسان حريته.
لقد كانت ولا تزال خاصية التنوع الإنساني في هذه المنطقة واحدة من مكونات مجتمعاتها. وكان بإمكان التطور الطبيعي، حضاريا، أن يتيح لهذه الخاصية أن تتبلور في صالح السياق الاجتماعي.
التنوع العرقي هو المكون الذي هيأ لمختلف الأقليات العابرة أو الوافدة والمقيمة، أن تشارك، بدرجات متفاوتة، في إنشاء وبناء وتشغيل ورشة العمل الهائلة، اقتصادياً واجتماعياً وثقافياً، الأمر الذي جعل قطاعاً كبيراً من البشر جزءاً أساسياً من حركة الحياة وفعلها الإنساني في هذه المنطقة، وبطبيعة الحال سيترتب على هذا شبكة متداخلة من المستحقات الإنسانية التي من الصلافة التقليل من شأنها أو إنكارها، والأخطر التنكر لها.
عندما تزعم المنظومات السياسية في هذه المنطقة الإعلان عن جملة من مشاريع الإصلاح السياسي، فإن هذا يتطلب توفر قدر حقيقي من التشريعات القانونية وتكوين المؤسسات الديمقراطية التي تحمي مثل هذه التشريعات، وذلك في سبيل تحقيق العدالة الاجتماعية لأفراد المجتمع، وبدرجة واضحة حماية حقوق الإنسان بمعزل عن أية عصبيات عنصرية.
لذلك، فإن الكلام عن الهوية في مجتمع يفتقر إلى خاصيات المجتمع المدني، بكافة شروطه المؤسساتية والتشريعية، هو ضربٌ من الموقف الغامض، لئلا أقول في مستوى الشبهة، في خضم العصبية القومية وتصاعد الأصوليات الدينية، التي لا ترى في الآخر سوى العدو.

الآن،
يتوجب أن نرى إلى هذه الأطروحة بقدر كبير من الريبة والحذر،
ونضع أمامنا شرط الحريات قبل أن نتحدث عن الهويات.
فكل كائن، أياً كانت جنسيته، لن يمتلك هويته الإنسانية ما لم يتمتع بالحقوق التي تكفل له حرياته.

مقدمة لملف عن (الهوية في دول الخليج) في مجلة- قنطرة- الصادرة عن معهد العالم العربي- باريس. 2005

***

حصتنا في البحر

يا بحرنا
قبل أن تنسى.
يجوز لنا استعادتك كلما حَزّت أطرافنا حبالُ المسافة وهي تمحونا بغيابك. يصحّ لنا أن نَحكّ عدستك لنوقظ الماء النائم في مستنقعاتٍ تحزم الجزر الناعسة. ينبغي لنا، نحن الذين لم يكن يطيب لنا ليلٌ بدون نجومك، ولا يهنأ لنا نومٌ بغير أغاني أمهاتنا عنك. كنا نضع صناديق أحلامنا في موجك. فتضمّها في التجاعيد مطمئناً ثقتنا برحمتك. وتخصّنا بأحلامٍ لا تتركنا وحدنا عندما نذهب الى النوم. حتى إذا ما سألنا أطفالُنا عن الهدايا، نمسح بفصوص الملح الشفيف أكتافهم. زاعمين أنك ستبعث لنا هلامياتك الناعسة لتوقظنا من سرير الأعماق. فنحملها معنا هدايا تلاعب أطفالنا وتؤنس نساءنا في الوحشة.

يا بحرنا
قبل أن تنسى،
مثل الحيتان الخجولة كنا نجوب معك سواحل أفريقيا، نتقصى حصتنا في موسيقى الرقص الحزين المترنح ثملاً بالجراح. نصغي لأجسادٍ محبوسةٍ في الغيم. نحصيها مثل سعال أكبادنا. نسألك، فتغمرنا بفتنتك الصارمة. نسأل فتشملنا بمزاجك العاصف وغضبتك الحانية.

يا بحرنا
قبل أن تنسى،
تغمرنا بالأجنحة المتعبة لنوارس التيه. تقودنا فنارات محيط الهند. نتبع سبل البهارات المتصاعدة من عتمة غابات المطر المتواصل. أبازير نشمها مثل عطر الأعشاب البحرية عالقة في أقدامنا ونحن نخرج من جيوبك الحصينة أجراس النكهات النفاذة، هاطلةً في صهدنا ودموعنا. وشهقات اللذة في الأرز بمذاق الثمار الفجة في الأواني الشهوانية الثملة وأخلاطها.

يا بحرنا
حتى إذا ما نسيتنا،
وأحزاننا تحرس النحيب، نستعيد ربط العصائب الخضراء في أصابعك فتتذكرنا. نحن ضحايا الماء ورهطه، نرفع نحيبنا كلما بعثت لنا بجنازة غامضة. وطلبت منا التحلي بالصبر وعدم إطلاق الصوت الفازع لئلا تجفل الأسماك عن مصائدنا. وتفسّر لنا العلاقات القاسية بين الفقد الغامض والصيد الوفير وشحّ الأرزاق.

يا بحرنا
على نسيانك،
تفرز مشتهياتك في رمل عواطفنا الفائضة. وتكثر تصانيف الأحبار الماكرة وتعدنا بالحقائب المكتنزة بالقواقع. فنصدق الرسائل ونبدأ في قراءة موجك الطاغي على نسائنا اللاهيات بالسهر على أواني الطرائد وفاكهة الصيد. وحده كلامك يسعفنا ساعة إقناع النساء بالذهاب الى النوم، حيث الأحلام في انتظارهن.

يا بحرنا
إنسنا إذا طاب لك ذلك.
فها نحن نحتفظ بأنيابك الصخرية وحَسَك أسماكك المستوحشة في الأعماق مثل الوشم في أجسادنا الناحلة. فليست الهدايا وحدها تقدر على صقل مواهبنا. الجراح تفعل ذلك أيضاً.. وتحسنه.

يا بحرنا
إذا نسيت،
نتذكرك في الخطر المريع الذي تحرسه خطواتك. كلما رأينا أخطبوطك العجوز يتخبط في خُرقته. فيما يرقب المخلوقات الفظة وهي تتحشد لتهندس لنا الكارثة. تحدق وتفتك وتنال منا.

يا بحرنا
لا ننساك،
نحن نساؤك الفاجرات، نفقد رجالنا في غيابك. فنصون لهم مكامن اللذة بفتيان قليلي الخبرة، منذورين لوحشة المرافئ. نستفرد بهم. نلقنهم درسنا الباكر في المعاشرات الماجنة فننهكهم بالمتع. فإذا فرغنا منهم، استدرنا لك يا بحرنا الوحيد قبيل أن تهرم. نناديك بالشغف وغيره. بالغنج وغيره. بالشبق وأكثر منه. نُحنّي لك كعوبنا بالشهوة وندللك بالغوايات، حتى إذا ما نزلنا نغمس أقدامنا المشبوقة في زرقتك الكامنة، تعتريك الرعشة الباهرة، فتصرخ فينا وتنهرنا موبخاً طيشنا النبيل. وتذّكرنا بأزواجنا الغائبين. وتأخذ في سرد أسماء رجالنا واحداً بعد الآخر في ترتيل من يكرز لرعية جاحدة. وتغرس اسمَ كل رجل بإبرة ناعمة في كتف امرأته. فتتصاعد صرخاتنا ضاجة بمرح الذبائح في شريطك الساحلي من رأس البر الى رأس الرمان.

يا بحرنا
بندماء نسيانك،
تلك نساؤك المتحذلقات. يطلقن تضرعاتهن في غربة الآبار العذبة. رجاة أن يكفَّ الوقتُ عن الحركة. وتواصل الشمس انتظارها في كبد السماء. وتنام كل امرأة في حلمها الساطع. ويتأخر الليل... ولا يأتي.

يا بحرنا
إن تنسنا،ضعنا بعيداً عنك.أنقذنا.
وأنت مدججٌ بالمستعان به من الذكرى
فكن أدرى
لقد طاش الجنون بنا
ونحن ندرّب الموتى على النسيان
ندفع خطوة ونؤجل الأخرى
فخذ يا بحرنا يدنا
مدلاةً كما يستنجد الغرقى
بموج الرحلة السكرى.*

"خولة"
من خطّ النخيل الى بيت البحر

عروس تخرج من نخيل "الخط"، في موكب مهيب، سعفٌ كثيف متوهج الخضرة يهتز ويرتعش في هوادجٍ مثل النهد في أوانه. يصح لمن يرى أن يظن بأن بستانا كاملا من النخل، بكامل هيئته اليانعة وأبهته الرصينة الحيية، يمشي خارج سكينة الإحساء الزاهية، تاركا سواد الصحراء متجها نحو حيوية البحر.
فيتصاعد ضجيج النسوة وتنهداتهن فيما يحسدن خولة على هذه الزفة المشتهاة.

قال عليّ لابنته البكر:
"يا خولة، تذهبين إلى رجلٍ في البحرين، يتزوجك، وتصيرين له كأنك تعرفينه، يكون لك الحضن الحنون والحصن المكنون، وتكونين له تاجاً يصقله بالعمل الصالح والذرية الحسنة، ويكون اسمه حمد.

وقبل أن ترتعش حمرة الخجل في وجنتيها، خطفتها أمها من بغتة التجربة، وأسلمتها إلى امرأة وضعت أدواتها في عريشة البيت، وبدأت ترسم لها وشماً من خضرة النخل تدقه لها في قندة الذقن، لئلا يقول عنها زوجها أنها جاءت من بيت أبيها عارية من الزينة.

أجلستها المرأة في فضاء حضنها الوثير ودقت لها الأخضر الطري في جوخة ذقنها الناصعة، وشماً سيعيش معها عمرا يتجاوز الثمانين، يزداد توهجا كلما تقدم بها العمر، دقته لها بالإبرة المحمية والإثمد الرهيف، كمن يمنحها تعويذة خضراء تحفظ لها ذكرى بساتين الإحساء برمتها.

فيما يتقدم بها هودج العرس يتقدم بها، كان ثمة شخصٌ شاهقٌ يخرج بدوره من القطيف، محترفاً تربية زراعة النخل وتربيتها، ليحط رحاله في صعيد البحرين، منحنياً منذ صباه على نخلةٍ ستنتظر سنوات طويلة لكي تعطي رطبها الأحمر الذي مثل العسل.

وحين تتقدم "خولة" بقدمها اليمنى، هابطة من هودجها البحري للمرة الأولى في ماء الجزيرة الصغيرة، سوف ينبثق ماءٌ عذبٌ من قاع المالح، فتطلق النساء زغاريدهن استبشاراً بالفأل الحسن:

- "لقد حصلتَ على امرأةٍ تمنح حياتك عذوبة هذا الماء الذي يتفجر تحت خطوتها الأولى في بيت البحر".

استدار الأب نحو ابنه يسرّه:
- "خذ امرأتك يا "حمد" إلى الدار، فهي الزوجة المباركة التي تملأ بيتنا بالخير والصلاح".

وعندما وقف الهودج بهديته أمام الدار كان حمد يضع كتفه بمحاذاة الهودج لكي تنساب خولة فيطير بها إلى الداخل. والجمع يطلق الزغاريد والتهاليل والأغاني سريعة الإيقاع بليغة المعاني.
دخل حمد بخولة في ليل الرابع عشر من ربيع الأول فأخرجا نسلا يملأ الأرض و البحر.

ساعتها كان "حسن القطيفي" يهدهد في كوخه الصغير طفلتين ناصعتي البياض قانيتي الخضرة. طفلتان تولدان في أعقاب طفل اسمه "جاسم"، يفقده غرقاً في عين الماء وهو في الثالثة من عمره، فيقسم ألا يأخذ أطفالاً معه الى البساتين يغفل عنهم فيغرقون.
ذهب إلى المنامة باحثاً عن مكان لطفلتيه اللتين قرر أن يعوضهما حرمانه من "جاسم" الذي مات في الماء.

( 2 )

جاءك "محمد" يا "حمد".
حمل الطفل الأول وركض به ليعمده في البحر الذي لم يكن بعيداً عن الدار. وعندما التفتت خولة لرؤية طفلها، قيل لها أن حمداً أخذه ليعلمه السباحة. فانتابها ضحك مزخرف بشهقات بكاء مباغت، لقد تذكرت وصية أمها ساعة الوداع قبل الزواج:
- "احذري من البحر، فأنت تذهبين إلى ماءٍ كثيرٍ، تذهبين إلى ماءٍ لا يطلع من بئر ولا يذهب إلى زرع، ماء كثير أكثر من بحر .. تذهبين إلى بحرين.

تذكرت كلمات أمها وغصت بكلماتها، خشية أن يكون لولدها البكر القدر الذي هجست به جدته. فهمست لزوجها في منتصف الليل:
- كيف تأخذ طفلاً في ساعته الأولى إلى البحر، هل جننت يا حمد؟

- تسمين هذا جنوناً؟! يجب أن يعرف منذ الآن أنه ذاهب إلى المياه الكثيرة. وأنه لن يستطيع مجابهة وحش الأرض ما لم يقدر على وحش البحر. لقد فقدتُ البيت الشمالي الشهر الماضي، ولا أقوى على المطالبة به، وإذا لم يستعد محمد ذلك البيت فسوف لن يعيش.

أدركت خولة حزن حمد الذي يغمر شجن الليل. وأدركت أيضا معنى فرصته العظيمة لكون طفله البكر جاء صبياً، فعلى الأبناء أن ينجدوا آباءهم حال يقدرون. وتمنت خولة لو أنها تمنح حمداً تسعة أولاد آخرين.

وكأن حمداً قد سمع أمنية "خولة"، فالتفت ينظر في عين زوجته: تسعةٌ .. لا يكفون.

ماءٌ يوقظ النهار

( 1 )

تحركت مقلتاه في جفنين مطبقين دون أن يفتح عينيه، مثل بطن المرأة حين يتحرك الجنين. تناهى إليه صوت اندفاق الماء من السِقاء في الجرة المنصوبة في مدخل البيت، لقد كان السَقّاء، كعادته، يعلن ابتداء النهار كل صباح. تريث قليلاً قبل أن يغادر ملاءة العتمة، لهذه الاندفاقة صوتٌ مميزٌ ذكّره هذه المرة بخفقة الهواء في جرة مغني (الفْجِري) عندما كان يرقبه ذات سهرة. نفس الصوت تقريباً، لماذا الماء والهواء في الجرة يصدران الصوت المندفق نفسه، مثل اختناقة البكاء في الشخص وهو يكبت حزناً ويطلقه في وقت واحد: "لو أجلبُ للبيت ماء من الحنينية".
فكر، ربما كان لماء الحنينية صوتٌ أكثر جمالاً وهو يندفق في جرة البيت. فتح عينيه بنشاط. كأن الخاطرة راقت له، فنهض كيقظة عاجلة. أطلّ على دهليز البيت، كان السقّاء يطوي قربته الفارغة تواً تحت إبطه، وتقرفصَ على الأرض يتناول حبة التمر من قصعة على الأرض ويلحقها بفنجان القهوة المرة، طعام كل صباح.
"بالخير يا صالح"،
التفت السقاء ليرى جاسم يحكم إزاره حول وسطه،
"بالخير جاسم. لا تتأخر عنهم سوف يغادرون حالاً".

( 2 )

بين نهايات الليل والفجر الباكر، تنطوي تحت وسادة جاسم أحلام مشوشة عن نهارٍ لا يكاد يبدأ حتى ينتهي، كل يوم لا تتاح له الفرصة لكي يتوقف بعض الوقت في طريقه إلى البحر، ويربت بيده على رأس شقيقه الرضيع الذي ولد منذ أيام. أطل على والدته في المطبخ،
"يجب أن أجلب لك ماء الحنينية يا أمي".
أصدرت الأم ضحكة صغيرة حاولت أن تكتمها.
هذا الفتى لن يكف عن ابتكار الأحلام، كل يوم يطلق لنا خياله ويربطنا به. وضع باطن كفّه على سطح الجرة ملامساً الرطوبة التي ينضحها الفخار الطريّ لتسري البرودة في مسامه، فيما كان يغرف الماء من الجرة ليشرب ويبلل وجهه بالباقي، ثم يعود يحملق في المغرفة ليتأكد أن هذا الماء لم يعد يروق له.
"أسرع يا جاسم ، والدك في انتظارك على السِيْف".
سمع والدته وهي تدفع بصينية التمر مع فنجان القهوة. استدار بعقبيه على الأرض الترابية فاصطدم إبهامه بحرفٍ ناشزٍ في عتبة الكوخ، ثمة خشبة تآكل الحبل الذي يزمّها فخرجت عن اتساقها الأزلي في البيت.
"لقد بدأ هذا البيت يعلن انزياحه عن السكون"،
حدَّث نفسه. هذا نهار يبدأ بماء مفقود و بيت يتحدث على هواه. انحنى يقبّل رأس أمه الجالسة في مدخل المطبخ مؤكداً:
"لابد أن تشربي من ذلك الماء الرائق قريباً".

لم تكن النساء تكفيه

كان يذهب إلى الطرق المقطوعة، لم يضع قدميه في طريق مكتملة أبدأً، يأخذ الآخرين إلى محطاتهم، وعندما يواصل سيره تضيق به المسافات وتتقطع به السبل.
وحين يسأله شخص: لماذا أنت دائما هكذا ضحية الطرق؟
يتلعثم ويشد قبضته على حبله، ثم يضلل السائل بأجوبة كثيرة لا تؤدي إلى شيء. يخجل أن يقول عما تفعله المرأة به في كل طريق يعبرها.
هذا هو العم المولع بالمرأة الفعالة.
يقدر الناظر لصورته من الوهلة الأولى أن يعرف الأمر:
"لم تكن النساء تكفيه".

كان يذرع الأرض، يحث نساءها على المتعة، ويختبر الخصب فيهن. كانت العاقر منهن تخشى الفضيحة في امتحانه. وهو لا يعبأ ولا يكترث بمن لا تعطي ثمراً.
كانت جدتي تسمع صريخ النساء في مخدع ابنها ليلة عرسه، فتتمتم متضاحكة بزهو من يثق في فحولة الابن وفشل النساء في مجاراة عنفوانه. كانت تقول لنساء الحي في فتوة أبنها: "لديّ حصان في البيت أعجز عن شكمه"
فهي بالكاد استطاعت أن تكبح جماحه حتى بلغ السادسة عشرة، وحين جربت إرساله إلى البحر مع أخيه، حكى لها البحارة أنهم كانوا يسمعون عواء ذئب مسعور على سطح المركب طوال الليل. وحين ينهض في الفجر يرمي بنفسه فراشه وأغطيته إلى البحر مباشرة لكي يغتسل قبل أن يلمح الآخرون أثار طوفانه الليلي الخارق.

حين تزوج للمرة الأولى بقي في غرفته أسبوعاً كاملاً لا يخرج أبدا، وكان المارة يسمعون عواءه المشبوق مختلطاً بنحيب عروسه يملآن ليل البيت ونهاره. وكانت جدتي تدفع لهما بأطباق الطعام من تحت عقب الباب، بانتظار رحيم لا يحسنه أحد غيرها، دون أن تسمح لأحد إزعاج تلك الحبسة المبجلة.
ويتداول البعض حكاية عنه لم تؤكدها والدته، وهي إنه بعد أن خرج من أسبوع العرس ذاك، سأل والدته ما إذا كان ممكنا للمرء أن يتزوج مرة ثانية في نفس الوقت.

لكن ما جرى بعد ذلك سوف يجعل هذه الحكاية بمثابة الحادثة غير المسبوقة. فقد تزوج خمس مرات من نساء مختلفات الطبيعة والجنسيات والأخلاط والأهواء.
بجانب ذلك فقد عرف نساء عديدات غير زوجاته، في علاقات حرة لم تكن مخفية عن الآخرين. بل أن بعض تلك العلاقات كانت شبه علنية في حياة ذلك الزمان.

ولعل بعض عائلات ذلك الزمان يرون في ذلك الضرب من العلاقات نشاطاً طبيعيا بالنسبة لشخص مثله، ليس بمقدوره الصبر عن النساء، خصوصاً في المسافة بين الزوجة والأخرى.

قيل أنه في إحدى رحلات الغوص طلب من ربان السفينة أن يعرج به على البصرة، التي سمع عن نسائها من بحارة آخرين، فلم يقدر على الصبر، ولم يتمكن أخوه من منعه عن ترك المركب والنزول في "فرضة" البصرة.
في البيت قامت قيامة زوجته عندما علمت عن نزوله البصرة، وفيما كانت الزوجة تنوح وتندب حظها، مخافة أن يتزوج عليها امرأة أخرى، كانت أمه تكتم ضحكتها وتتندر على الأمر. غير أن خشية الزوجة كانت جدية، فردتْ عليها أمه مازحة: " ليته يفعل، وتأتي امرأة أخرى تساعدك ما دمت دائمة الشكوى من أشغال المنزل".

عندما دخل الدار عائداً، وهاج الجميع يسألونه عن زوجته البصراوية الجديدة، استغرق في قهقهة ساخرة، وأعلن انه اكتفى بزواج المتعة هذه المرة لمدة أسبوع فقط.
ثم التفت إلى والدته قائلا: "لماذا لم يخبرني أحدٌ عن زواج المتعة هذا من قبل ؟".

كائنات ممر الطفولة

في الممر الضيق الموازي لجدار مسجد "بن شدّة" بالقرب من بيتنا الأول بالمحرق، كنت أرى شبحاً هائلا يعترض طريقي فيما أعود إلى الدار في الليل، شبح كائن يتأرجح بين البشر وطائر البلشون، سيقانه الرفيعة تبرق بألوانها القزحية، ورأسه يضاهي قمة السور من جانبي ممر المسجد.
شبح يتجاوز كتفاه حافة جدار المسجد ويسد وركاه الزقاق ويصدر عنه صوت هو بين النحيب والعواء والفحيح، فيما تتصاعد من جسده رائحة عطنة تفسد البصر لفرط سلطتها على المكان. صادفت ذلك الشبح كثيراً، ولا أتذكر تماماً ما يحدث لي بعد ذلك. كل ما أذكره أنني أصحو في الصباح والحمى تنتاب جسدي والعائلة تتناوب على ممارضتي من داء لا يجرى الكلام عنه أبداً.
رأيت ذلك الشبح مرات بعدد الليالي التي مررت بها في ذلك الممر. حتى أن والدي نصحني ذات مرة بأن أستخدم الطريق البعيدة للوصول إلى الدار تفادياً لذلك اللقاء. ولا أعرف حتى الآن ما إذا كان الآخرون يصدقون ما أرويه لهم عن الشبح أم أنهم يقبلون كلامي من باب هذيان الأطفال. غير أنني حين سألت جدتي مرة عن الأمر هزت كتفيها محاولة افتعال عدم الاهتمام قائلة: "هذا يحدث كثيراً، جميعنا يعرف تلك الطريق. الظلام الدامس في زقاق المسجد من شأنه أن يخيف الرجال، أبوك نفسه لا يجرؤ على المرور في تلك الطريق بعد منتصف الليل، ولا تنسى أن للمساجد من يحميها".
رأيت ذلك الشبح مرات جعلت منه قريناً جديراً بالحب حتى أصبح صديقاً لي. أجد نفسي منجذباً للمرور من ذلك الزقاق برغم التحذير الغامض. وقف لي ذات ليلة، فرأيت فيه كائناً أكثر شفافية من الضوء. وضع يده على جدار المسجد وفتح لي كوةً طلب مني أن أنظر منها. فنظرت، فإذا ببشر لا يحصون يعجُّ بهم المكان وهم يتحدثون جميعاً في آن واحد، دون أن يسمع بعضهم كلام الآخرين. ولا يكترث أحدهم بغيره، ودون أن يفهم أحدٌ مما يقال شيئاً.
عدت ببصري إلى الشبح الماثل، فإذا به يسند ظهره إلى الجدار وعلى وجهه، الذي ألمحه للمرة الأولى بهذا الوضوح، مسحة حزن وحيرة غريبين. وقبل أن أنطق بكلمة قال لي: "هذا هو الحال هناك. أنا لا أجد كائنا يتبادل معي الحديث أو يصغي إليّ. لذا فإنني أخرج كل ليلة أبحث عن بشري يسمعني وأسمع منه. وكلما صادفت شخصاً هرب مني في إغماءة تضعني في مأزق من لا يعرف كيف يتصرف في رغبة البوح. ها أنت رأيت ما الذي أهرب منه، فهل لك أن تتريث قليلاً قبل أن تسقط مغشياً عليك مثل كل مرة؟".

السيدة السمراء في "المحرق"
بزنديها الحانيتين

( 1 )

فجأة،
هكذا مثل برق،
رأيت تلك السيدة السمراء، قوية البنية، تحرس البوابة الكبيرة لمدرسة البنات الشمالية الواقعة في الشارع المقابل لنادي البحرين، المحاذي لمدرسة الهداية بالمحرق.
تلك السيدة ذات الشكيمة العالية تحاول، بزنديها الحانيتين، أن تصدّ جموع الطلبة المحتشدين أمام المدرسة يحاولون اقتحام البوابة لإخراج الطالبات كي يشاركن في التظاهر.. في أحد أيام ستينيات القرن الماضي.
يتزاحم الطلبة، بشعاراتهم المهتاجة، ضاغطين بالمناكب لفتح البوابة، غير أن السيدة ذات الهمة الواثقة، تصرخ فيهم أن يكفّوا عن ذلك، وأنها لن تسمح لهم أن يأخذوا بنات الناس إلى شوارع الفوضى العارمة.
سيدة تذود عن حياضها، معتبرة أن هؤلاء الطالبات بناتها وهي مسؤولة عن حمايتهن، تلك السيدة الساهرة على خدمة تلك المدرسة، بعد أن عجزت إدارة المدرسة برمتها عن معالجة ذلك الموقف، تولت هذه السيدة الصارمة أمر التصدي للفتية المتحمسين المتهورين الذي لا يقدرون خطورة ما يفعلون.

( 2 )

فجأة،
هكذا مثل البرق الخاطف،
حضرت هذه السيدة أمامي كأنها الآن.
خشية أن يسرق البعض تاريخنا الاجتماعي، في خضم التبديد الأخرق لتاريخنا السياسي، ستحضر هذه المرأة، بدرسها الجليّ، توقظ الذاكرة النائمة، هذه المرأة المألوفة في سياقها الوطني بلا ادعاء ولا فجاجة.

هكذا، فجأة،
سيذكر الكثيرون، هذه اللحظة، تلك المرأة،
وإذا اختلفوا، غفلةً، على تقدير دورها، آنذاك، ستحضر عندهم، مثلي، حيث أرى الآن ملامحها الغاضبة، وازورار عينها في أبنائها الطائشين، بلطف النساء الرصينات، غير المكترثات بغرور الشباب وثقتهم العاطلة. أراها وهي تعاركهم في فتحة ضفتي البوابة الكبيرة، بعباءتها الفالتة، ملتفة بثوبها الشعبيّ المزركش بألوان البحر، المزين بأثر قصب قديم لا يصدأ، غير عابئة بتصبّب العرق من رأسها على جسدها المتوتر بالذود عن فتيات بقينَ هناك، في ساحة المدرسة، وعند نوافذ حجرات الدراسة، مأسورات بما يحدث، مشتتات الذهن بين التوق لانفلات الفتية الغامض، والمشاعر الجياشة بأن ثمة سيدة يعرفنها جيداً، هي، في هذه اللحظة بالذات، أمهم جميعاً، أمهم الوحيدة التي لن تفرّط في حمايتهنَّ من شارعٍ بلا قياد، فيما يرون، في اللحظة ذاتها، نهراً هادراً يصخب بجانبهم ويغوي أكثر العقول رجاحة من أجل أن يغرقنَ في موجه الهادر. فتيات يرقبن عضلات تلك السيدة السمراء وهي تقدر على منع جيش الفتية الأغرار من اقتحام البوابة الخشبية العريضة ترتعش كأجنحة نورس مهيض، تكاد تنهار تحت وطأة ذلك الصراع غير المتكافئ. بوابة مدرسة هي النموذج الباهر لعرينٍ تحميه امرأة واحدة، كي تحفظ جيلاً غضاً من الكائنات المحروسة، في سبيل أن تختار طريقة خروجها بنفسها.

( 3 )

هكذا فجأة،
مثل برق الحدث الماثل،
أشعر بصهيل تلك السيدة النادرة، تذود عن بوابة مدرستها التي أصبحت حصنها الأول، ضد طيش شباب يريد أن يطلق جماح بنات المحرق، للمشاركة في المظاهرة، لأمر يحدث كلما طابَ لهم أن يفعلوا ذلك.
سيكون على الذاكرة أن تثبت قدرتها على مجاراة هذا البرق الخاطف، وعليها، خصوصاً، أن تمنحني طاقة الخيال لكي أتذكر كيف كانت امرأةٌ، نموذجٌ، قادرة أن تبتكر الوسائل لإعالة أطفالها المنذورين لفقرٍ عفيفٍ، يختصر شعباً برمته، عندما يتعلق الكلام عن نضال المرأة المكابرة بلا خطب ولا شعارات ومن عير ضجيج، وخصوصاً بكرامة ينبغي صونها الآن، ودائماً، لأبنائها، وأحفادها، لنصدق أننا نقرأ تاريخنا الاجتماعي، بدرجة عالية من الحضارة، ونتوقف عن الإمعان في التنكيل بروحنا الإنساني، في شعبٍ لا يزال يرزح تحت وطأة الوطن.

( 4 )

هكذا فجأة،
حضرت هذه المرأة،
مثل درسٍ متأخرٍ، يدركنا قبل أن يفوت الفوت.
أرى السيدة الوحيدة القوية تنتصر على جموع الطلبة بالصوت الصادق، ويغلبونها بالطيش المتفجر في صبر الفتيات النافد.

هكذا فجأة،
أشعر أن ثمة حكمة في امرأةٍ، من ستينيات البحرين، المحرقية المشتهاة، تحمي مدرسةً، هي بيتها الثاني، فأرى جيلاً كاملاً، بكل فئاته، يصوغ تاريخاً بهياً جديراً بمستقبلٍ، أكثرَ جمالاً مما آلَ إليه.. وسَلَّمْ.
هكذا، فجأة،
كأنَّ "أم إسماعيل" هنا .. الآن.
من يعرفها / من ينساها.

الشاعر

يكتب كما لو يجلس على صهوة حصان
تسمع صهيل نصوصه
ويطفر في وجهك صهده النازل
قدماه تخبّان في رمل
ورأسه منتعشٌ في الرماح
يتطوّح
والكلامُ يفيض ويتطاير ويشهق
يناديه غيمٌ
فلا يسمع،
رئتاه مشرعتان لصوت الأقاصي
ليس لاسمه حروفٌ ولا يفهم اللغة،
يكتب، وكعبه في خاصرة الخيل
فرسٌ تهشل به وتطير
وذراعاه ريشٌ شاهقٌ.

سميناه مثلما يأخذ النبيّ الحكمة
مثلما ينهر الماءُ وحشة الأرض
سميناه،
وأخذنا أخطاء الحقل لمأدبته.

كلما تقدمتْ به الخيلُ توغل في نصه،
وأفضى بنا إلى التيه
يضيع فيضئ بنا عتمة الكون
قناديله في سفرٍ وإقامة.

صوتٌ واهنٌ يسعى مثل نبيذٍ يؤرّخ.
مكتظاً بالمنح والهبات والهدايا
قرابينه في المذبح الغريب
له في كل نارٍ جمرةٌ ورماد
وعليه أن يخرج
دائماً عليه أن يخرج.

"ليلى فخرو"
لا نتذكرك لأننا لا ننساك

(الدولة هي أشد الوحوش بروداً)
نيتشه

(لا يستطيع المرء أن يكون متأكداً من أن هنالك شيئاً يعيش من أجله،
إلا إذا كان مستعداً للموت في سبيله)
تشي غيفارا

(لقد قلت لك، أيُّها الرئيس،
أنَّ كل ما يجري فوق هذه الأرض،
غير عادل، غير عادل، غير عادل.
وأنا، دودة الأرض، زوربا الحلزون،
لا أوافق على ذلك)
نيكوس كازانتزاكي

ليلى
يا صديقة أرواحنا،
الآن،
سأعود إلى مكتب "النديم" ولن أراك، لن أراك للمرة الأخيرة، وإلى الأبد. سيكون الجميع هناك ناقصاً، ناقصاً بشكل هائل. صديقاتك وأصدقاؤك هنا، يشعرون معي بالوحشة الرهيبة الآن، الآن فقط، على رغم غيابك الطويل عن المكتب بسبب المرض، لكنهم جميعاً كانوا يشعرون بأنك موجودة في الوقت والمكان، معهم، تمرين على مكاتبهم، تربتين بأصابعك النحيلة على أكتافهم الغضة الطرية وهي تشتد بوقوفك بجانبها، مثل أمّ وأكثر قليلاً من الصديقة.

يا صديقة أرواحنا،
سوف يدخل الصديق "عبيدلي" المكتب الآن، من دون أن يحمل للجميع وعداً، ولو طفيفاً، بأنك في سرير أحلامك، تهدينهم السلام، وأنك تستقرين هناك، فيما ينتظرون طلتك الحييّة عليهم. لن يضطر عبيدلي هذه المرة إلى المسارعة في إنجاز بعض مهماته في المكتب ليخرج عائداً إليك، تاركاً للكائنات الحميمة، التي احترفت انتظارك الافتراضي، لتصقل أمَـلَـها بكِ كلَ صباح. وسوف يصدَّني عبيدلي، بتبرمهِ الأزليّ من بؤس هندسة البشر الفانين لكونٍ معطوبٍ، كلما بادرته بالسؤال عنكِ وعن صحتكِ، تفادياً لرغبتنا المشتركة المكبوتة في الإجهاش ببكاء تاريخيِّ على لحظتك الغالية وهي تتسربُ من بين أيدينا، دون أن نقوى على فعل شيءٍ واحدٍ صغيرٍ يَـحوْلُ دون ذهابها، فنفقد، ببطء النصل، نموذجاً نادراً من المخلوقات : زوجة ورفيقة دربٍ له، وصديقة لي.

يا صديقة أرواحنا،
في هذه التفاصيل بالذات، التفاصيل الحميمة التي لا تضاهى، سوف يكمن الجمال الإنساني في مكانتك المميزة كريشة التاج التي تمنحينها لكل من يعرفك في سياق الحب والعمل. لذلك سوف أشعر بأن ثمة تفاصيل صغيرة دائماً، لا ينبغي العبور عليها في علاقتنا مع الناس، لئلا نفقد طبيعتنا الإنسانية، فيما نزعم انهماكنا في سعادة البشر. تفاصيل كنت تنسجينها، بعفوية ريشة الجناح، مع من يتصل ويعمل ويتقاطع معك، الأمر الذي سوف يمنحنا طاقة لتأمل أحوالنا في اللحظة الصاعقة التي هندسها القدر لمغادرتك الأخيرة، فنبدأ التأكد والثقة بأننا لا نحتاج لتذكرك، لأننا لا ننساك،
يا صديقة أرواحنا، التي ليست للنسيان.

يا صديقة أرواحنا
تغادرين، بالضبط، في اللحظة الدقيقة ذاتها التي سنحتاج فيها لدرسك المميز في الحياة، الدرس الذي يعرفه الكثيرون عنك، ويحجبه الكثيرون عن حياتنا.
الدرس المتمثل في وعيك العميق لمفهوم العمل كقيمة إنسانية راقية في حياة الإنسان. العمل بوصفه جذر الكيان الإنساني وجناحه في اللحظة نفسها.
ولكي نقرأ درسك بما يليق بتجربتنا وحاجة حياتنا المستمرة في تعثرها، لابد أن نرى الدرجة العالية من الحسم المبكر لتميز تجربتك، متمثلة في اختيارك الباهر لمشروع التعليم في مناطق الثورة البكر، وانهماكك الفذّ في تدريس أبجدية المعرفة لأطفالٍ يكتشفون الحياة في مكان شديد العتمة.
منذ تلك اللحظة، خصوصاً، سوف يبدأ التأسيس العميق لمعنى العمل الثوري في حياة الإنسان، حيث المعرفة هي السلوك الأقوى، والأبقى، والأجمل، في ذلك المشروع الحالم الذي، كلما فشلت عناصره ومكوناته وآلياته في مكان وزمان، يظل عنصر التعليم والمعرفة حجر السرّ الذي لا يُـنسى، مما يفسر فعلاً كيف أن الذين بدأوا معك ذلك المشروع لا يزالون لا ينسون، كلما نسوا، تلك المرأة التي رعتْ ريش أجنحتهم، فيما تعلمهم أبجديتهم الأولى، وتساعدهم على رسم حروف المستقبل وقراءتها.
ذلك هو درسك الأول، درسك الأهم الذي يضع المعرفة في مكانها الصحيح من حياة الإنسان، المعرفة التي هي حصان العمل وعربة المستقبل، وسوف تظل الفعل الثوري العابر للأيديولوجيا والسياسة والأحزاب والأنظمة، متغلباً على الهزائم، متصلاً بالأمل الكونيّ في الإنسان.

يا صديقة أرواحنا،
ذلك هو الدرس الجميل الذي يصدر عن وعي الإنسان بقوته في نقطة ضعفه الدائم. حتى أنه إذا ما هُـزمَ في كل الجهات، لن يُـهزم في مكان المعرفة والعلم، كلما تيسر له امتلاكهما.
هذا ما سوف يستمر في داخلك أيتها الصديقة بعد أن ينهزم مشروعنا الحالم في تغيير العالم، تلك الهزيمة التي عمل كل منا على تفاديها بطريقته الخاصة، كنتِ أنت من بين نادرين لم يتمكن العسف من هزيمتهم في داخل الروح، فقد كانت الروح محمية بفعل الثقة في المعرفة.
ثقة أن بذرة العلم أكثر عمقاً وتجذراً من جرافات العسف، وأن موهبة الأمل أكثر تشبثاً بطبيعة العمل.

يا صديقة أرواحنا،
حتى إذا ما استعدتِ حقك الصغير في عودتك لبيتك الأول، وحتى إذا اخترتِ مشروعاً شخصياً للسعي نحو تحقيق أحلام التغيير، لم تخطئي، وليس مصادفة، أن تختاري ما يتصل بتغيير الإنسان بوسائط المعرفة والتقنية،
التقنية ذاتها التي لا تزال معظم معارضتنا تقصُـرُ عن وعي دورها الحاسم في نضال اللحظة الجديدة، التقنية ذاتها التي تسعى مؤسسات العسف العام، هذه اللحظة بالضبط، بصلافة، لتوظيفها في تزييف إرادة الناس وتشويه اختياراتهم، التقنية ذاتها التي لا تزال مشروعاً مغيباً، أو محجوباً أو مصادراً، في أهم صروح العلم في بلادنا، حيث تنحدر أسمى المهمات المقدسة لحريات المعرفة، مختزلة في تلقين الكائن الجديد بالأصول الواجبة لحدود الحشمة في الملبس والمأكل والسلوك، إمعاناً في الاحتقار الفظّ لعقل البشر وطبيعتهم الإنسانية، كمن يريد أن يعلّم الجناح عادة الطيران، لتصبح صروح العلم ملحقاً بتقنية الماضي وأيديولوجية العتمة.

يا صديقة أرواحنا،
ليس مصادفة أن تنسجين مشروعاً يصدر عن التوق الجديد لأجيال بلادك، وتشاركينهم شهوة التحديق في مستقبلٍ هو دائماً ولا يزال مهدداً ومتعثراً وعرضة للعطالة، وتضعين روحك في شرفة أرواحهم، لكي تتأكدي وتؤكدي لنا بأن درس المعرفة هو الدرس الثوري بامتياز، هذا الدرس الذي لا تتخلى عنه روحك القوية والذي يجعل العدل والخير والجمال حلمنا الأبدي، متخطيا الوقت والزمان والأساليب، فالمستقبل هو من صناعة الأمل العامل.

يا صديقة أرواحنا،
أعرف أن في بيت وطنك الحميم نساءً كثيراتٍ مثلك، رفيقات لكِ، جئنَ معظمهنَّ من مصدرك، وذهبن مذهبك بالطرق الشتى، يواصلنَ سعيهنَّ الآن، بالقناعات الإنسانية ذاتها، والصدق ذاته والزهد ذاته وبالتضحيات الصامتة ذاتها، وهنَّ معكِ منذ الدرس والمكابدات، ولهنَّ، مثلك، المكانة نفسها التي تعرفين، فلستِ قادمة من الأساطير. بيتك، وطنك، تجربتك، نساءٌ تقاسمتِ معهنَّ العطاءَ والبذلَ في الغربة والوطن، نساء أعرف منهنَّ كثيرات كُـنّ دائماً في جهة قلبك فيما تنهمكين في غزل قمصان المستقبل في السفر والإقامة، وأدرك أن خسارتهنَّ الآن أكثر مني.
أعرف ذلك، وتعرفين.

وها أنك تحسنين هندسة ذهابك، لإطلاق الضوء الشاسع، مثلما فعلتِ بتفاصيل غيابك، في ظلامنا الفاجع.

فلماذا تذهبين الآن،
في اللحظة التي سنحتاج لدرسك، الصادق، الصارم، والصريح، في ذات اللحظة التي يمرّغ بعضنا أجملَ أحلامكِ في التضرع وتهرّء الجوخ وشطرنج الضمائر، فيما يواصلون مسخ الحلم وهو يتحدّر من لحم هيكلنا الإنساني تحت وطأة العسف والفساد وجلافة الجهل.
تذهبين عنا، في لحظة يتعثر وطنك في أكثر مشروعات مستقبله غموضاً وارتباكاً وعرضة للشِـراك والخداع والاستهتارات الفجّة بالتاريخ. وطنك الذي صغتِ، مع رفاق لك كثر، طبيعته الحضارية المتميزة، هو الآن في لحظة المسخ والتفسخ الكبيرة التي يهندسها له رعاةٌ يَـقْـصُـرونَ عن وعي عبقرية روحهِ التاريخي الحضاري الذي لا يقل سطوعاً عن الشمس.
تغادريننا، في الوقت ذاته، وربما في اليوم نفسه، بلا مصادفة ولا ارتجال، فيما تذهب معارضتنا، في أطرف أزماتها، متهتكة، مرتجفة، مثل هدفٍ متاحٍ.

المعارضة، بقضّها وقضيضها، تذهبُ، بلا صرامة، إلى مؤسسة، متوترة، منقضَّةً، مثل قوس، طارحةً عليها "سؤال" الأزمة، فيما ينبغي مجابهتها بـالـ "مساءلة" في شرفة الشمس.
المعارضة برمتها، متدافعة بالمناكب، تطرحُ على مؤسسة حكمٍ يصادرٍ سؤالَ: "ما العمل؟"، في غفلة الناس، ذاهبةً بملفٍ مكنونٍ في الإبط، تعرض قدرتها على تبريد الجحيم بمروحة المساومات واقتسام الهبات والأسلاب، كمن يريد أن يتدارك الفضيحة الشاملة وتفادي الخسارات الفادحة في الجانبين، فعلى أي رومٍ نَـميلُ ؟.

كل ذلك يا صديقة أرواحنا في نهار مغادرتك،
دون أن يتاح لنا تمييز الذهب الأصفر من الدم الأحمر، دون أن يتاح لنا تبين هذا الأمر من ذاك المؤتمر وتلك المؤامرة من حدود أمر الله فينا. ودون أن يتاح لنا معرفة من يشعل النار في السفينة، ومن الذي يهرب من حريقها، ودون أن يتاح لنا معرفة مَـنْ ينقذ مَنْ، دون أن يتاح لنا اكتشاف كيف يحسن البعض إطفاء النار بأغلى براميل النفط، من غير أن يكون في شبهة مَـنْ يفسد ملحاً فاسداً.

يا صديقة أرواحنا
تذهبين، بعد برهة كثيفة من سبات مرض طويل، زاهدة في (مكرمة) تفتح حفلة المساومات على آخرها، فتغادرين قبل أن يبدأ البازار القبيح في تبادل أنخاب الصمت عن جنازة وشيكة لمشروعٍ هزيلٍ، يسعى مهندسو الكوارث لأن يستكملوا به مثلنا الشعبي البليغ: "عرْس في ظرف ختان"، حيث تضمن المؤسسة حصتها التاريخية في ضمان الأرض بمن عليها وما تحتها، وينال الآخرون حصتهم في عار الإسهام في إبقاء الوضع كما هو عليه، حفاظاً على "روح" العائلة، تيمناً بـ "فرانكشتاين".
الآن، يتحتم علينا فعلاً أن نتبينَ من هو "العريس" المتوّج بالدست وحظ الأنثيين، ومن هو الذي تعرّض للختان التاريخي، مخصياً بثلجة الحديد، مبدياً قدرة الصبر والاحتمال والفطنة القليلة، ملتحقاً بالسلف الكالح بلا ذرية ولا خلف.

الآن، يتحتم أن نسأل:
من هو "لئلا نقول: ما هو" الشعب بالضبط.
تذهبين، يا صديقة أرواحنا بعد أن تسنى النجاح لخصوم حلمك الأثير في تبادل أنخاب "الحفل" الجماعي بين حلفاء النضال التاريخيين، في سبيل السعي الصادق والإخلاص الصارم، بمسؤولية التجربة المشتركة، لنضالٍ هو بالكاد يبدأ مرحلة اختباره الجديدة، في مجابهة "المحفل" الصلف، بوعي جديد ينهض من رماد الجهل متشبثاً بجمرة المعرفة، مؤمناً بجدارة هذا الشعب بحق النقد والنقض والكتابة والمحو، حقه في الجهر بعدم الإعجاب بما يعجب العالم قاطبة من مزاعم الصلح والإصلاح، متجاوزاً ومنتقلاً من عهد المكرمات إلى عصر الحقوق المكتسبة وتكريسها كحقوق ثابتة وليست كعطايا يتلاعب بها الواهب والموهوب.
لماذا يا صديقة أرواحنا تتركين لنا وحدنا حق عدم الإعجاب بهم وبمشروعاتهم،

يا صديقة أرواحنا
فيما تغادريننا، نريد أن نصقلَ بك ذاكرة بعضنا، هذه اللحظة بالذات، وهم يتعثرون في ارتباكاتهم منشغلين بخريطة طرقٍ مسدودة، بمعزل عن شعب، هو بشهادة التجربة، سوف يستحق دائماً، وبجدارة، أن يكون باب الطريق، وأن يكفَّ رعاتُه التاريخيون، عن إهانته واحتقاره، لمرةٍ واحدةٍ وإلى الأبد، وتركه لقدَره الحضاري، منتقلاً، باستحقاق يليق، من حظيرة الرعية المنتَـهـكة، إلى شرفة المواطنة الرحبة المتساوية الحقوق والواجبات، حرة في الحلم واليقظة.

يا صديقة أرواحنا
نريد أن نودعك بأجمل مما استقبلك به وطنك ذاتَ يوم، يومٌ غفل عنه كثيرون هنا، فيما لا ينساه الكثيرون في كل مكان، حيث الأمل والعمل لا جنسية لهما غير الحب، نريد أن نمنحك أوسمة أحبابك، بالطريقة التي تجعلك وردة كأسنا، في اللحظة التي نصلّي، يا صديقة أرواحنا، رجاة أن لا تحملي معك أثراً لما يفعله بنا الأهلُ هنا من تنكيلٍ بأجمل أحلامنا التي نسجناها في هزيعٍ أخيرٍ من عمرٍ يوشكُ أن يفنى.

نريد لك يا صديقة أرواحنا
أن تذهبي راضية مرضية، مطمئنة بأننا لا نريد منهم شيئا، مطمئنينَ بأنكِ لم تأخذي منهم شيئاً،
ولا هم نالوا منكِ غيرَ ما تنالُ الطبيعةُ من عطرِ الزهرةِ في حديقة الله،
يا صديقة أرواحنا
تذهبين عنا، خسارةً لنا ومكسباً للجنة.

"هشام الشهابي"
قُـلْ شكراً لنفسك

1

عندما يأتي دوري، لن يجد الموت شيئا يناله،
فقد تيسر له أن يفعل ذلك تدريجيا،
إنه ينال مني فيما يأخذ أصدقائي يوما بعد يوم.

2

لن يتصل بي أحد بعد الآن، لكي يخبرني أنه في مسافة الطريق إلى بيتي، مثلما تفعل دائماً مع أصدقائك، حيث لم تغب عنهم،
ولن تغيب .. عنهم.

3

كنت تقول عن الكفاية والعدل الممكنين في بلاد صغيرة الى هذا الحد.
هل رأيت، فيما تذهب، كيف أن شعباً كاملا أصبحت تدار حياته الضرورية بالتبرعات والمكرمات والأعمال الخيرية؟
الآن،
سنعرف معك، متأخرين عنك، حيث لا يعرفون،
أن الدولة ليست سلطة المنع، ولا سلطة الحجب،
ولكنها شرفة الكرامة والرفاه،
غير أنهم، ليسوا في وارد هذا الشأن.

4

مثل خليّة العمل من أجل المستقبل، لا ألتفت إلا لكي أراك حاضراً.
تعرف الطريق،
تذهب إليه، بصمت،
... وحدك أحياناً.

5

لا يرتفع صوتك في الحوار،
كنت تريد إثبات: أن الحقيقة لا تحتاج صراخاً لكي تكون كذلك.

6

أذكر الآن،
حين كنا نسير معاً في أزقة المحرق، كنت تنسى مهماتك السياسية وتتحدث عن المكان القديم الذي لا يضيره ذلك إذا تيسرت له فرص التقدم، حيث التاريخ ليس نقيضاً لطريق الحياة الجديدة.
أسالك، فتقول: "لا تناقض في هذا، الهندسة البشرية يمكن أن تحقق ذلك، دون المساس بالمعمار".
أذكر الآن،
كنت تقول أن "ابن خلدون" لم يفعل سوى اقتراحات مبكرة، لا تزال تحتاج لقراءتها على ضوء حياتنا، وليس تفسير حياتنا بها.

7

تطلق بأسلوبك الرصين،
تلك السخرية التي لا تتوقف أمام الأشخاص والسطوح، بل تذهب الى الجوهر مباشرة. كنت تشير إلى ظاهرة أن يكون المرء جسداً بشرياً مكتملا تقريباً لكنه بدون آذان. لكي تقول أن أحداً لا يسمع أحداً في مجمل حياتنا،
منذ ستينات الأمل حتى اليوم.
فكيف يتحقق حوارٌ بلا حاسة السمع؟
آه،
ما أكثر الألسنة.
والأفواه الجائعة.. للكلام وغيره.

8

حسّك الاجتماعي هو أحد ملامحك الإنسانية، حتى أنني أكاد أرى فيه البديل المستمر الدائم، عندما تخفق الوسائط السياسية، التي لا تتوقف عن الفشل.

9

حتى عندما يهرول رفاقك، تتوقف قليلاً، مفترضاً أنهم سوف يغفلون عن شيء تتريث للاكتراث به. وفي العمق لستَ في عجلة من أمرك. فالمرء لا يستطيع أن يحقق أمراً بمجرد الإسراع إليه.

10

في "نادي الخليج"، بمحرق الستينات، كنت تدرب جسدك لمهمات غامضة، نحن مشغولون بإعداد جريدة الحائط، وأنت تفرش منشفتك الصغيرة على الشريط الخشبي، وتأخذ في رفع أثقال مختلفة.
ثمة عبء تتدرب مستعداً لحمله. تتدرب بأدوات قليلة، بسيطة.
في سجن جزيرة "جده"، كانت نفس الأدوات البسيطة: منشفة صغيرة، وخشبة مستطيلة، وأحجار منحوتة، أعدت للرياضة.
طوال السنوات، كنت أكثرنا عناية بلياقتك الجسدية، وأكثرنا حرصاً على شروطك الصحية.
أنظر الآن ماذا يحدث لنا معك.
موتٌ، كأنه القتل الصراح.

11

تتذرع بالسياسة، وتقول شيئا عن ثقافة المجتمع،
تذرع "المحرق" بحجة الرياضة، فيما تجسّ أوردة المدينة القديمة، كمن يسهر على إعداد هندسة جديدة لمكانٍ يكاد أن يتلاشى لفرط الوهن.
عندما التقينا، ثانية، في أوائل السبعينات، لم أكد متيقناً أنك الشخص نفسه الذي كان يعني بصحة البدن، قليل الكلام، خفيض الصوت، وضحكة مجلجلة، مثل أجراس كنيسة في واد سحيق.
كنا نتلاطم بنقائضنا وأحلامنا، في مشهدٍ بالغ الغموض، ليس على من يراقبنا فحسب، ولكنه غامض ومجهول بالنسبة لنا أيضا.
شعورٌ، كان يفقدني التقدير ما إذا كنا بشراً أم أطيافاً تجوب طرقات الخيال.

12

في سجن جزيرة "جده"، في غمرة احتدام نقاش عقيم يندر مصادفته في أكثر العروض العبثية طرافة، بادرتَ بسخريتك الباهرة، ودعوت لاجتماع "الجحلة" -"زير الماء المصنوع من الفخار"-، لكي تقول لنا بالدرجة الأولى: "أنظروا ها نحن مثقفو النضال مختلفون على : كيف ومن يهتم بأداء واجبه التافه في معتقل سياسي، إلى درجة أننا احتجنا لاجتماعٍ من أجل تنظيم كيفية تنظيف الإناء الذي نشرب منه الماء". ثم أعلنتَ "حسناً أريد فقط أن أخبركم إنني سوف أقوم شخصياً بهذا العمل يومياً. شكرا".
وإمعاناً في التنكيل بالجميع، سميتَ ذلك الحدث (إجتماع الجحلة)، كمن يسخر من مستقبلٍ، تتخبط فيه، الآن، معظم تلك المخلوقات، حيث تتفاقم اجتماعات "الجحال" الكثيرة،
"جحال" لا تروي ولا تتورع.

13

تتحرك في هامش العمل،
لكنك تنجزه بإتقان أكثر ممن يقودون ضجيجه.

14

تقول:
"حسناً، نحن نختلف مع ذلك الشخص، لكننا لم نسمع وجهة نظره بعد، ما الذي يمنع من الجلوس إليه لمعرفة رأيه. أنه على كل حال لن ينهشنا، وليست لديه مخالب، ولا يقدر على فرض ما يريد. انه مجرد صاحب رأي مختلف معنا، وليس مختلف ضدنا".
تقول ذلك لكائنات صماء.
فتسمع صدى صوتك الخافت هذا في وادٍ ليس ذي زرع .

15

بالنسبة لك،
الهندسة ليست فكرة، كنت تتحرك في تلك الخطوط التي تبدأ من النقطة، وتأخذ أشكال المثلثات والدوائر والمربعات والمستطيلات، وكان بمقدورك التفريق بين الأشكال والإشكال.
الهندسة هي طريقة نظر وطريقة حياة أيضاً.
الهندسة، حيث العلم والمعرفة، وقيمة الإنسان ومواهبه وطاقاته وحاجاته.
هل كانت الهندسة تسعفك لابتكار الطرق العديدة للذهاب؟
لكن،
هل ثمة خيارات لطرق كثيرة أمامك؟
ليتنا ندرك حرية الخيار لطرق عديدة،
وننال حرية انتخابها.

16

مروحة صداقاتك رحيمة ورحبة، وعابرة المستويات،
الرصين صديق لك، ولك قدرة على صداقة الخفيف،
حين أسالك، تقول: "الرصين أزدادُ خبرة وثقلا به، والخفيف أمنحه فرصة للثقل لئلا تجرفه الريح".
مرة، علقتَ على رأفتك بالخفيف منهم ساخراً: "إذا لم نرفق به سوف يؤذي نفسه بالحماقات المتواصلة، دعه قريباً منك لكي لا يلقي بنفسه في اقرب "نقعة" ظناً أنها بحيرة لوزان".

17

حزنك ليس لأن فلاناً لا يفهم، بل لأنه لا يريد أن يفعل ذلك.
تقول: "هذه ليست مشكلته، إنها مشكلتنا، لأننا لا نزال ننتظر منه ذلك".

18

الدماثة التي كنتَ تجول بها في الحياة اليومية، كانت ستحتاج سنوات ضوئية لتحسين أداء العلاقات الحوارية في المؤسسة والسياقات الديمقراطية التي تزعم ذلك.

19

الآن،
سوف يكون قد فات الأوان،
فالوقت هو القيمة التي كنت تقيس بها حركة حياتك.
وهي بالذات القيمة التي يتأخر كثيرون عن الاكتراث بها.

20

جئت في وقتك.
ذهبت في وقتهم.

21

لا نشكرك على شيء،
كنت تفعل ما تؤمن به، وما تحلم به، وما تحبه.
قل شكراً لنفسك،
فليس بيدنا أن تغادر بأحلام مغدورة.

22

لكن،
على وجه التحديد،
ماذا يريد هذا الموت منا ؟

"أحمد الشملان"
التجربة في سياقهـا الإنسـاني

1

ربما كان كتاب السيدة فوزية مطر «أحمد الشملان، سيرة مناضل وتاريخ وطن (1024 صفحة)، هو الجهد الفردي المميز، حتى الآن، في حقل التسجيل الميداني لتاريخ النضال السياسي في البحرين، فقد بذلت فوزية مطر، وحدها، السنوات الأربع الأخيرة في إنجاز مشروع على قدر كبير من الصعوبة. ويحق لنا الشعور بامتنان صادق إزاء جهدها النادر، ونحن نقرأ تاريخاً قريباً يستعاد بأسلوب وثائقي طريف وفذ، تاريخاً منظوراً إليه من وجهات نظر عدة، تختلف على أشياء كثيرة لتتفق على شخصية الكتاب موضوع البحث، وهو أحمد الشملان بتجربته النضالية في سياقها الوطني الإنساني الرحب. لكي نتعرف على ما يمكن اعتبارها الخميرة النوعية لما يفترض أننا "نتمرّغ" الآن في معطياته "الديمقراطية"، التي يجري تداول مفرداتها، كما لو أنها من مكرمات الساحر، مغفولاً عن القدر الأكبر من التضحيات العظيمة التي بذلتها الأجيال الحديثة طيلة القرن العشرين الماضي. أقول "ربما"، لكي أشير إلى مساع عدة، فردية، جماعية، مؤسساتية أعلنت، حسب علمنا، عن نيتها كتابة تاريخ الحركة السياسية، منذ سنوات، وهي لاتزال تتعثر في رفوف وإدراج وأذهان أصحابها، لا تتحقق لأسباب مختلفة. لتأتي فوزية مطر، وبدوافع الحسّ التاريخي، متداخلاً مع رغبة أداء التحية الشخصية الحميمة لأحمد الشملان، فتلقي ضوءاً بالغ السطوع، سبراً وجرأة وإنصافاً، على مرحلة تاريخية غنية ومتنوعة من تجربة قدمت فيها القوى الشعبية ما لا يحصى من التضحيات، في سبيل ما يمكن وصفه بتحقيق حلم التحولات الاجتماعية والسياسية في هذه المنطقة الأصغر من العالم.

2

قد أحسنت المؤلفة صنعاً بتمهيدها بمقدمة تاريخية جزلة عن عائلة صاحب السيرة، حيث تعرفنا، للمرة الأولى، على بعض المعلومات التاريخية لعائلة الشملان، ليس بوصفها حضناً لعدد مهم من الشخصيات النضالية التي ساهمت بقوة في التاريخ السياسي في البحرين، ولكن أيضاً لأن هذه العائلة كانت شريكاً مؤسساً لنشوء البحرين الحديثة بشكل من الأشكال، اجتماعياً، علمياً، وحضارياً.

كما أن التقسيم الذي اتبعته المؤلفة في فصول الكتاب موفق من الناحية التقنية، ودليل لمنهج متماسك اشتغلت على هديه المؤلفة، وبالتالي سيكون هو سلس وممتع بالنسبة إلى القارئ الذي سيشعر بالترابط الأليف وهو يبحر في مئات الصفحات المكتنزة بالمعلومات، المشاعر، والاحتدام الإنساني. والتقسيم نفسه أيضاً، كان قميناً بتوفير السياقات الدقيقة لرصد الدور الغني والبالغ التنوع الذي بذله أحمد الشملان في شتى مراحل نضاله. وعندما أسهبت المؤلفة في ثنايا بعض الفصول، إنما لتشبع البعد التاريخي لهذا الحدث أو ذاك، وظني أن في معظم هذه الاستطرادات جاء الكتاب موفقاً في إلقاء ضوء وتناول جديدين على بعض التجارب الملتبسة، التي ستحتاج المزيد من البحث والتقصي والدراسة من قبل الآخرين، يظل لفوزية مطر فضل التوقف الرصين عندها.

الجدير بالتفات القارئ أن بناء الكتاب بمجمله كان بناءً حيوياً، بذكاء من يدرك طبيعة المادة التاريخية الخام التي بين يديه، ويحسن نسجها وتقميشها، ثم إعادة خلقها بين الفصل والآخر، لكي تسهم، من زوايا مختلفة وفي مرات مختلفة، في إضاءة الوقائع. وبهذا تكون فوزية مطر قد وضعت التجربة الفردية، الذاتية، الشخصية، تحت إضاءات مختلفة لإنارة تجربة أكثر شمولاً، عمومية، واتساعاً. وفي هذا العمل ضرب من "الوعي العادل"، إذا صح التعبير، في النظر إلى التاريخ العام، من دون التقليل من أدوار الأفراد الذين ساهموا في صياغته. كل ذلك بأسلوب يفيض عاطفة وحميمية.

3

يتوجب أن نشير إلى تلك المشاهد الحميمة الفياضة بالعاطفة التي ميزت بعض المواقف في سرد الكاتبة، ليس فقط في معرض كلامها عن التجربة الشخصية في علاقتها بصاحب السيرة باعتباره حبيباً، رفيقاً، وزوجاً، فهذا من بين أهم وأسمى

ما تستدعيه طبيعة هذا المؤَلف، ولكن ستتجلى العاطفة الفياضة والصادقة عندما يأتي الكلام عن التجارب الإنسانية التي تنشأ في تلافيف العمل النضالي والحزبي، حيث نكتشف العمق الإنساني الحميم الذي يتفجر، بأشكال مختلفة النوع والدرجة، بين رفاق ورفيقات يجدون كياناتهم الحقيقية في مثل هذه اللحظات الذي تشكل المعطى الكوني للنضال.
ومن يعرف المؤلفة سيثق بأنها كانت على سجيتها الخالصة وهي تصوغ جملها برهافة ورفق حنونين، معبرة عن اكتشافها في تجربة أحمد الشملان النموذج الجميل لما يمكن أن يتكرر في صيغ وتفاصيل لا تحصى بين المئات من الأشخاص وهم يخوضون نضالاتهم، سعياً لصنع العدل والخير والجمال لشعبهم ووطنهم. والحق أنني شعرت بالكثير من أنامل أشخاص أعرفهم جيداً، قدمهم الكتاب بحنانٍ بالغ، وهم يشتركون مع فوزية مطر وأحمد الشملان، بمختلف مراحل تجاربهما، لنسج تلك الملامح والمشاعر في علاقات تصقل الروح الإنسانية الأكثر جمالاً وبقاء في النشاط السياسي والأيديولوجي كافة.

4

من بين معاني الإنصاف التي أعنيها - في غمرة ما يطلع علينا به كثيرون في منشورات رائجة الآن في سنوات "السهل المنبسط الراهن"، يستعرضون تجاربهم بأنفسهم وعن ذواتهم بضعف وبؤس يستدران الشفقة - أعني إنصاف التجارب الصامتة، وليس مثل الصمت الأخير لأحمد الشملان نموذجاً صارخ الدلالة، والمسكوت عنها، من دون أن يكون السكوت ذهباً هذه المرة. وهو إنصاف يليق بأحمد الشملان الذي اجتاز الدرس الأكثر ضراوة في تجربته النضالية، من دون أن يعلن عن ذلك ومن دون أن يباهي أيضاً. وظني أنه الآن سيطمئن قرير العين والقلب وهو يرى تجربته ماثلة في تدوين شامل وصادق مثلما صنعت زوجته "أم خالد"، وبشهادة الرفاق الأمناء على التجربة.

5

يُذكر أيضاً أن الكتاب يقدم لنا أحمد الشملان منذ طفولته، وهي طفولة تشبه طفولة الآلاف من أجيالنا، لكنها ستأخذ مسارات تختلف عن الكثير من مسارات الآخرين، ومن دون أن تشبهها مآلات الكثير من سير المناضلين المعاصرين له. وهنا بالضبط ما ينبغي أن نتوقف لكي نتلمس التجاعيد والتفاصيل الإنسانية الحميمة التي ستميز حياة أحمد الشملان، حيث سيشهد كل من عايشه عن كثب، بأن ملامح خاصة ستجعله شخصية على قدر كبير من الرهافة والشفافية، ربما لا تشي بها طبيعته وظاهره الصارمين لأول وهلة. وسيرصد الكتاب مسيرته في مناطق عدة من الوطن العربي، عبر مرحلة الدراسة والمرحلة الظفارية في عمان، منذ حركة القوميين العرب حتى جبهة التحرير مروراً بتجربته الأهم في الحركة الثورية والجبهة الشعبية. ثم العمل العلني في تسعينات القرن الماضي وبداية القرن الجديد مع ما عرف بلجنة العريضة.

6

في كتاب فوزية مطر، سنتعرف على أهم المفاصل المعاصرة لتحولات النضال السياسي من خلال الجبهتين الأبرز في حقل العمل السياسي، في فترات العنفوان والإخفاقات الشاملة لنضالهما، بقدر كبير من السرد الرصين. وباللغة الخالية من الركاكة، فكراً وتعبيراً. وسنعرف أحمد الشملان مناضلاً من خلال شهادات رفاقه في مسيرة الخمسين سنة الأخيرة. هو الذي امتحن النضال في الحركتين "الجبهة الشعبية وجبهة التحرير"، ليعيش فترات الانتعاش والإحباط، من دون أن يستسلم، ومن دون أن يكفّ عن التشبث بما يؤمن، وهو الذي نال ما لا يقاس من العذابات، ليس أقلها الإصابة العنيفة بجلطة الدماغ التي يقاومها ببسالة نادرة. تلك هي طبيعة أحمد الشملان الإنسانية، صرامة الشخصية، مهابة السمت، رهافة الروح، والإصرار على المواقف. وليس من غير دلالة أن يكون "حازم العاصي" هو الاسم المستعار الذي اختاره أحمد الشملان في إحدى مراحل كتابته النضالية.

7

وإذا جاز لنا تحية السيدة فوزية مطر على هذا الإنجاز الحيوي، جديد الشكل والمضمون في باب التأليف السياسي عندنا، سوف نقصر عن التعبير عن شعورنا العميق بالتقدير لها وهي تجعلنا نقرأ تاريخاً مازال ماثلاً، أخذنا منه الدروس في عنفوانه، ونتحمل مسؤولية تاريخية في الفشل والإخفاقات التي كنا جزءاً منها، ونؤكد أن في الكتاب، بالقدر الكبير من المعلومات والشهادات التي قدمها، مزجاُ سلساً بين التجربة الفردية لأحمد الشملان ومفاصل المشاهد المتتابعة من تجارب منظمتيّ النضال التي اجتاز الشملان لحظات الأمل واليأس فيهما، لكي يعطينا الكتاب، في نهاية الأمر، جرعة قوية من وعي ضرورة قراءة التاريخ، ليس فقط للذين يباهون بالماضي، لكن خصوصاً لمن يزعمون صناعة المستقبل وتاريخه. فعلى أية حال مَنْ لا يتقن قراءة التاريخ لن يحسن كتابته.
وحتى إذا اختلف البعض مع جانب من رؤى ومنهجيات الكتاب، فسيكون هذا دليل عافية معرفية، من شأنها أن تغني إنعاش عضلات الأمل في الفكر والعمل.

ويحسب لفوزية مطر، التي وضعت كل خبرتها العلمية والعملية في تحقيق هذا الكتاب، أنها تصدر في كتابها عن وعي بخطورة ما تفعل. وهي، في صنيعها المميز، كانت تتحرك بدرجة الحذر القصوى، بلا إفراط ولا تفريط، لتكمن أهمية كتابها خصوصاً في كونه لا يزعم أنه يقدم الحقيقة كاملة في حقل بحثه، حتى لكأننا نلاحظ أحياناً أن هناك وجوهاً لحقيقة واحدة بعدد الشهادات، ففي ثنايا مثل هذه البحوث ستبدو لنا حقائق كثيرة غير مكتملة، ومتقاطعة مع معظم المسارد والشهادات التي تظل إسهاماً فردياً في موضوع جماعي. ولعل ما يشوب بعض تلك الشهادات التماهي بين آليات التسجيل في دور الشهادة التوثيقي، فيختلط على بعضهم الفرق بين الشهود والقضاة. فحين يرتفع حماس الشاهد سرعان ما يتقمص دور القاضي، قصداً أو عفواً، الأمر الذي سيدفع المؤلفة لتبدأ عملها الرصين بوضع الشهادة في سياق آخر يمنحها قدراً من المصداقية. والحق أن الجهد الذي بذلته الكاتبة في تسجيل وتفريغ وصوغ الشهادات، ثم إعادة بنائها، هو جهدٌ منح أكثر الشهادات خفّة وجهاً قادراً على بذل المعلومة في مكانها الصحيح. ليشكل الكتاب، في نهاية التحليل، أحد أهم اللبنات التأسيسية في مجاله. ليحق لنا القول أننا لم نتعرف في الكتاب على سيرة أحمد الشملان فحسب، ولكننا أبحرنا في سياقات نضالية شاملة وقراءة ملامح متفاوتة من تجربته.

8

وإذا طابَ للبعض، ممن شهدوا، بكلامهم، في الكتاب، أن يبالغوا، بشيئ من الحماس، في إظهار بطولات شخصية، فإن هذا سيكون دائماً من باب لزوم ما لا يلزم، لكننا نتفهمه ونستوعبه، ما دام سيسهم في إيقاظ ذاكرة الآخرين، لاستعادة الأحداث ووضعها في السياقات المناسبة بين وقت وآخر. فيجوز للبعض أن يكون موجوداً إذا تعلق الأمر بتأكيد أدوار الآخرين، خصوصاً عندما لا يزال هؤلاء أحياء يشهدون.
فالتاريخ، حتى عندما يسهم في صناعته الأفراد، ليس ملكاً شخصياً لأحد، لكنه مسؤولية حضارية للجميع. والملامح التي يقدمها كتاب فوزية مطر عن تجربة أحمد الشملان في تاريخ وطنه، هي بمثابة ضوء القناديل الصارمة التي تساعدنا على الثقة بأن ثمة تاريخاً مازال ماثلاً يتوجب عدم تغييبه، وعدم ترك غيرنا يتجاوزه، والأهم، ضرورة تدريب الذاكرة على استحضاره بوصفه دروساً للسجال الفكري، وليس باعتباره طوطماً محصناً لا يأتيه الباطل من أي مكان، ولا هو أوسمة للمباهاة.
واستطراداً، يمكن القول بأن مثل هذه الالتفاتات الشعبية العميقة والرصينة والصادقة، هي نموذجٌ مدهشٌ للعدالة والإنصاف، تحمي تاريخ النضال من مثالب المساعي الخائبة لتعويض الضحايا "المستمرة" للعنف والعسف من أية جهة كانت.

9

المفاجأة الأدبية التي أسعدتني شخصياً، تمثلت في الأسلوب الطيع السلس الذي كتبت به فوزية مطر فصول كتابها، حيث جاءت لغة الكتاب في أسلوبٍ أدبيّ تميز بالجزالة والرصانة وقوة الجملة وبساطتها في آن، حيث استطاعت فوزية أن تتفادى الثرثرة والمبالغات في متن كتابها، تلك المبالغات الحماسية التي ربما شابت بعض شهادات الكتاب، والتي كانت المؤلفة مضطرة لنشرها تمسكاً بأمانة الوثيقة، غير أننا نتفهم مثل هذه المبالغات الشخصية في بعض تلك الشهادات، عندما نعرف السياقات السياسية التي تشكل الخلفيات الواقعية لأصحاب هذه الشهادات، فمن حق كل شخص أن يبوح بكوامنه المكبوتة، رجاة أن يبلور هذا فهمه للتجربة، من دون أن يغفل عن محاذير التداخل الرهيف بين حدود تاريخه الشخصي وتخوم التاريخ الجماعي الذي يتعلق بتجربة متصلة بعشرات ومئات الشركاء في هذه التجربة أو تلك.

10

من بين ما يظهره الكتاب، أيضاً، عبر السرد والشهادات، تلك التضحيات الدورية التي كانت القوى الوطنية تقدمها بين حقبة وأخرى، في سبيل وضع الشمس في ليل الوطن، وإن كان كثير من هذه التجارب يتوالى بقدر نادر من استخلاص الدروس، غير أن هذا لم يكن يقلل من صدق وإخلاص الأجيال وهي تتقدم نحو ذلك الأفق، بكثير من الأخطاء، لكن بقدر كبير من الوعي بطبيعة النضال سعياً نحو المجتمع الحديث، في واقع شديد التخلف والتعقيد.
كما ستتجلى في هذا المشهد كيف أن سلطة بهذه الضراوة كانت على استعداد "دوريٌّ" أيضاً للفتك والتنكيل بزهرة الشباب بذريعة حماية الأمن في مواجهة شعب أعزل. وفي هذا يكمن أخطر ما يقترح علينا تأمله هذا الكتاب.

11

هذا كتاب سيكون مهماً لمختلف فئات القراء، وتنوع منازعهم، في حقول السياسة والتاريخ والاجتماع والثقافة، وخصوصاً دراسة الكائن في التجربة الإنسانية: النظر والممارسة.

وبطبيعة الحال هو كتابٌ قد يفزع من أوشكتْ ذاكرتهم على العطب، أو الذين يرغبون في المحو والنسيان. المنهمكون الجدد في الشاغل السياسي، الجادون منهم خصوصاً، وهم يصوغون رؤاهم الجديدة للراهن والمستقبل، سوف تعني لهم وتهمهم قراءة هذا الكتاب كثيراً، لمعرفة تجربة أحمد الشملان وجيله، على أن يأخذوا الدرس من دون نفي الأستاذ.

12

كنتُ من بين الذين حالفهم الحظ في قراءة الكتاب مبكراً، شاكراً للصديقة، فوزية مطر، عنايتها الكريمة، وكنت عن كثبٍ من دأبها النادر، وهي تسهر على تحقيق ما عجزتْ، أو تأخرتْ، عنه المؤسسات والجمعيات والقوى السياسية ومراكز الدراسات الراهنة، حيث كان حرياً أن نعتني بدراسة وتأمل هذه التجارب، واستنباط دروس الضرورة التاريخية: من أجل تعدد الرؤية ووحدة النضال، بدل الانشغال بما يهمش التجارب ويضعف السعي ويكبح الأحلام وينعش الوهم.

أول البحر

- لن يقبل "النوخذه" دخولك معه الغوص إلا إذا كان أخوك صالح معك على نفس المركب.
- لكنه لم يزل فتيا يا أبي.
- إنهم يعرفون ذلك، وهذا ما يرغبون فيه، مادمت أنت ستكون مسئولا عنه، فوق المركب أو تحت الماء.
- ماذا تعني يا أبي
- ستكون "سيباً" على صالح، بيدك الحبل الذي ستنقذه به أو تشنقه بغفلة واحدة منك. هذا هو النظام الآن، فإذا مات أخوك يكون قد مات على يدي أخيه. هل فهمت.
- ولكن يا أبي ..
- لا مفر، فإذا هو بقي هنا سيموت جوعا معنا على أية حال.

***

كان صالح يتفلت من حضن أمه التي تمسك بتلابيه، فيما يسمعان كلام الأب مع الأخ الأكبر. وحين تأكد صالح من النهاية الايجابية لحديثهما، هدأ، كمن تيقن أن الأمر بات مفروغا منه. وركض تاركاً الدار ليقف أمام البحر.
كان يقف هناك كمن ينتظر اللحظة المناسبة لركوب السفينة.
لم يكن يفوت فرصة ليهزأ فيها من شقيقه الذي دخل الغوص مرتين حتى الآن، زاعما انه سيكون أكثر براعة منه في التقاط المحار من القاع بسبب نظره القوي ونفسه الطويل تحت الماء.

وعندما استعرض مزاعمه أمام "النوخذه" أثناء استعدادهم للغوص، أوضح له "النوخذه" أن الغوص ليس في النفس الطويل والبصر القوي، ولكنه في مهارة "السيب" الذكي النشيط الحاضر الفطنة، وإذا لم يكن لدى الغواص رجلا يعتمد عليه فإنه ميت لا محالة، ولعلك محظوظ في هذا.
ساعتها التفت نحو أخيه محمد الذي كان يقف جانباً وأحتضنه بعينيه المتضرعين، كأنه يعتذر ويعبر له عن اعتزازه بأنه سيضع حياته بين يدين خبيرتين مثل يدي شقيقه.
فابتسم محمد، لقد استلم رسالة أخيه واضحة وكاملة وبالغة الدلالة.
رفع يده اليمنى يمسح بها على راس أخيه، فانفجر الاثنان في ضحكة شاسعة، كما لو أنهما قد فضحا معا المكابرة التي ظلا متحصنين بها طوال الوقت.

الآن يذهبان إلى البحر معا،
كما لو أنهما يجربان البحر الأول.

مهرّج يتماثل للنوم

كان اللقاء زاخراً بالمكتشفات مثل مهرّج يتماثل للنوم دون أن يفعل، كائنات تمسك النار من أطرافها، كمن يمسك أهداب شرشف السرير لكي يسوّي الفراش لنوم آخر. ثمة من كان يتثاءب محاولاً رشوة المستقبل لئلا يتأخر.

قال أحدهم: لكن المستقبل يأتي على كل حال،
الحلم والوقت كفيلان بذلك، فلنجرّب نوماً ثانياً.

استغرب شخصُ: لماذا إذن يتأخر بهذا الشكل، إنني أجلس على جادة الطرقات طوال السنوات دون أن أشعر بحضور المستقبل، ثمة خلل في التوقيت.

قال الثالث: لكن الخلل في المواصلات، فالمستقبل يحتاج دائماً لمن ينتقل إلى المحطة التالية، والمشكل أننا لم نزل في المحطة السابقة، حتى أننا لا نكاد نجزم، ما إذا كانت العربة قد جاءت وغادرت، أم أنها لم تأت بعد.

التفتت الصبيّة ذات الرداء المزخرف: هذا شارعٌ مزدحم بالعربات، هل تعرفون أي عربة بالضبط يتوجب علينا أن نستقلها؟

تبرع أحدهم بموعظة الأعمى الذي يكرز في كتيبة من العُور: كان عليكم أن تقفوا على الرصيف على يمين الطريق، فقد كفّت العربات عن التوقف في محطات هذه الضفة، ثم إنكم لا تكادون تلمحون العربة، لفرط سرعتها وفداحة بطء إدراككم. لقد تم نقل المحطات جميعها إلى يمين الشوارع.

استغربَ المستغرب: لكن عهدنا بنظام السير يساراً، كيف حدث أن تغير ذلك دون إبلاغنا؟!

صدرت قهقهة من شخص تبدو عليه علامات الاستغراق في وهدة ما قبل النوم وبعده: مَنْ يدري، ربما تحتم علينا أن نقف في وسط الشارع لنجرب ما إذا كانت الحافلات قادرة على دهسنا بالفعل، أم أن الأمر لا يعدو كونه ترهيباً وترغيباً.

صرخ بهم فتىً متهور يفشل دائماً في تصنع الرصانة: المستقبل لا يأتي، علينا أن نذهب إليه.

بُوغت البعض بطرافة الصورة، هاهي البلاغة تحكم اللقاء.
مستقبلٌ علينا أن نذهب إليه. لم لا، الفكرة جميلة، والصورة أيضاً. نشبك أيدينا جميعاً، ونشكّل حلقة كبيرة تسع الناس والحافلات ودواجن الحق العام وكتبة عرائض النوم ومتعهدي غسل الموتى والبكاء الذي يخدش العرس، ونزحف نحو المستقبل، عندها لن يكون أمام المستقبل خيار سوى أن يقبلنا.
ضربت المرأة بكفها الطرية على الطاولة صائحة:
لا أثق بمن يقف في المحطات، عليكم أن تشعروا بالخجل لكل هذا الانتظار، ومن يرغب بقيادة رعاع الهيكل إلى المستقبل عليه أن يرتدي ريشة الغراب وينساني. لديّ طريقتي في الذهاب.

التفت إليها الجميع، يريدون أن يعرفوا طريقتها في الذهاب.. لكي يذهبوا.
أثناء ذلك أخذ النادل يوزع ورقة العناوين الخاطئة على الحضور، دائرة صغيرة من الورق المقوى يضعها تحت أقداح الجعة فيما يوزعها أمام الجميع. تنهض المرأة باحثة في حقيبتها عن نظارة سوداء تثبتها على عينيها وتنظر بتفاؤل كثيف للمستقبل، وراء زجاج النافذة، تدق بكعب حذائها الرشيق على قشرة الكرة الأرضية وتترك المكان.
ينسلّ الحضور واحداً وراء الآخر مغادرين، بعد أن يرفع كل منهم قدحه، يكرعها دفعة واحدة، ويتناول الورقة ذات العنوان الخاطئ، معلناً ثقته الفائقة في أن الصواب ليس في العنوان لكن في الذهاب، الطري والطريقة. فإذا أخذتَ العربة الخطأ، ذاهباً على الطريق الصحيحة من المحطة الصائبة، فربما يفتح لك درس الخطأ جماليات التجربة.

كان اللقاء زاخراً بالمكتشفات والمهرج في كوابيس اليقظة.
يصحو، يستيقظ، ثم يتماثل للنوم.
غير أن السيرك قائم على أشدّه.
والمستقبل هنـــــــــــــاك،
وشيكٌ،
ينظر.. وينتظر.

***

الثلج في الخارج

قلبي بمفترق الطريق
ووحشة الغابات تحرسني
أضيع موزعا
شغفا بقلب حبيبتي
ودفاتر الأشجار أسمائي هنا
والثلج في الخارج

حرية في الناي شاخصة
تزخرفني بأحلام مبللة
ونهر جامح
هاتي يداً
وقلادة للريح
قلت لها
لك الباقي هنا
والثلج في الخارج

كلما نامت يدٌ
نهضت يدٌ
سكرانة
بادلتها نخبا جديدا كي تؤجلني
لعل زجاجة أخرى
كرأس مثقل بالحزن
تأخذني على مهل
وتنساني بمنعطف المدى
"روحي فداك علمت،
لم تعلمي"
والثلج في الخارج

للأصدقاء طريقة في الحب
يحلو أن يسموني
وينسوني مصادفة
ويبتكرون لي بيتا
غريباً
ضاحك القنديل
والمعنى مغامرة
ولي وحدي
يدٌ مرفوعة
والثلج في الخارج

ابكي بلادا شبه ضائعة
وفجرا موحشا
وبقية الأسماء ذائبة
وأسمائي علانية هنا
ملتاعة
ينتابني جسدي
ويغشاني نبيذٌ غير مكتمل
وطيري تائه في الريح
والمعنى يخالجني
ووحدي
في صلاة غير عابئة
والثلج في الخارج

يا سيد الغابات
يا ثلج الملاك
وجنة الرؤى المريضة
هل يدي منذورة
وحدي هنا
والثلج في الخارج؟

لا تثق، واسأل الشكَ،
وامشِ على شوكهِ

1

بينكما ما يستعير من الله
أرشيفه العاطفيّ
بينكما ما يشي بالغموض
ويمنحنا للخفي
كلما الله فيّ.

2

الناسك، الزاهد في كل شيء إلا الصداقة والحب والكتابة،
يسهر على النص حينا من الدهر، فيصقل الشخص للباقي من العمر.

3

يشحذ الصورة بمخيلته النشيطة مأخوذاً بتحولات الضوء فلا يغفل عن الشعر في الكتابة.

4

بيني وبينك مستحيلات من المعني
دلالاتنا تضيع بنا
ونعرف أن في ليل الكتابة نهر أخبارٍ ومحتملات
بيني وبينك .. كلما تهنا.

5

موجه يفيض عن البحر، فيغمر القرى والمدينة، ويزور أحياء الناس. لأسلوبه لغة يقلدها البعض بفضيحة صغيرة تكبر كلما بالغ الآخرون في النفي. موج يمتد ليغسل السواحل، وحين يذهب إلي النوم يتخبط البعض في طين الشاطئ في بلهنية الادعاء.

6

حين جاء إلي السينما، كتب السيناريو عن معرفة الدرس وخبرة الموهبة، لم يكن يكترث بأضواء الشهرة الفارغة، ولم يسع لإعلام بائس يمعن في مسخ المواهب وتشويه الأمل، ضوؤه فيه. في الضوء. في ضوء عينيه. في ما تبقي من الضوء.
في .. كلما ضاءَ فيه.

7

لنا أن نستعير الوقت كي نمشي علي مهلٍ
لنا أن نختفي ونعود في حرية الميزان
لنا أن نفضح العنوان
كي تبقي الكتابة في كتابك
كي نضلل غفلة الإنسان
لنا، لو نستعير الماء، أن نبكي علي أملٍ
ونكترث احتفاء بالمرايا
هل لنا، في رفقة تهدي بقايانا
لنا في ..
كلما لو يفقه الإنسان.

8

لا تصدقه،
سيأخذ لبك المغرور
سوف ينام فيما حلمك الباقي سيبحث عن دلالته
يضلل ما تبقي من شهيق القلب بالمعني
سينسى أنّ في خوف العشيق سلامة العشاق
لا يعبأ بما يسعى لتفسير الزهور
عليك أن تبكي قبيل الجرح كي تنجو
ففي النص الجديد نقائض تهجو الطريق
وتمدح التأويل
تبكي .. كلما في شهوة الأوراق.

9

مثل النبيذ النادر النبيل، كلما طعن في العمر والتجربة صار أكثر لذة وغنى وجمالاً. ومثل النبيذ أيضا، لا يعاتبك كلما ادخرته لمستقبل الوقت. يمنحك حبه في اللحظة التي تعود إليه، كأنك اكتشفته تواً.

10

ليل/ داخلي :
لقطة متوسطة/

1 - الشخص منكب على دفتر صغير. يكتب. وكلما خطّ كلمة طارت في هيئة فراشة. وكلما قلّب ورقة تقاطر تفاح ينسكب من سلة الدفتر. يتحول المخطوط إلى كتاب. يتوهج مثل موقد علي شكل قلب. ويتصاعد منه سربان : سرب الفراش الأصفر المرتعش وسرب التفاح الأخضر المغسول.

2 - النص يغفو في حضن امرأة مشغوفة بالتآويل. فراشة على كتف وتفاحة على كتف، والشخص يتفلت من المعاني.

نهار / خارجي:
لقطة كبيرة /
كائنات ضئيلة تجرجر أحشاءها المسعورة، وتحمل ضغائن تتفسخ على أكتاف ضيقة. كائنات ضئيلة تكاد لا تبدو لفرط الضغائن. ضئيلة حتى أنها أكثر ضآلة من ضغائنها. أحداق زائغة لشدة شهوة الضغن.
تعلن الكتابة فتنال الكآبة. كائنات افتراضية تظن أنها هنا. بينها وبين النص أكثر مما تحسب.

11

لا تثق،
كلما مد عينيه في الكائنات لكي يستجير
رأيتَ له شرفة في الشفق
لا تثق
كلما نامت الشمس في حضنه
سوف ينتابه ما يثير القلق.

12

- وأنت
- كنت نائماً فلم أشهد الحادثة.
- فإذن كنت في الحلم، قل عن الحلم.
- ما دخل ذلك في ما حدث، لقد كان حلماً.
- على العكس، الحقيقة تكمن هناك، لا نكون حقيقيين وصادقين مثلما نكون ونحن في الحلم. هيا قل لي ماذا حدث.
- لا أعرف، لكن .. حسناً كانت المرأة وحدها.
- والرجل !؟
- لم يكن هناك رجل، ثمة طفل فقط.
- هل تعني أن الطفل هو الذ ي ..
- نعم، يا إلهي كيف يمكنني أن أصف لك ذلك، لقد كان مجرد حلم لا أكثر.
- أفهمك، أعرف ذلك، كلما في الحلم .. تكون الحياة ممكنة.
- وأنت! أين كنت؟
أنا !؟ أنا لم أكن في مكان.

من يَصْدُقُ في الحب لا يُخطئ في الحياة

( 1 )

الشعر كرم ونعمة ومتعة كونية أشتهي أن أذهب إليها.
غير أن ذلك يحدث بمعزل عن النوايا الحسنة والقرارات والتمنيات. فإذا حدث ذلك، فانه يحدث بطفولة عفو القلب الصادق. ومن يصدق في الحب لا يخطئ في الحياة. وصارت احتمالات نجاح الكتابة ممكنة.

( 2 )

يحدث ما تحب الساحرة أن يحدث، فإن ساحرة على هذه الشاكلة ليس من الحكمة التردد في الاستسلام لما تفعله بنا. لا نخضع لأحد مثلما نفعل معها. ربما لأنها تحسن الرؤيا من أجلنا ويليق بها أن تقودنا إلى المغامرات ويطيب لنا أن تكون فارستنا لحظة الاحتدام.

( 3 )

ليست الشهادة في النجاة،
الشهادة في التهلكة

***

لن تضعني على جرح مثلما أضعك،
فليس البلسم في التعديل،
البلسم في الجرح.

***

تفضحين بالرمز مثل اللغة،
فالحروف مكشوفة لك
تضعين القميص وتخلعين الإشارة
وتضللين الكتابة بدلالة الغيم،
فلا ينال ذهبك الأزرق سواي.

( 4 )

غير أن الساحرة
سوف تنساني طويلا في كتاب الليل
تنساني وتبدأ في التفاسير الغريبة،
هل ترى مرت يداك على دمي
هل تنتمي للماء
أم أن الدموع دلالة الأسرى
وهم يفتون بالمعنى
وهل سحري يقودك نحو باب الله
كي نبكي معاً
في العربات الساهرة.

ناحية "حانة الذئب"

1


بغتة،
هذه غرفة الكون مشرعة
وأنا نجمة فازعة.

2

تحت عينين غامضتين
تهجيتُ غيماً صديقاً،
شرفتان على جنة الله
تاريخنا المستثار
وأرجوحة في انكسار الهواء،
عينان تستعصيان على النص
مبذولتان لتأويلنا
ومنذورتان لماء ونار
كـأنَّ الغناء.

3

شجرُ العُـريّ يحرسنا،
باردٌ، والغصونْ،
تؤثثُ أخطاءَ أقدامِنا،
نتعثر بالريح،
تجاعيدها الغائرة،
شجرُ الثلج يغفو على بابنا
مثل أرصفة يانعة.
وتنتابنا شهوة الكشف
نطلق أحلامنا في الجنون
ونرتاب مما يفسّر أخبارنا،
نحتمي بالمعاجم
مثل الدلالات في لغةٍ ضائعة.

4

تفتح الشمسُ بوابة الغيم يومَ الأحدْ
قَـبـلُها .. لا أحدْ ..
.. مثلها ينتمي للحديقةِ
أو يحتمي بالأبدْ.

5

رَسَمَتْ الطفلةُ طفلتَها
في زجاجِ الفرحْ
وبكتْ عندما طفقَ العابرونَ
يمرونَ في غفلةٍ
ثم ينسون أطفالَهم
في رصيف المرحْ.

6

تنثني غيمةٌ على أثر العابرين
تنحني بالحنين الذي يوقد الذاكرةْ
مثلما يبرق النومُ بالحلم
مثلما تنهرُ الخضرة الناظرة
غفلةَ الساهرين.

7

يَسْمَعُونَ لنا
أن شخصاً هنا
يترك ألوانَه في الظهيرة
كي يُـقـنعَ الشمسَ بالنوم
ويصغونَ ،
أن الحديقة ليست سوى فكرة خَطّها
ذلك الشخصُ
كي يمدحَ الشمسَ في تختِها.

8

ثمة ما يُغرّر بالكوكب السادر في السديم
لئلا يأخذ مجراه
مثل حقٍ لا يؤخذ مأخذ الجَـدْ.

9

لا تَـقـُلْ للغبارْ
عناوينَ أخبارِنا
لا تقل للمساء الذي خلفنا
أن بيتاً بعيداً سينتظر الليلَ
كي يستعيدَ الغريبَ
ويأخذ ناحيةَ للنهارْ
لا تقل للذين انتحوا يسألونَ الجوابَ
أن للحلم أخطاءَه
وللحلم أسماءه
وللحلم، لو يعرف السادرون،
حزنه المستثارْ.

10

تنشأ امرأةٌ مثل ريف الزَهر
في منعطفات المدينة
تبذر ألوانَ ذاكرتها في الأروقة
وتزرع الوسائدَ الناعسة
في أديم اليقظة
تُـنَـبِّهُ العطرَ النائمَ لكي ينهضَ
وتنهرُ الفضةَ عن الشكوى
وابتكار الذرائع.

امرأة
هي برزخٌ يصلُ الوقتَ بالمكان
تقولُ للكتابة سِرَّها
وللنصِ أن يُصغي لنواح النديم الساهم
والنادل الثمل.

11

عِمْ مساءً أيها البَهارُ
واغمرْ بنفحتكَ الساحرة
مَـنْ لَـه حظوةٌ لديكْ
أيقظْ الروحَ بالنكهةِ
واصقلْ هذه القناني المترنحة
بنبيذِها المنسيْ.

أيها البَهارُ الكريم
وأنتَ تَصرخُ باللّهـبِ
لئلا يهدأ العملُ
لا تنسى النارَ،
وأنتَ توقظُ الفتنةَ
كُـنْ الرمزَ الغامضَ في شهوة الشفاهِ
تهيأْ للغيمِ
قَبلَ القُبلةِ وبعدها،
مثل جمرةٍ تريدُ أن تُطفئَ شَغفَها
فتقولُ الجحيمَ.

عِـمْ مساءً
وكَـلِّـمْ المبهورينَ بعطرِكَ،
شعوبٌ مذهولةٌ
في جزرٍ منسيةٍ
في مجرّةٍ لا تعرفُ أنها في التيه.

12

تضع المرأة قصعةَ العطرِ
ويرتاحُ قلبٌ
من التعب المرّ،
تفاحةٌ حرةٌ طَلعتْ بغتة
في الكتاب
كأن الطريقْ،
سيأخذ دفترنا في التلاشي
هنا،
في الأقاصي
سينقذنا طائرٌ في الحريقْ.

13

عتمة في كتابٍ قديمٍ
مقاعدُه الكالحة،
تَسَعُ الكأسَ والرأسَ
تنسى خطاياك
تعفو عن السهو
تقرأ أعمالَـك الصالحة،
كلما ابتسم النادلُ الشهمُ
كي يحضرَ الخمرَ لكْ
قبل أن يسألكْ،
ضائعٌ في ظلام الكتاب
وتخلطُ في تعب اليوم والبارحة.

14

أصدقاءٌ تحتدمُ بهم السِجالاتُ
تزدحمُ بهم الحانة،
حتى إذا ما أوشكوا على إصلاح الكون
طفقتْ المجـرةُ في نشيدِ التذمر،
وتَـكَـفَّـلَ الذئبُ بتأويل أحلامهم.

سُحقاً للقصب الذي صار ناياً

لا تصغ للناي طويلا
سوف يجرحك وينال منك
وكلما كان حزنك عميقا
طاب للناي أن يتوغل بشفرته نحو الشغاف
شيء من حرير الشرايين يفري غزالة الدم
شيء من ليل الأعماق، من بهجة الجمر وهي تتصاعد
في ريش الجناح الهائم البعيد
الغائم الوحيد حفيف خفيف
شفيف
يمتد بين الصوت والصدى
يسوق كوكبة الغزلان تطفر من شهقة القلب
وزهرة الغرائز
شيء يطالك
وأنت في غيبوبة القصب
شيء من العجب

ليست الموسيقى أثير يلامس أجسامنا عبر حاسة السمع فحسب إنها ضرب من الخلايا الحية تقتحم الإنسان في حواسه كلها وبالنسبة للناي فإن الأمر سيبدو أكثر رهافة وسطوة في آن يبدأ الناي من أكثر الأدوات بدائية وأكثرها بساطة على الإطلاق ثمة قصبة يابسة منسية في طرف الحقل ما إن تصادفها ريح شريدة ذات مساء موحش حتى ينساب النحيب فيخال لك أن كبدا تبدأ في الإعلان عن مكبوتها هل الناي مبعوث الكبد المفدوح يجوز لك أن تسأل ويطيب للناي أن يغفل عن سؤالك
قطعة القصب المهملة من أين لها كل هذا الشجن ناعم الملمس
بعقده المتباعدة المتجاورة المندفقة
المتدافعة مثل قلادة في عنق امرأة نائمة
يتلاعب بها الحلم صقيل
الخصر والكتفين وما عليك إلا أن تختبر شفير القصبة المكسورة
لتعرف شفرة النصل وشفافية الحزن معا لا تصدق أن المصادفات وحدها المتحكمة في لقاء الريح بالقصب
فالحقل لم يكن بريئا وهو يترك تلك القصبة في هامش المشهد
والريح الشريدة ليست سوى الزفير المكتوم
يشهق مثل تشبث الغريق بالخشبة القصبة هي خشبة النجاة المنذورة للكبد
المفدوح خشبة هي الصليب في الوقت وفي تدفق الناي تقدر أن ترى الروح وتلمسها
فيما تصير جسدا مبذولا لتفجرات الأعماق ناهضة نحو الأقاصي
روح ذائبة في هواء يخرج من داخل عميق إلى دواخل لا تحصى, وجسد يشف عن النيران كلها
ليس بين الجسد والروح سوى هذه القصبة الوالهة المشحونة بفضاء شاغر
مثل غرف القلب وهو ينتظر عشيقة في الفقد
لك أن تدرك حدود الحنجرة من حدود الصوت فيما تصغي
وفيما تصغي
لك أيضا أن ترى إلى الصوت
تراه جرحا يتكئ على النصل
كيف تسنى للحقل أن ينسل أحفادا على هذه الدرجة من الحزن والشهوة
كيف تسنى له أن يصوغ مخلوقات فاتنة كهذه ليهملها وينساها
مخلوقات، ما إن يصادفها الغريب في الليل، حتى يألف لها ويأنس لنحيبها وهي تتفجع مثل الثاكل. لا يفهم الناي سوى الغريب النائي
وفي الليل لا يعود للقصب فسحة للنوم، لن يعرف الهجعة ولن تطاله سوى أصابع الروح التي طالت بها الحبسة
فأياك
أن تصغي للناي و أنت وحدك
سوف تنال العذاب كله
العذاب إلى آخره لقد صادفه الغريب فأصابته الوحشة
وصادفه العشيق فتفطر قلبه لفرط البكاء ورافقته المفؤودة دون أن ترأف بها كائنات الليل
أياك .. أياك
أن يستفرد بك القصب المحزون
يفتك بك
ويفنيك
أياك .. أياك
لا تأمن للقصب وهو يشحذ كبده على شغافك
كمن يمنح النصل فرصته الوحيدة أمام جرح وحيد
أياك .. أياك.

جبلٌ يصغي للريح

ثمة أسطورة تقول أن جبلاً يمضي أيام السنة متكئاً على حافة الوادي، رأسه في الغيوم وأطرافه بلا تخوم. تضاريسه الصخورُ المسننة، تنكسر عليه الزوابع ولا يسمع الكلام. يرقب كائنات الطير والوحش والناس. لا يكترث لمن يحاول إبلاغه أنه يجلس في المكان الخطأ من الطبيعة ويفسد الحياة. ينقصف صوتُ الناس كأنه لا يغادر الحناجر، وكأن الجبل بلا آذان، أو هو لا يحسن الإصغاء. وكل ما يفعله، بين وقت وآخر، هو أن يعتدل في جلسته قليلاً، دون أن يتزحزح عن موقعه شبراً. تتفاقمُ وطأته على الكواهل، ولا أحد يقدر على مخاطبة الجبل لهول ارتفاع قمته، مما يجعل آذانه بعيدة عن نحيب السفوح. حتى تجرّحتْ الحناجر وتعبتْ الألسن وسئم المتكلمون، وأوشكَ اليأسُ أن ينالَ منهم.
وتقول الأسطورة، إن أحد أطفال الوادي سألَ أمه ذات يوم عن الجبل. فقالت له: إنه هناك. يقبع وحده وحيداً في الأعالي، يمنع عنا الهواء في الصيف والشمس في الشتاء، يقف في طريق السفر ولا يسمح لأحدٍ أن يأتي لزيارتنا، يدمّر حقولنا بالسيول ويعاقبنا بحمم البراكين، منذ ولدنا ونحن نراه هناك، لا يكترث بنا ولا يعبأ، لا يصغي للتضرعات ولا يهتم بالحُجة. فقال الطفل لأمه : لماذا لا تحاولون الصعود لتصلوا إلى آذانه، فربما يكون ضعيف السمع بسبب الشيخوخة. فقالت له الأم: لا فائدة، فالجبل شاهق والدروب إليه خطرة، ولا أحد يعرف الطريق إلى أذنيه، بل إننا لا نعرف تماماً ما إذا كانت له أذنان أصلاً. قال الطفل لأمه: لابد أن تكون له أذنان، فكل كائن له أذنان، علينا أن نحاول الوصول إلى هناك ونبحث عن أذنيه لنقول له الكلام. ردت الأم: لقد حاول الكثيرون ذلك، لكنهم كانوا يتعرضون للمخاطر، وبينهم من تعثرتْ قدماه وسقط في الوادي ميتاً. فكّر الطفل بعض الوقت، ثم سأل أمه: هل تعتقدين أن الجبل سوف يستجيب لما نريد إذا سمع كلامنا؟ فقالت الأم: الحقيقة أنني لا أعرف، فلم يحدث أن رأيت الجبل عن قرب، وليست لدي فكرة عن مزاجه. قال الطفل: هل تكرهين الجبل يا أماه ؟ فوجئت الأم بسؤال طفلها، وهزّت كتفيها بحيرة وقلق : أكرهه؟! لقد تسبب في موت والدك. كان والدك من بين الذين حاولوا الصعود لإسماعه الكلام، فكان نصيبه السقوط الشنيع والتهشم بين الصخور الحادة، حتى أن أحداً لم يميّز جثته لفرط ما أصابها من التمزق، وتسألني عن الكراهية ياولدي؟، يبدو لي أن هذا الجبل ليس فقط لا يسمع كلامنا، بل لا يكاد يشعر بنا على الإطلاق. انصرفَ الطفلُ مهموماً في غيمة الحزن. بعد قليل عاد وقال لأمه. لكن لابد لنا من التفكير في طريقة لتوصيل الكلام إليه، علينا أن نجرّب ثانيةً، فربما يصغي، أو يتعلم الإصغاء لمرة واحدة على الأقل. سألته الأم : هل تريد أنت أيضاً أن يحدث لك ما حدث لأبيك؟ فقال : ليس تماماً، لكنني سأطلب من صديقتي الريح أن تحمل الكلام إلى الأعالي، فالريحُ هي الوحيدة التي يمكنها أن تصعد إلى هناك في خفة ورشاقة، ودون أن تتعرض للمخاطر، أليست الريح هي التي تحمل الطيور، إذن حمل الكلام لابد أن يكون أسهل بكثير. ضحكت الأم من خيال طفلها، وأوصته أن يفعل ما يريد مع صديقته الريح، لكن بعيداً عن الحماقات، فإنها لا تقوى على فقدانه مثلما فقدت والده من قبل. خرج الطفل من الدار متوجهاً إلى ظاهر القرية، وصعد إلى إحدى الهضاب الصغيرة، ثم أخذ في محادثة صديقته الريح وهي تهبّ شمالاً. طلب منها المساعدة في مشكلتهم مع الجبل، وأن تصعد عالياً حتى تصل إلى قمته، باحثةً عن أذنيه لتخبره بما يعانيه الأهالي. أبدت الريح استعداداً طيباً، ووعدتْ صديقها الطفل أنها ستفعل ذلك في القريب العاجل. هرع الطفل إلى ساحة قريته يخبر الأهالي أن الريح قبلت الصعود إلى قمة الجبل ونقل كلامهم إليه. هزأ بعضهم من مزاعم الطفل، واعتبر البعض الآخر كلامه ضرباً من أحلام الأطفال وخيالهم الجامح. كيف يقدر الهواء على ما عجز عنه الرجال. لكن الطفل لم يهتم لذلك، وعاد إلى داره في المساء لكي ينام. في صباح اليوم التالي، صعدت الريحُ إلى قمة الجبل، ودارت حول قمته، فعثرت على مغارة صغيرة مهجورة لا يبدو أن بشراً وصلَ إليها من قبل. وما إن اقتربتْ منها حتى رأت العنكبوت قد نسج في مدخل المغارة خيوطه الكثيفة، ولمحت جيشاً من النمل وأنواعاً شتى من الحشرات والسحالي تنسابُ في مدخل المغارة، بل إن سرباً من الغربان كان قد ابتنى له أعشاشاً قديمة هناك. زمجرتْ الريح واستدارت ضاربة فوهة المغارة بعاصفة جعلت خيوط العنكبوت تنحلُّ والحشراتُ والسحالي تشرد مذعورةً، و فرّتْ الغربان بعدما رأت أعشاشها تتخرّبُ وتتساقط من أطراف المغارة. اقتربت الريح من بوابة المغارة مستكشفة المكان، فلم تجد سوى الصمت الموحش. اعولت بصوتها القوي منادية الجبل أن يستمع إليها. تململ الجبل منزعجاً للصوت الغريب الذي يخترق أذنيه للمرة الأولى، ثم التفتَ بقمته الشامخة نحو الصوت ليرى ما الذي يحدث في المكان الذي لم يصل إليه أحدٌ من قبل. لم ير شيئاً أمامه. وعندما أراد أن يعتدل عائدآً إلى غفوته، نهرته الريح قائلة : أنظر إلىّ، أنا الريح التي في الأعالي أكثر منك، لديّ من القول ما يهمك وما يتوجب عليك أن تسمعه، فمن الحكمة أن يتعلم المرء الإصغاء. تعجبَ الجبلُ من كلام الريح، ولكن سرعان ما ابتسم وقال : هل عند الريح سوى الهواء ؟! فقالت الريح: عليك إذن أن تصغي لهذا الهواء. لقد مضى من الوقت ما يكفي وأنت معلقٌ هنا في وحدتك الموحشة، دون أن تسمع صرخات الناس في الوادي، جاهلاً أو متغافلاً عن الذي يدور حولك وتحت أحجارك، لماذا لا تصغي لكلامهم وهم يحاولون مخاطبتك طوال هذه السنوات؟ فقال الجبل: الناس !! ومن أين لي أن أسمعهم وهم هناك، كان عليهم أن يأتوا إليّ هنا. فقالت الريح: كيف يأتون وأنت شاهق إلى هذا الحد، لا تنحني ولا تحنو عليهم، ولا تتزحزح عن كواهلهم، صخورك السيوف وأذناك في الغرور؟ قال الجبل : هـه، وماذا بوسعي أن أفعل، إنهم لا يستطيعون الصعود إليّ، وأنا لا يمكنني النزول، هل رأيتِ جبلاً ينحني أو ينزل إلى الوادي، إنها طبيعة الأشياء أيتها الريح. قالت الريح : ومن طبيعة الأشياء أيضاً أن نصغي لما يريد الآخرون قوله لنا. قال الجبل : مادمتِ قد نظفّت أذني مما يعوقها عن السمع، فها أنا مصغ إليك. بدأت الريح حديثها إلى الجبل هادئة مرسلة نسيمها السلس، مهدهدةً أطرافه، تداعب خصلاته الخضراء الناعمة المتدلية من خاصرته منسدلة على جوانبه. وأخبرته إن عليه أن يتحرك من موقعه لكي يفسح لغيره من كائنات الطبيعة مكاناً تحتاجه. وقالت له إنه من الثقل والارتفاع بحيث يحرم الحقول من شمس الصباح، ويصدُّ الهواء عن القرى الصغيرة التي يكاد الوادي أن يبتلعها لشدة القيظ في فصل الصيف، كما أنه يسدّ الطريق أمام القوافل، حتى كسدت التجارة، ويبست الزروع وجفّت الضروع وبَطُلَ العمل، وبات الجوعُ يهدد الناس. قالت له أن السيول التي تتحدّر من جروفه بعد ذوبان الثلوج، تغرق القرى وتخرّبُ حقولاً يتعب عليها المزارعون طوال فصول الحرث والبذار. كانت الريح تتوقف عن الكلام لحظة وتسأل الجبل ما إذا كان يسمعها، معتقدة أنه ربما استغرق في النوم. فيهزّ الجبل رأسه الشائب مؤكداً أنه لا يزال يصغي إلى الكلام. فأكدت له إن الماء العذب الذي يرسله النهر إلى الأرض لا يصل إلى حقول المزارعين ليرويها، مما يحرمهم من الخير الوفير، حيث تنحرف الجداول، عندما تصطدم بصخوره العاتية، فتهدر في البحر البعيد دون أن يستفيد منها أحد. وقالت له إن هذا يسبب لناس الوادي عذاباً عظيماً، لأنهم يضطرون لحفر آبار صغيرة سرعان ما تنضب. عند ذلك اعتدل الجبل في جلسته، كمن يسمع كلاماً غريباً للمرة الأولى. فقالت له الريح : لا تقل لي أنك لم تكن تعرف كل هذا من قبل. ارتبك الجبل قليلاً، ودمدم مثل شيخ يتقدم في السن فجأة، ثم قال: ليس تماماً.. ليس تماماً. لكنهم كانوا يعبثون بي ولا يحترمون هيبتي وسلطتي فيهم. فقالت الريح : لم يكن ذلك عبثاً، لقد كانوا يبعثون برسائلهم إليك فلا يلقون غير بطشك، ماذا تنتظر من بشرٍ يفقدون الأمل. على أية حال ها أنا أخبرتك بالأمر، ولك الآن أن تقرر ماذا ستفعل، فلا أحد يعرف كيف ستجري الأمور بعد ذلك، إن لهؤلاء الناس أطفال يمتلكون من الأحلام والخيال ما يجعل المستقبل مأزقاً بالنسبة لك. انتفض الجبل غاضباً : هل أعتبر هذا تهديداً ؟ فردتْ الريحُ : ليس هذا ما عنيت، ولكن الحق أقول إني أنقلُ لك هذا الكلام لأني أحبه، وأحب الطفل الذي كلفني بذلك، وهو واحدٌ من أطفال لا يحصون هناك، مما يجعلني أشير إلى المستقبل، إن كان ثمة مستقبل يعنيك، فمن يدري، ربما تكون قد أصبحتَ ضرباً من ذكريات الماضي، إلا إذا تعلمت إن فَـنَّ الإصغاء هو أحد أعمدة الحكمة في الحياة.
تتوقف الأسطورة هنا، لنجهل بقية الحكاية. فالمخطوط القديم الذي نقلت عنه هذه الأسطورة كان مهترأ الأوراق، سقطت منه الحواشي في كثير من المواقع. لكنها أسطورة، والأسطورة لا تنتهي في الكتب، لكنها تكتمل في حياة البشر.

حزن طويل القامة

1

يقاسمني الخبز والماء والوسادة وينال الكوابيس عني، يذرع الطريق معي، ويغمر أمامي الأفق. تضرعتُ به الأصدقاء، فلم يعجبهم أن حزناً بهذا الطول الفارع يتبادل أنخاب الليل معي. بعضهم نصحني بتناول أقراص النوم صباحاً لئلا يتفاقم الحزن ويغويني إلى التهلكة، بعضهم اجتهد في تشغيل أدوات الحب لديه لمعرفة حدود صوتي من حنجرتي في هذا الحزن. حزن طويل القامة مثل هذا، لا يمكن التخفّف منه عندما تخلع القميص والمعطف، وهو لا يذهب مع الماء. فارعٌ، فارعٌ كمن يطلع النخل وهو جالس في قرفصاء الحديقة. جاءني مع الوقت، مثل الإرث في بقية ما يقضي من العائلة. شاحبٌ، شحيحُ الكلام، يقصف الرقبة لفرط الشهق. الحزن الفارع هذا، قرين الروح منذ بهجة الطفولة، له قدرة على مدحي بمحبة السفّود الواري، يضعك في الجحيم لكي تبرأ، فيما يلهو بك مثل ذئبة تسأم طريدتها بعد أن أضحت في اليدين. حزن لا أكاد أعرف أينا ظل الآخر و أينا ضوؤه. هل هو هنا لأنني في غياب، أم أنني في حضور نيابة عن الوهم. وغالباً ما يسبب لي الحرجَ حين أقف لاختيار ملابسي، جميع الملابس لا تطال كتفيه وبالكاد تلامس ربلة ساقيه الهزيلتين. حزن مثل هذا ليس سهلاً التفاهم معه. ثمة من يعبرون الطريق الذي أقف على ناصيته، يلمحون عن كثب غيمة تقف هناك، يتراءى لهم أن الواقف ليس شخصاً أعرفه، أو هو ليس شخصاً بالتحديد، ربما ريشة كثيفة سقطت سهواً من سرب غربان يعبر الأفق، وطابَ لها أن تتماهى في أسمال خيال المآتة لكي تحرس الحقل لسربٍ آخر. أحد الأصدقاء لم يكن يصدق أن هذا الحزن هو الاسم الخفيّ الذي يتوارى كلما هممتُ بالكلام، ومن يسمع صوتي يتيقن أن عطباً أصابَ أوتار الصوت في حنجرة النشيد، فيتبرع أحدهم بقطعة من سكر النبات لكي تكون ديباجة الكلام. أحدهم صرخ بي ذات أمسية: مادمت مسكوناً إلى هذا الحد، لماذا تزعم الغناء في الساحة ؟.

2

أحياناً، أصدق أن للحزن سطوة على الصوت. فأداري شغفي المكبوت، وأنشغل بكلماتي عن السهرة، لئلا يراني، أو يسمعني، الناس وأنا في حالٍ من وجد المشغوفين بالتماهي مع الأشباح. أصدّق أن حزناً فادحاً مثل هذا كفيل بأن يفضح جسداً هشاً وروحاً شاردة مثلي. لذلك أذهب متوارياً عن الكائنات الفسفورية التي تحدق بي، أظن أنني وحدي، فإذا به هناك.. لي.
وحين أكون مدعواً لعرسٍ ما، سيكون أمامي فصل من مقاومة وحش أسطوري يضطرب تحت الجلد، سيكون هذا الحزن الفارع أطول قامة بين الحضور، سيغمرني بالكآبة في جمعٍ جاء لكي يعبر عن سعادته. كيف يمكن كبح رغبة الدمع في التفجّر في حضرة الصديق الذي يحتفل بعرسه. وعندما أبرّر تلك الدموع بفرح خاطف، سأكون كمن يبالغ بمشاعره في موقع لا يحتمل ذلك. كمن يحضر حفل توقيع اتفاقية صلح مدججاً بالأسلحة. إنه حزن يعوزه التهذيب ولا يمتثل لطقس الحفل. حزن يدفعني لارتباكٍ يرعش يدي وهي ممسكة بكأس الأنخاب لكي تنسكب على ملابس المحتفلين. حاولتُ مرة أن أقف بعيداً عن الجموع لكي أدع قريني معزولاً عما يكدّر حزنه. وما إن تورطتُ في واجبات تقديم العزاء حتى انتعش القرين وبدا متوهجاً مهتاج المشاعر متورد الخدين مكتنز الأوداج كأنه ينال مني أمام الجموع. يقول: هذا هو محفل يتوجب عدم التخلف عنه. كان يستمهلني للبقاء أطول وقت ممكن في المأتم، حتى أوشكت ذات مرة أن أبدو من أقرباء المتوفي لفرط ضلوعي في العزاء، عندها راح أحدهم يقدم لي الشكر على مشاركتي مصابهم، كنت أكزّ على أسناني كمن يريد أن يقطع لحم القرين الفارع لما يفعله بي. لكن، من يقدر على اجتياز مفازات الروح وتخوم الكائن في مثل هذا الموقف.

3

و إذا كنت أحاول تفادي فضيحة هذا الحزن المتفاقم، إنما لكي أبدو أمام نفسي متوازناً قادراً على الاحتفاظ بأسرار الروح لنفسي.. لها وحدها. لا أحد يرغب في أن يكون حزنه مشاعاً إلى هذا الحد، لكنني لم أعد قادراً على تفادي الهزيمة. إنه حزن مهيمن، ولابد لي من أن أتعامل معه كشخص آخر، شخص قوي الشكيمة، غزير التجربة، جديرٍ باحترامٍ يخلعه المبتدأ على الخبر في جملة الناس.
قلت له ذات فرح نادر : كيف يحلو لك أن تنام في سريري وترتدي قميصي وتضع كلامك في كتابي، دون أن تتيح لي فسحة من حرية النوم في بهجة الحياة، ودون أن أبدو مزدوجاً؟ ثمة الحب الذي تحبه وثمة الحب الذي يحبك، أيهما يضع يده على قلبك، أيهما لك وأيهما عليك، قل لي؟! فلم يكترث بي. وضع يده في قلبي وأخرج فلذة وبسطها أمامي قائلاً، بسخرية من يَفْري لحمه النصلُ فيغتصب ابتسامة مبهمة لئلا يجهش بالبكاء : كيف تزعم برغبة الفرح وفي قلبك كل هذه الجراح، من أين لك أن تتقمّص ما ليس لك وما لم تعرف مذاقه وما هو مقسومٌ لغيرك ؟" كان فادحاً وهو يستدرجني في شارع الناس، حيث الأحزان فضيحة دائمة التألق، فكل من تشاغله شهوةُ النوم لن يخلو ليله من الكوابيس. حزنٌ حزينٌ مضرّجٌ بنفسه، يطوف الشوارع يجهرُ بالنشيد في الناس، ويبالغ حتى يغمر صوته الأزقة وتلوح قمصانه في الأعالي، بشارةً لكل من لم يفقد عزيزاً بعد، عليه أن يتهيأ لذلك، فهذا الحزن الكثيف منذ المهد لابد أنه يدخر المفاجآت فاتحاً الطريق نحو اللحد. ما من فسحة لفرح صارم مثل هذا يحدق بي في شارع الناس، وحزن يستفرد بالروح ويهزم الجسد، مستبسلاً كأنه لا يجد في اللغة كلمة أكثر رأفة من الحب، فيغمدها في الجرح القديم، ويفرك بها الدم حتى ينزف زرقته كاملةً، دون أن يتاح لي برهة التشبث بهواءٍ ينفد نأمة نأمة. فهذا حزن لا يعرف النوم ولا تنقذه غفلة الليل.

4

حزن طويل القامة مثل هذا، لن يكفَّ عن تلقيني درسه كلما توغلتُ في أسراره الغامضة وهي تمنح المجدَ لصمتي. هذا الحزن الشاهق لم يعد قادراً على تفادي الشفير الذي نذهب إليه معاً صباحَ كل أحد، عندما نقرأ في الجريدة تهاني الأصدقاء لنا على كون أحدنا لم يمت بعد.*

درس الأرز

1

يقال إن الأرز ذهبُ الحقول وفضة المأدبة. وهو أنواع كثيرة، عليك أن تختار منها ذي الحبة الطويلة. وستكون محظوظاً إذا تسنى لك العثور على النوع الغني بقدرته على الاكتناز في القِدر ساعةَ النار. فالأرز نوعان، نوع بخيل، كثيرُه في الكيل قليلٌ في الأكل، تضع منه مقدار كيلة واحدة فلا يكاد يطعم شخصاً واحداً بعد الطبخ. والنوع الآخر غني، كريم، تزيده النار ازدهاراً. تضع منه الكيلة فيمنحك ما يكفي خمسة أشخاص لما فيه من طاقة العطاء الكامنة التي تتفجر طالما إطمأنَ لك وألفَ حبك وشعر بتقديرك لطيب منبته. وسوف يشعر بك منذ لمستك الأولى وأنت تجسّ حباته، فيما تدعكه بلطف كمن يداعب طفله في المهد يعلمه العوم لكي يبدأ السباحة في الماء الوفير. وإذا أنت لم تحسن عملية الغسل ببطء الحالم، سوف تقرر مسبقاً فشلك في الغليّ، وقد لا تحصل على الأرز الأبيض الشهيّ.

2

أن تغسل الأرز الأبيض بالماء النقي ليزداد بياضاً يعني أن تمنح الفضة فرصتَها لكي تجلو حبة اللؤلؤ بعد استخراجها من صدفتها القديمة. فالماء الوفير الدافق في البداية يجعل نتيجة الطبخ رائعة، حيث الأرز المغسول جيداً يجعلك تحصل على وجبة خفيفة الروح زكية الرائحة. ولا ينبغي أن تكون عملية الغسل روتينية، فأنت لا تغسل قميصاً، إنه الحصاد الطيب الذي تعبتْ فيه الناس والحقول وصقلته الفصول. غسلُ الأرز طقسٌ مهيب يستدعي منك أن تكون في مزاجٍ رائقٍ ولديك من الوقت ما يكفي لسرد حكاية لطيفة لطفلك لكي ينام.
تسكب كيلة الأرز في الإناء فتسمعه ينهالُ في الصفحة مثل تدفق اللؤلؤ الناعم على قطيفة. تدسُّ أناملك بحنان بين الحبات فتشعر بها مثل بشرة الرضيع الذي ولد تواً. ترفع بالقبضة الرؤوفة حفنةً وتفرج كفّك لتدع الحبات تسيل بين أصابعك مثل حليب رائب. وترى بياضاً يفضح بضع شوائب صغيرة تقوم بانتشالها في رشاقة الصائغ البارع لكي تخلّص الأرز من ذكرياته الأخيرة عن الحقل. تلقي نظرتك الوالهة على صفحة الأرز في الإناء الفسيح وتدفعه تحت الصنبور وتطلق الماء لكي يندفق فرحاً مثل أطفال يهرعون إلى ساعة المرح. وتبدأ بتقليب الأرز تحت اندفاع الماء المنتشي ليركض بين حبات ترتعش لفرط المباغتة الباهرة. فترى الماء يمور في الإناء، وحبات الأرز تتأوّد في غنجٍ والماء يتصاعد طالعاً إلى ظاهر الإناء، متعكراً مشوباً بما يشبه الرغوة الثقيلة، مفصحاً عن الكلام الأخير الذي لم يزل في ذاكرة الأرز من الحقل. تعيد تقليب الأرز براحة يدك، ثم تسكب حصيلة الغسل الأول برفعك الإناء مائلاً على طرف واحد. ثم تعيده ثانية تاركاً الماء يندفق ليملأ الإناء ويفيض عليه. عندها تدفع بيديك مطبقتين وتبدأ في الإمساك بحفنات الأرز وهي في داخل الماء وتدعكها براحتين حنونتين متحسّساً الجني الطيب وهو ينساب كطيور متناهية الصغر تطير وتحلق مابين أناملك، هواؤها الماء. وأنت تواصل الدعك دون أن تغفل عيناك، فأنت منذ الآن ملكٌ وهذه الحبات رعيتك الجديرة بالحنو والحب. الأرز في الإناء الفسيح والماء عليه مثل الرحمة تَنصَبُّ بلا توقف. طقس الغسل هذا ضربٌ من فن مداعبة حبات الأرز براحة اليدين فيما الماء يجري ويفيض. تبدأ بالدعك بضغط خفيف يقسو ثم ينحو إلى اللطف حد المداعبة. يداك تقلب الأرز مغموستين في الإناء تحت الماء، والماء يفيض ويتغير ويصفو وتذهب عكورته، فيما تواصل الدعك بلطف يتيح لك الإحساس بحبات الأرز وهي تتخلص من المادة النشوية. لترى إلى الأرز يخلع أرديته المنشاة مثل فتاة تتخفّف من ملابس عرسها البيضاء لفرح وشيك، مما يمنحك شعوراً بتحول حبة الأرز من الخشونة إلى النعومة شيئاً فشيئاً، حتى ينصرف الماء المتعكر المحمل بشوائب الحقل والصوامع.

3

لا يتوقف الغسل حتى يصبح الماء في الإناء نقياً خالياً من شوائب المادة النشوية تماماً. فإذا بدأتَ ترى الحبات تتلألأ في الماء واضحة جلية، تكون قد أوشكتَ على منح الأرز ذاكرة جديدة تتيح له الحلم بمستقبل النار الرهيفة. فليس أن تغسل الأرز من الماضي، لكن أن تضعه على عتبة المستقبل في جاهزية الجسد النظيف للحفل. وفي هذا يكمن السر الذي سيجعل الأرز بعد النار ناصع البياض وينفح المسك، طويل الحبة، متألقاً بصورة تغني الوجبة. فالطبخ لا يقتصر فحسب على الخطوات التطبيقية اللاحقة، إن فن الطبخ يبدأ منذ الخطوة الأولى لاختيارك نوع الأرز وبراعتك في غسله بأناة ورفق، فمن الحكمة أن ترفق بالرعية لكي تمنحك المحبة.
وبقدر ما يتسنى لك الشعور بأن عملية الغسل هذه ممتعة ولذيذة، تتوفر لك فرص أكبر للحصول على أرز غاية في اللذة. الماء ليس ترفاً بالنسبة للأرز، على العكس فأنت قد تستغني عن الماء في بعض طرق إعداد الأرز، لكنك لن تستغني عنه في الغسل. هنا تتأسس المتعة منذ اللحظة الأولى التي تختار فيها الأرز وتضع يدك عليه وهو في الماء الجاري. إن اتصال حبات الأرز بتاريخ الحقل من الأصالة بحيث تظل المادة النشوية عالقة بالحبة قميصاً يحميها ويذكرها ببيتها الذهبي الأول. ويقال إن في كل حبة أرز من المادة النشوية ما يكفي للصق تسعة من طوابع البريد الصغيرة. و أعرف شخصاً ابتكر وضع حبة الأرز ذاتها بين تروس ساعة اليد المضطربة للتحكم في الخلل الذي يؤثر في انتظام الوقت.

4

ثمة أسطورة تقول إن طول حبة الأرز أو قصرها يتصل بساعة الرَيّ ومصدر المياه التي تروى حقل الأرز. فإذا كان المزارع قد ذهب إلى حقل الأرز ليلاً وكان قد خرج تواً من سرير زوجته وصادف أن الوقت ليلاً والقمر في منتصف الشهر ساطع ينعكس ضوؤه في صفحة الماء وهو يغمر الحقل الهادر من أعالي الأنهار المنصبة من الثلوج، سيكون هذا جميعه طالعاً حسناً من شأنه أن يمنح المزارع طفلة جميلة وحصاداً وفيراً من الأرز بحبات طويلة وناصعة البياض. وسوف يعتقد المزارع في كل ذلك نذراً ناجزاً يتوجب عليه أن يؤديه في أول أيام الحصاد، حيث يمنح أول شخص يعبر الحقل مقدار تسع كيلات من الأرز تيمناً بحسن الطالع. ويقال إنه إذا صادفَ وكان أول العابرين امرأة، سيكون على المزارع أن يختار أحد أمرين، إما أن يقتل المرأة أو يتزوجها وإلا فسد حصاده كاملاً في الليلة التالية. وثمة من قال إنه، مع تقادم العهد بهذه الأسطورة، لم يعد هناك فرق بين زواج المزارع من المرأة وقتلها، فبعضهم يزعم أن بعض الزواج ضرب من القتل. والمزارع في سبيل حصوله على حصاد من الأرز ذي الحبة الطويلة الناصعة البياض، سوف يفعل كل شيء. مادام الماء الوفير يغمر الحقل فكل شيء في سبيل ذلك سيكون مباحاً، قتل امرأة أو الزواج منها.
من هنا نرى كيف أن الماء الوفير سيكون ضرورياً وحاسماً في مراحل عديدة من رحلة الأرز، منذ ساعة البذار حتى لحظة النار، ثم على المرء، بعد ذلك، أن يجتهد لأن يتخلّص من نسبة الماء قدر الإمكان في اللحظات الأخيرة من إعداد الأرز للأكل، فكلما كان الأرز معتدل الرطوبة، فيه من الماء ما يكفي فقط لأن يجعله ندياً لامعاً ببياضه زاهياً ومُزَهْزَهاً، توفر لنا طعامٌ لذيذ، يشتهي الشخصُ معه أن يتذكر جيداً شعور ملامسة تلك الحبات الناعمة بين راحتيه وهو يغسله في الماء الجاري. ويبقي أن نستعد للحظة النار الرهيفة.

يؤخذ على المرآة صراحتها

1

بل إن بعضهم وصفها بقلة الحياء، ولئلا نفترض مسبقاً جمودية المرآة أو حيويتها، ينبغي علينا التحلي بالتريث ورحابة الصدر وعدم التسرع، فليس بيدنا نفي طبيعة الأشياء، خصوصاً إذا كانت أشياء متصلة بالفيزياء الصارمة الخارجة عن سلطة التمني الأخلاقي.
حين تقف عارياً أمام المرآة وتكشف لك فضيحة صنيعك، فتلك من طبيعة المعنى المباشر للحقيقة العارية. بالتالي فإن المرآة لا تصدر عن عدوك أو خصمك، ولا حتى هي مندوبة مسابقات جمال الأجسام، عندما أخبرتك بواقع جسدك الذي طالما خبأته عن بصر الآخرين. تلك هي جريرتك، فلم تتوهم بأن المرآة ستشهد لك بما لا تتوفر عليه.

من جهة أخرى، أنت لا تقدر على اقتناء مرآة تشي بغير الحقيقة، ليس ثمة مرايا من هذا النوع يمكن أن يشتريها المرء، لتعكس له ما يحب أن يراه كل صباح في مرآته.
تلك هي الحقيقة التي يعلنها لك شخص وهو يخبرك:
''أريد منك أن تقول لي الحقيقة''.

غالباً ما نصادف الكثيرين وهم يزعمون ذلك في العديد من مواقف الحياة. حتى لتخال أنك مطالب بأن تتحول إلى صانع مرايا من أجل توزيعها على كل من يسعى إليك يطالبك بقول الحقيقة. وأحيانا تشعر بأن ثمة اندفاعاً مذهلاً لدى الجميع نحو البحث عن الحقيقة، حقيقتهم أو الحقيقة عما يصنعون أو الحقيقة في الواقع.

حالما يأخذك الحماس إلى مثل هذه الظاهرة، وتتهيأ لاستلام المبادرة الطيبة، وتستعد لرد التحية بأحسن منها، متفائلاً بأن ثمة أشخاصا مستعدين لتبادل الأنخاب مع مزاعمك سعياً وراء الحقيقة، فتبدأ في نصب مراياك ومسح الغبار المتراكم عليها لفرط تعطلها الطويل، وصقلها بالنوايا الصادقة، وصَفّ أقداحك الجديدة وسكب نبيذك القديم، وتبادل الأنخاب حدّ الترنح لتشجيع المرايا على الجهر بالحقائق المكبوتة.
للحقيقة طقس لا يتأخر عنه المولعون بالشمس في ليل المعنى.
وإذا حالفك الحظ، ومنحك الله القدرة على صياغة ما تظن أنها حقيقة رأيك، يتوجب عليك أن تتأهب لمراجعة نفسك تسعين مرة، إزاء وهمك المبالغ فيه، وأنت تجهر بما يتوجب عليك أن تواصل كبته والاحتقان به وتجهيز النفس للموت عليه، قبل البوح والنوح.
فالواقع أكثر قوة من مرآتك.

2

أرخ مرآتك بين الماء والفضة،
تطلع لك الملائكة الكسلى،
ويتفتح لك الورد أبيض أبيض.
أرخها،
ترى فيها ما ينام في قلبك
وما ينتبه له عقلك.
وإذا جاءك السؤال عن المعنى
قل هو من مرآتي
وهي ترى ما لا أراه
قل هو علمٌ يصدر عن زئبقٍ
ويغري بذهبٍ
ولا علاج له سوى الأصغرين فيك.
ماء محبوس في زجاجة الناس
لا يرى في الحقيقة غير وهم وشيك.
قدحٌ مقهورٌ

يتداوله العامة ويقصر عنه الخاصة
وليس للحديد سلطة عليه.

تنهـدات حـارس الحلـم

1

كأن الكائنات تتنفس الصعداء دفعة،
وتكتشف جمالاً مؤجلاً في حركة الكون
كلما تيسر لها عضوا في حرية الريح.
نترتْ الأيائلُ أعناقَها بوردة الزعفران،
مباغتة،
باحثة عن جذر الصوت
وشعرت بدبيب النيزك تحت أظلافها.
تسمع الصوت الجسور الصادر من القلب
فتأخذه القلوب قاطبة،
ثمة نداء غير مألوف
يتصاعد كبخار بركان منسيّ
منسرباً في فضاء شاسع
فيض غامر يتلاطم
مختلطاً بحبات الرمل المنثالة كزئبق مغناج
أجساد غضة تنضح براءة ومشغوفة بالأفق
تمرح على سطح معدن في النار وتحسن البوح
مثل بلور الذهب
تحت طـَرق ثقيل ورتيب بحنان الحديد.

2

من يجرؤ،
كأن الكائن الأعظم قد انبثق بغتة يهمّ أن يقول شيئاً
وفيما أخذت الأيائل تضع الصوت
على دورة الدم والعضلات
ينتابها عاج العقل وفزع القلب،
فتحتدم الكائنات متدافعة في مداخل لا مرئية،
لا تدرك على وجه التحديد
ما إذا كانت تهم بالخروج من مكانٍ أم الدخول فيه،
وفي لحظة تقاطع برج الولع ببرج النسيان
نهضت الكائنات وهي تخلع قمصاناً مضمخة بالصهد
وجسارة الطرق المشحون بالوفاء.
التفت الكائن ليرى الغبار المثار في مواقع حلمه
همّ أن يقول الكلام فسبقته الكتابة،
وطفق سرب رهيف من الفراشات يتغلغل برشاقة الهواء
تفتح شمساً توشك على الاكتمال مثل قميص البرتقال
في صيف النار
شمس تهطل
كمن يمسح زجاجة القنديل برداء الآلهة.

3

يا الله
إرأفْ بأيائلك المهدورة،
وافسح لها مكاناً في الكتاب.

4

وضع شخصٌ عينيه في بياض كتاب
لا ليرى
لا ليقرأ،
لكن ليلثم النص بسواد عينيه
ويمنح دفئاً لكلماتٍ
تغرغر بها حلمه في وردة الجنون.

5

سمع النحيب،
سمع قهقهة أطفال يتصاعدون من نوم كثيف،
سمع الحروف تقرأ المعنى وتهطل دمعاً
سمع الغيمة الشفيفة تمر بين صدغه وزغب ورق يجهش،
سمع وحشاً أعمى،
فمال بعنقه المتعبة لينال قسطاً من راحة القلب على أريكة

6

عيناه مشرعتان
مثل ذئب يتدرب على النوم في مشارف الغابة
أيقظه ضوء قنديل شاحب يتأرجح
كمن يضلل فتية يفرون من جهة
يبحثون عن جهة أخرى،
رفع رأسه المتعبة ليلمح تلك المرأة ذات الوشاح الأصفر
تحمل قنديلها وتهدي الظلام ليهجع باكراً
سمعها تهمس لكائن غير مرئي:
يتركونك لكي تنسى،
ينسونك
وأثر حديدهم على جسدك.
اخـتبرْ قدرتك على النسيان لكي يقفوا في ذاكرتك،
تخفف من الوهم عن كاهلك،
ينسونك،
وتدرب ذاكرتك على النسيان.

7

وقبل أن يستدير لكي يستطلع الطريق،
طوى كتابه المطروح على الحلم،
وطفق يحنو بأصابعه على حرير الصفحات
ورقة بعد ورقة،
بهوادة من يقرأ الوصية
والنص في الترتيل.

8

ماء ثقيل يتسرب في تلافيف أصابعه،
ثمة أخبار تريد امرأة البيت أن تقولها للمارة في ظلام المكان،
غير أنها لا تريد أن يكون ذلك عن طريق الكلام
تعرف فصاحة الصمت ووزنه،
الإصغاء ومتنه.
للمرأة صمتٌ فادحٌ
اعتادت أن تخاطب به ناس المكان والوقت.

9

- هل أنت سادن الفكر؟
- لا، أنا حارس الحلم .

لكم دِينكم،
وللخارجين الأجلاء دَينٌ عليكم

كلما جُنَّ قلبي بكمْ
تسنى لكمْ،
كلما نالني ولعٌ طائشٌ
تماثلتمُ بالحميم من الجرح
وخالجني أنني جَرسُ الناس في ظلكمْ

قبلتم بحصة من يستجير من الحلم بالنار
خلعتم عن الجسد المتهيئ للريح ريشَ الجناحين
قايضتمُ بالنبيذ القديم على الملح في البحر
طرحتمْ على قارعة السوق ما طابَ للمشتري
من خيوط القميص الذي ستخفّ السماءُ على ساعديه
عرضتمْ تأويلَ أحلامنا في الظلام المريض من الليل
بعتم لنا ما تبقى من الوهم تهويدةً

تسنى لكم صدفة أن نموتَ قليلاً من اليأس
لفرط الأملْ
تراءتْ لكم فجأة وردةٌ للعملْ
فارتجّ ميزانكم
وفاتت فهارسكمْ أنَّ ثمة شيئاً يَضيعُ:
تآويل أكبادنا والحديث القريب من القلب
والمعدن الذهبيّ الكريم الذي ادخرته النساءُ
لأزواجهنّ وهم يرجعون من البحر
يستجوبون الدماءَ

فاتكمْ أن ما تقبلونَ به في ظلمةِ النص
يفضحكمْ في الشفق
قبلتم بعينين مفقوءتين
ومعجزة فاتها اللهُ والأنبياءُ
قبلتمْ بمن يقرأ تاريخنا بالمماحي
ويُنعشُ كنزَ الضغائن،
ينتابنا مثل غيبوبة
كي يكفّ الأدلاءُ عن وصفهم للأفق.

تسنى لكمْ
أن حرية الماء بابٌ
أن الهواء البخيل دليلٌ على شغف الدرس
أن في النص لصٌ لكمْ.

نورس يرسم البحر بجناح مكسور

أيها البحر
منهمكون في مشاغلنا منفصلون عنك. نمرّغ وجوهنا العطشى بتربة قديمة مثل السنوات العجاف. ونستفُّ الرمل بوهم الماء، نلتفت إليك خلسة. نرمقك بأحداقنا الخاشعة، خشية أن تنسى ملامحنا الحائلة لفرط تسارعنا راجلين بين اليأس والأمل.

يا بحرنا
لم ننسك. لكننا ذهبنا بعيداً عنك. سنحتاج وسائط غير العوم لكي نصل إلى موجك الحنون، ونحن بحاجة لأجنحة كثيرة لكي نشم عطرك الأبيض. ربما توسلنا الخيال لكي نتأكد أنك لا تزال هناك، وأن ثمة سواحل تصونك منا وتحميك عنهم.

يا بحرنا
لم تعد المسافة تحول بيننا وبينك، لكنه الخجل العميق لفرط ما نهدره من لامبالاة تهددنا بمحو تاريخك الفذّ الذي أسس لحياتنا، وصاغ طبيعتنا، وصقل مرايا مستقبلنا الشاحب.

يا بحرنا
لا تصدق أننا في غفلة عنك، لكننا في سباتٍ جاثمٍ على كواهلنا، دون أن ندرك الحدود الرهيفة التي تصلنا بأكثر الأسماك لذة وحرية، كلما وجدنا أنفسنا في مكانٍ بعيدٍ عن بيوتنا، مضطرين لتجرع سمك غريب في بلاد غريبة.

يا بحرنا
لم تزل سفننا راسية بموانئها في انتظارك. فلا بحر مثل زرقتك يمكنه أن يخفَّ بهذه المراكب لتأخذ طريقها إلى السفر. زرقة قانية مثل قلب العذارى تحمل هذا الخشب الحزين نحو الأفق الرحب الذي ورثنا حلمه من آبائنا، يوم قالوا لنا إن البحر هو طريقكم الوحيدة المأمونة الجميلة إلى الحياة. طريق سالكة في السفر والإقامة.

يا بحرنا
أمس فقط، فيما أسرد على أبنائي حكاياتي الطريفة عنك، محاولاً بسط المزيد من المبررات لكوني، برغم هذه العلاقة المديدة، لم أحسن العوم ، شعرت بأنني كنت أجلس في زرقتك محدقاً في أعماقك عارياً من القرائن أمام أحفادي، فيما أحدق في القمصان الزرقاء التي خسرتها دون أن أتعلم الغرق في موجك. فأبدو مرتبكاً في حضرة أبنائي، متلعثماً أمام البحر، مثل نورس يحاول رسم البحر بجناح مكسور.

يا بحرنا
هل أنت بحرنا لاتزال؟

يا بحرنا
هل نحن أبناؤك؟
هل لنا حصة في مائك؟

محاولة لتقليد البحر

يكون قد استيقظ قبيل خروجه من النوم، قبل تركه وسادته طويلة الليل، وربما يكون في سادسة السرير. سيكون هناك يرعى ناره الثملة التي أشعلها قبل النوم وأجّجها في الأحلام.
نارٌ سكرى لفرط المخيلة بنشاطٍ رشيق.
ففي الليل لا يكون الشاعر نائماً،
انه يعمل.

تبدأ اليقظة بالمسارعة في ترتيب أحلامه سريعاً لئلا تهرب منه ريشة من جناح أحلامه الهائمة. يرتبها مثل أرشيف في رفوف. بمثل هذه الذخيرة يجوز للشاعر أن يعتبر نومه رائقاً ونهاره جديراً بالمباهاة.

في السادسة، على الأرجح، يطير مثل مسحور من ليل السرير إلى ليل المقعد الاسود بمسنده العالي حتى السديم، كمن يخرج من ليل إلى ليل.
ليل الكتابة هذه المرة.
يطلق الضوء في شاشة جهازه الخرافي.
نافذة صغيرة تطل على مجرّة كاملة في برهة من الوقت. يسارع في ترويض ناره السكرى في أسطر بالغة القصر، كثيفة التركيز، ذكية الذاكرة، لئلا ينسى من أحلامه شيئاً.

ستكون "جهة الشعر" فارهة الضوء، مكنوزة الأحداق، مزدهرة المخيلة. طقسٌ يسبق تدفق حقيبة البريد. وفيما الرسائل تنهال على مهلٍ بالمدخرات الرهيفة، سوف يبدأ في تصفح سريع لصحافة الصباح:
المحلية أولا، ثم العربية. عناوين ما حصل، والذي يؤكد ما سيحصل.
يقرأ تفاصيل ما يستدعي. ويعطف بحنان على صفحات الثقافة. "السفير"، "الحياة"، "النهار"، "القدس"، "المستقبل"، "الشرق الأوسط"، "الخليج"، وباقي القائمة. مثل صياد الهواء في غابة.
يحصل أن يصادف نصوصاً ينتخب منها ما يشعر بأهمية إنقاذه من النسيان في أرشيف مجهول ليضعه في مهب كتاب مأمول، ففي "جهة الشعر" تبقى النصوص وصنائع المخيلة في متناول المستقبل.
ما يرد من رسائل سيكون زاخراً بأصدقائه وندماء "جهة الشعر"، غالباً ما يكون من بين الوارد أسماء تكتب له للمرة الأولى. فرحه بها سيكون مميزاً. كل صديق جديد يشكل نافذة جديدة على ما لا يُعرف ولا يـُدرك ولا يطال، صديق جديد عند كل منعطف. ثمة سبب جديد لاحتمال الحياة.

يسمع الحركة تدبُّ في الدار.
"مهيار"، عادة ما ينهض أكثر بكورية، لكونه منهمكاً في كورس عمل صيفي في شركة النفط بتنظيم من جامعة البحرين للتدريب على التخصص الذي يتخرج منه العام الوشيك: هندسة ميكانيكية. يمر ليلقي تحية الصباح فيما يأخذ رشة عطر من الزجاجة المشاعة في رفّ المكتبة.

بعد قليل تبدأ حركة "محمد" في غرفته المجاورة لمكتبي يستعد للذهاب إلى مشاغيل عزيزة انتظرها سنوات: مناسبة خطوبته، وقد أخذ إجازة خاصة من عمله في جامعة البحرين لهذه المناسبة. يجوب مجرات العالم يوميا لانتقاء ما يليق بتأثيث الحلم. أشعر بغبطة من يصقل ألوان لوحته الجديدة. لن ينسى رشة العطر هو الآخر: خطوبته الوشيكة مع "ميسم" تمنح العائلة فرحاً جديداً.
أرقب هذه التجربة بارتباك كبير.
الأبناء يكبرون ويجبروننا على ادراك حركة الزمن ليدركنا.
شخصياً لا أجد نفسي ملزماً بـ"ذلك". تجربتي مع ابنتي البكر "طفول" منحتني شباباً جديداً، وعندما جاءت الحفيدة "أمينة" صار العمر في أوله.

ماء الصباح نعمة قبل أن تنال منه شمس الصيف الصباحية، أحبه بارداً ينعش الجسد والروح. حصة الماء صباحاً تضاهي بقية النهار. فبعد درس الماء، سوف أعود سريعاً الى الكتابة. لكن في حياة الكاتب، ليست الكتابة هي فقط. ثمة الحياة. فالكتابة هي فن الحياة أيضاً. كل يوم من الأسبوع سيقترح شكلاً لا بأس به من الحياة.

يحلو لي أن أؤثث يوم العائلة شخصياً، بقيادة "أم طفول". يحلو لي، مثلاً، أن أجعل يوم السمك مميزاً في كل مرة. ففي البحرين لدينا نعمة قديمة، بأمل أن لا يفسدها مصلحو الكون الجشعون، لا أفرط في جعلها من متعي اليومية القليلة. فكلما شاهدت البحر في طريقي شعرت باطمئنان بأنه لا زال بمقدوري الحصول على سمك طازج غداً. وسرعان ما أقرر أن غداً على منتظره بعيدٌ جداً: لا تؤجل سمك اليوم الى الغد. فأترك كل مشاغلي وأخربط برنامجي، أصرف النظر عما كنت ذاهباً إليه، وأتوجه مباشرة الى سوق السمك في "سترة"، حيث يتاح لي هناك دائماً العثور على سمك جاء من البحر تواً.
حتى القصيدة يمكنها أن تنتظر،
السمك الطازج لا ينتظر.

منذ وعيت على البحر، وأنا لا أتناول سمكاً قديماً، القديم عندي هو الذي تم اصطياده أمس. ولكي استمتع بوجبة السمك لا بد أن أشتري السمك بنفسي من السوق مباشرة، وأتأكد من كونه طازجاً طرياً أتأكد منه بيدي، ودائماً أعرف بسهولة، مثل كثيرين في البحرين، ما إذا كان السمك من صيد اليوم أو من صيد أمس. (ثمة مثل شعبي مذهل يقال، لوصف من خسر خسارة فادحة وأصبح في حكم المنتهي: "راح من صيد أمس".
ترى لماذا نشعر غالباً أننا في هذا العالم "من صيد أمس"؟

عندنا، السمك الذي يأتي الى السوق من البحر في اليوم نفسه لا يعتبر سمكاً "ميتاً". لا لأنه ليس كذلك، ولكن لأن طزاجته ستكون متألقة إلى هذا الحد.
أكثر من هذا، سيكون مألوفاً أن تقف في السوق أمام بعض أصناف السمك وهو يتقافز في قفيرته كأنه لا يزال في بحره الصغير. حيث يكون لا يزال حياً بالفعل وليس بالافتراض، وهذا بالضبط ما يجعلنا نشعر بحياة السمك حتى لو بدا هامداً لكنه طازج لا يزال محتفظاً بلمعة عينيه الفذة.
لا يستطيع أي شاعر، بمخيلته النشيطة، أن يصف سمكاً على هذه الدرجة من القدرة على الذهاب عن البحر محتفظاً بجماله وحيويته.
كـأن حياتنا هي التقليد المرتبك للبحر وكائناته.

تعرف القاعدة جيداً،
تكسرها بشكل ممتاز

( 1 )

في غمرة الرجعة، متعددة الأشكال، سوف نصادف من يرجع عن سياق التجديد الذي سبق أن أعلن عنه، ليس في الحياة وحسب، إنما في النص، فكراً وأدباً، أيضاً وخصوصاً. وهي رجعة لا نستغربها، لكننا نشهق مع الجيل الذي يأتي مشحوذاً بالأحلام، مفجوعاً بمن أعلن المستقبل ثم سرعان ما استراح في سقيفة الماضي. نشهق مع جيلٍ يأتي إلينا بلهفة المستغيث فيجد القدح مشحوناً بالرمل.
غير أن هذا ليس المشهد كله...نقول للجيل الجديد.
ففي الحياة ما يغري بالشك في الوهم الذي يسوقونه، على امتداد الجغرافيا والفيزياء، بوصفه الحلم الأوحد الأخير.
غير أن هذا ليس المشهد كله... نقول للجيل الجديد.
فكلما تفاقم التقهقر نحو الأسلاف، تضاعفت ضرورة نقض القواعد من الأساس، من الجذور، من لحظة النص الأول وبلا هوادة. فكل حركة للرجوع عن حيوية المستقبل الماثل، هي بمثابة التكريس الفجّ للقعود عن ورشة الأحلام.
لكي نتميز بيقظة المقاتلين، حيث أنّ هناك دائماً قاعدة ما ينبغي نقضها دونما الاكتراث بالجثث، علينا الكفّ عن الشك في مقدرة الكتابة على وضع النص على طاولة الحياة دون الخضوع لحدودها الخشبية. فلم يزل لدينا من الوقت ما يكفي لكسر القاعدة لحظة الكتابة. نكسرها على طريقتنا، برصانة المعرفة، فأنت حين تعرف القاعدة جيداً، يمكنك أن تكسرها بشكل ممتاز.
هذا هو الدرس الأول...نقول للجيل الجديد.

( 2 )

سيصادف الشاعر الجديد هذه الحقيقة عاجلاً أم آجلاً. وليس ثمة طريقة لتفادي هذا الأمر، إذا كان الشاعر يمتلك موهبته وثقته في الحاجة الشعرية لتجاوز القاعدة. تجاوز القاعدة حق مشروع للمبدع، إذ لن يكون مقبولاً كل من يزعم الشعرَ دون أن يكون كذلك. فالشاعر لكي يكون شاعراً بالفعل، عليه أن يؤكد أنه لا يلعب بنا "لئلا أقول يلعب علينا".
يأتي الشاعر إلى الكتابة بشهوة وصف الأشياء بالشيء الذي لا يمكن الكلام عنه بغير اللغة، بغير الشعر. وحق الشاعر علينا أن نحسن الإصغاء إليه، لكي يتسنى لنا معرفة اقتراحه الشعري في نصٍ سهرَ عليه الليل كله، وهو نصٌ سيكون مشابهاً للشخص كلما كان الشاعر يصدر عن صدقه الداخلي لحظة الكتابة، وهو صدقٌ لن يخطئ في اكتشافه القارئ الشفيف والناقد الحصيف، وخصوصاً الشاعر القرين. ولن يكون سهلاً على الشاعر، فيما يتعرف على لغته وأدوات تعبيره، أن يرتجل تجاوز القاعدة بحجة الابتكار، دون أن يشي نصه بمعرفة صارمة بخطورة هذا الفعل على الصعيد التقني للتعبير الشعري.
لك الحق في التجاوز... نقول للجيل الجديد.
لكن ينبغي أن يحدث ذلك بجدارة مبدعة. فلن يخدعنا شخصٌ يزعم أنه ينجز نصه الإبداعي على طريقته، دون أن نتأكد أنه أدرك سرَ طريقة الذين سبقوه. ليس بضرورة السفر بمنطادهم، ولكن بمعنى اكتشاف التجربة السابقة كخبرة إنسانية تمنح الشاعر، وهو يضع جسده في مهب الجديد، قوة الحب وجرأة المغامرة من أجل هذا الحب.

( 3 )

الحب والمغامرة إذاً، هما من طبيعة الاتصال بالكتابة الشعرية، فمن دون أن تخترقك شرارة العشق لن تحسن الكتابة عن الحب، "أعني الشعر". والذين يأتون إلى الكتابة بلامبالاة النائم ومن دون اكتراث بالأحلام، لئلا أقول الاستهانة بها، سيتحتم عليهم عدم التفاجؤ بالخيبة الكثيفة التي ستصادفهم في المنعطف التالي مباشرة، فليس الحب سوى أن تضع روحك في شغاف الانخطاف مستسلماً لما لا يقبل أقل منك كاملاً، وأحياناً لن تكون كافياً ولا جديراً، الروح والجسد والأحلام المتوارية خلف النص وقبل المعنى بقليل.
لكي تكون جديراً بالحب، لابد أن تكون قادراً وجريئاً على المغامرة. هذا كله لا يتأتى للشاعر إلا بمعرفة أسرار القاعدة التي لعب بها السابقون، وخصوصاً أن هذا الشاعر، الجديد دائماً، سيكون مرشحاً لكسر القاعدة ليتمكن من صياغة نصه بشكلٍ يناسب روحه وجسده وشغفه ومنتهى أحلامه.
لذلك لا يجوز أن يتذمر الشاعر الجديد عندما يسأله الآخرون عما يعرفه عن أصول السابقين، وهو يتنطع لنا بأنه سيخرج عليهم ويبتكر خريطته الجديدة نحو الكنز، خشية أن لا تكون خريطة السابقين كافية كدليل إلى الحجر الكريم المكنوز في الأقاصي.
أقول، لا يجوز له أن يتذمر، فعليه أن يقطع الطريق على السدنة بأسلحتهم المشهرة كلما حاول أن يطرح صوته المختلف وطريقته الغريبة في تجاوز التخوم ونقض القواعد وإعادة صياغة التضاريس وهندسة الطبيعة.

( 4 )

سيقال،
أن من لا يعرف الأبجدية، كيف له أن يحسن الكلام.
وسنقول هذا صحيح.
وسيقال أن من يجهل مزج الألوان كيف يقدر على رسم الشمس في رحلتها الخرافية بين الشرق والغروب،
وسنقول هذا صحيح.
وعندما يقولون أن الشاعر هو من يقنعنا بأنه يحسن القاعدة بشكل جيد، ليكسرها بشكل ممتاز،
سنتأكد أن علينا أن نأخذ هذا الدرس بقوة...
ونقول هذا للجيل الجديد أيضاً.
ونقول أيضاً،
أن هذا درسٌ لا يقتصر على حقل الشعر والأدب والثقافة فحسب، ولكنه يتسع ويزداد رحابة ليسع السياسة والمجتمع والحياة على غير صعيد. ومن لديه أذن فليسمع.
هذه هي التجربة التي تضع الأعضاء الفتية في ورشة الحلم الجديد، مدججين بالموهبة والمعرفة، مؤمنين بأنك حين تعرف القاعدة جيداً، تكسرها بشكل ممتاز...
... نقول للجيل الجديد.

لا تخدمْ ملوك العرب ولا تملك عبيدَهم

عيناك تقطران دماً لفرط السفر، فترى معي تلك المرأة المنتظرة. وتعرف دفء الغيبوبة في حضن امرأة مثلها. كم امرأة صادفت بعدها؟! لن تقدر أن تتذكر العدد. فهو كبير. الأصدقاء الكثيرون الذين أعرفهم عندما يتذكرون أمهاتهم أو زوجاتهم، لا يقدرون إلا على وصف الملابس والوجه واليدين، وخصوصاً اليدين، لأنهم يرتبطون بالمرأة التي تقدم لهم الطعام غالباً.
إنني أجنح إلى تذكر الحضن بالذات، ذلك الحضن الشاسع، في لحظات التيه والبرد والرحيل. أشعر به يحتويني مثل جنين لم يولد بعد. وربما هذا ما يجعلني أنجو من الموت مراراً. عندما أكون في مشهد القتل. لا تكون أماً فحسب، بل التعويذة التي تتقمصني لئلا أتأخر عن العودة.
لم نعرف لها أثراً منذ سنوات، وما سمعنا بموتها، فهي على الأقل لم تمت بعد، حسب إدراكنا لمصادفات هذه السلسلة الجهنمية التي نمعن في التوغل في مجاهيلها.

ها نحن،
أمّـنا لم تمت،
وهذا مدعاة ليأس أقل .

دعني، ستعرف إنني، برغم طاقتك الأسطورية على السبر والمعرفة، أكثر منك اتصالاً بمستقبل الأيام. العرافون ما كانوا ليقولوا نبوءاتهم لولا استغراقهم في الهذيان المحموم. لم يكن العقل دليلهم لكنه هذيان الأحلام. وها أنت تريد أن تدفعني عن شرفتي الملكية. تريد أن تستدرجني إلى هاوية العقل والأمل : شفير التريث.
آه لو أنك ذقت معي لذة ما استطعمه الآن، وتمتعت بحلاوة الجسد الذي أضع عليه أعضائي. آه لو أن جهنمي الحميمة التي تستحوذ عليّ هذه اللحظة مسّت شغافك لكنت ألقيتَ بنفسك تحت الأذيال المتوجة، ليتسنى لك شيئاً من العذوبة. لكنك أسيرُ شهوة الملك. موشك على التفريط بوصية أمنا.
أَتذكرُ ؟ّ! قبل أن نغادرها في ذلك الصباح الشاحب .
أنسيتَ ؟! ما كان لك أن تنسى وصيتها الأخيرة...
كانت تقول:
" لا تخدم ملوك العرب ولا تملك عبيدهم ".
وقتها كان بيتنا الطيني يعطي ظهره لملوك الروم، ويتطلع نحو السواد. لم نكن القرامطة بعد. لكننا فهمنا تماماً تلك الوصية.
الآن يصح لي أن أسميها النبوءة.
تعال إذاً...
ولا تحاول إخراجي من هذياني، عنصر حياتي الوحيد. تعال لنقرأ معاً وصية أمنا المنتظرة في مكانٍ ما، تلك الوصية التي تُرجمت إلى لغات الأرض دون أن يفهمها البشر، وخصوصاً العرب. ويراودني شعور بأنهم لا يريدون أن يفهموا. لكننا - أنت وأنا - نفهم على الأقل، وهذا يكفي. أن نتوغل في هذيان النص.. يكفي.
سترى كيف يطيب لنا الخلقُ، بدرجة ما يستهوينا الهدم. سترى أنك ما أن تكفّ عن محاولة شدّ كتفي لتثنيني عن الغواية، وتخرجني من حالة الترنح التي استعذبها، ما أن تكفّ عن ذلك، وتعمل على وضع أعضائك المعطلة على هذا الجسد الفاتن الذي يمتلكني، ما إن تفعل ذلك ولو لمرة واحدة على الأقل، فسوف .. يكفي.

 
يتبع ....
السيرة الذاتية
الأعمال الأدبية
عن الشاعر والتجربة
سيرة النص
مالم ينشر في كتاب
لقاءات
الشاعر بصوته
فعاليات
لغات آخرى