الوحيد وحده
يذهب إلى الباب يفتحه. لا يرى أحداً. يعود، يتناول الجريدة ويواصل القراءة. وبعد دقائق يرمي بالجريدة ويتوجه إلى الباب، يفتحه، ينظر في الخارج، لم يكن هناك أحد. يغلق الباب ويعود إلى جريدته. وبعد دقائق يكرر العمل نفسه. تضطرب الزوجة، فتسأله عن الأمر. يجيبها بأنه كلما ذهب ليرى من عند الباب لا يجد أحداً، إنه أمر غريب حقاً. فتخبره الزوجة:
"ولكن أحداً لم يطرق الباب"،
يقول: "هذا هو الغريب، عندما أفتح الباب لا يكون هناك أحد. إن أحداً لم يطرق الباب"،
تسأله الزوجة: "لماذا إذاً تذهب إلى الباب وتفتحه وتنظر إلى الخارج؟"، فيقول لها: "لا أعرف، ربما يكون أحدهم قد طرق الباب دون أن نسمعه، فمن غير اللائق أن يأتي شخصٌ لا نتوقعه ويطرق الباب ولا نسمعه فلا نذهب لفتح الباب له، لابد من احترازنا".
يكمل جملته الأخيرة، وينهض متوجهاً ناحية الباب. يفتحه وينظر إلى الخارج فلا يرى أحداً. يغلق الباب ويعود إلى جريدته. والزوجة تتأمله في ذهول ويداها مشغولتان بخيوط الصوف والإبرتين الطويلتين. بعد برهة تبدو الزوجة كما لو أنها تكتشف الباب لأول مرة، تتأمله قليلاً، ثم تضع الإبرتين وخيوط الصوف جانباً، وتنهض متوجهة ناحية الباب، تفتحه وتنظر إلى الخارج فلا ترى أحداً، تدخل وتغلق الباب وتعود إلى صوفها والإبرتين الطويلتين، تواصل العمل، فيما ترمق الباب بخفر واحتراز.
في الشعرية
(1)
أمضيتُ إجازتي في إعادة قراءة "أناشيد مالدورور" للوتريامون، لكي أجدد ثقتي، في ما أنا مؤمن به، وهو أن الجماليات الشعرية الغامضة، صعبة التوصيف، ستكمن دائما في حرية المخيلة المطلقة لحظة الكتابة،
ولقد كان ذلك كافيا وجديراً لأن أستعيده معكم في هذا اللقاء.
( 2 )
ثمة لحظة تاريخية باهرة، يمكنني استحضارها في معرض الحديث عن شعرية الكتابة العربية، فمنذ أن وصفت قريش محمداً بأنه شاعر وان القرآن هو ضرب من الشعر، منذ تلك اللحظة أعلنت السليقة العربية امكانية خروج الشعر من القصيدة، وسوف أرى في ذلك الموقف أعلاناً نقدياً ليس من الحكمة التفريط في منظوره او تفادي احتمالاته الثقافية أو التقليل من شأنه المعرفي، وهو يصدر في أوج التجربة الشعرية العربية المبكرة.
( 3 )
الشعرية هي نقيض الواقع،
هكذا كنا نكتشف الفن كلما توغلنا في الحياة، فكلما كانت طبيعة الكتابة بالغة الجمال والجدة والذاتية تيسر لنا أن نزعم بأننا نقدر على تقويض عناصر الواقع بوصفها أوهاماً لكي نعمل على تشييد عناصر الابداع بوصفها أحلاماً. الفن إذن هو نقض قبح الواقع وموضوعيته الفجة بجمال الابداع وذاتية المبدع.
إن أية محاولة أدبية تسعى لمجاراة الواقع، أو محاكاته، ستكون بمثابة اعادة انتاج للواقع وليس خلقه، فعملية الخلق الابداعية هي القرين البشري لمضاهاة الآلهة، ولهذا فإن الشعرية لا تنشأ الا بهذه المخيلة الحرة التي تصدر عن ثقة في حق تقويض الواقع القبيح وخلق الحلم الجميل، وبهذا فقط نستطيع الزعم بأن الحياة ستكون محتملة وجديرة بالعيش، ربما لأن الحياة التي نحب ليست ما تزعم الحقيقة لكن ما نسعى إليها بكامل حرياتنا. ومن هنا بالذات تنشأ الفكرة الشعرية في الكتابة وفي شتى الفنون التعبيرية.
( 4 )
فعل المخيلة هو شرط الشعرية في جميع الاشكال الفنية وانواعها، فأنت لا تستطيع أن تخلق فناً بجلافة الذهن وعقلانية الفكر. المخيلة هي النشاط المشروط الوحيد الذي يقود عملية الخلق، وهي البوتقة النورانية التي تنصهر فيها كافة تجارب ومخزونات المبدع الثقافية والمعرفية، وليس لسلطة أن تفرض شرطها على شرط المخيلة.
الشعرية هي هناك، في الكنز المكنون الذي يمنح الكتابة الجمال والجدة في اللحظة نفسها.
( 5 )
شعرية المبدع لا تقلد أحداً، ولا تستعيد اصولاً، الشعرية هي دائما تنشأ بوصفها اصلاً جديدا للحياة في كل ابداع جديد.
( 6 )
الشعرية هي أيضا طاقة المخيلة على ابتكار الصور الجديدة والموضوعات الجديدة أيضا.
تتجلى الشعرية وتتألق كلما نجحنا في تعطيل قوة الرقابة على عمل المخيلة لحظة الكتابة.
( 7 )
من هذه الشرفة الرحبة الفسيحة الأرجاء، سون نرى إلى شعرية العمل الابداعي، وفي كل يوم سوف نتعلم درساً جديدا يمنحنا الطاقة على التحديث الحميم في الأفق المتاح لمخيلتنا، والمشحون بالصور الفاتنة التي لا تنتهي.
عندما جئت من القصيدة باحثاً عن آفاق جديدة لكتابتي،
وعندما جاء أمين صالح من السرد باحثاً عن آفاق جديدة لكتابته،
لم نكن نفرط في شعرية تجربتنا في الجانبين،
أولا لأن الشعرية العالية التي كانت تميز تجربة أمين صالح هي التي قادته لإمكانية بلورة كتابته دون التوقف عند حدود الأشكال، ولعل في صدوري عن القصيدة، بشتى اجتهاداتها، يشي بأن ثمة امكانية لجماليات أكثر حرية ورحابة سوف تفتحها أمامي الشعرية بلا حدود.
(8 )
أمين صالح وأنا صديقان متصلان ومنسجمان في الرؤى والتجارب والحساسية الفنية، وتجربة الكتابة المشتركة بيننا لم تولد عبر نقاشات ذهنية، لكنها ولدت بشكل عفوي جدا..
بدأنا "موت الكورس" وهو بالأساس كان مقدمة لمشروع نشتغل فيه معاً، منذ عام 1984، وهو كتاب "الجواشن"، لكننا رأينا نشره منفصلا.
جاء أمين صالح من تجربة الكتابة القصصية "
بروافد فنون أخرى هام بها أمين صالح من أهمها السينما، وجئت من الكتابة الشعرية. ترى ماذا يشكل هذا اللقاء، متسلحاً بحريات رؤيوية وفكرية وفنية لا حدود لها، عندما يستجيب لغواية الكتابة ؟! بعد أن قطعنا شوطاً في ذلك المشروع، تكشفت بغتة فكرة "موت الكورس" – دون أن نطلق عليه اسم بيان.
أردناه أن يكون نصاً أدبياً بعيداً عن التنظير السائد . وكنا فيه نحاور ذاتنا أكثر مما نقدم خطاباً للآخرين. الشيء الوحيد الذي تمنيناه على القارئ هو أن يعيد النظر في كل ما ورد في النص من المؤكد أننا نعني جميع النصوص على الإطلاقط وأن يهدم النص بعد اكتماله. ويبدو أن هذا الهاجس هو الذي يتحقق في علاقتنا في ما نكتب. فنحن نؤمن – بما لا يقاس – بأن كل ما يكتب من نصوص لا ينبغي أن تكون مقدسة، فنياً، ومن الخطورة التعامل معها على هذا الأساس. وأخشى أن مثل هذه الرؤية هي التي تفزع بعض الذين يرون أنفسهم ، ككيان أدبي مستقر ومكرس ، في درجة القداسة التي يرجونها لنصوصهم ، بالنسبة لنا ليس النص هو المهم، لكن المبدع ، وكل أشياء العالم لابد أن تصير تحت سطوة الشك والمساءلة والنقض أيضاً .
في "الجواشن"، الكتابة أيضا لم تكن متتابعة أو متسلسلة أو منطقية، كنا نكتب بشكل غير منظم، أنا أكتب جزءا فيأخذه ويبدأ، ربما من حيث أنتهي، وأحيانا يكتب هو ثم يعطيني فأقرا فأقرأ، وقد أبدأ من منتصف ما كتب، المهم أنه أثار مخيلتي.. الأمر الآخر أننا كنا كثيرا ما نستبدل الأدوار، أكتب سردا ويكتب هو شعرا مع المعرفة بأن أمين روائي وأنا شاعر..
لم نتشبث بأسلوبنا الخاص، لم يكن يعنيني ان أكتب بلغتي الشخصية ولا هو أيضا، كنا نبحث ونتحقق في أسلوب ثالث، النص هو الذي كشف لنا ذلك بعد انتهائه.. والغريب أن هناك أجزاء كثيرة لم نستطع¬ بعد صدور العمل ¬أن نحدد من كتبها فينا؟! وهذا يعني أننا لم نكن أنانيين حيث لم يحاول أحدنا تغليب أسلوبه على الآخر.. كنا نستسلم لاندفاعات العاطفة والصور والمخيلة، ولم نخطط أبدا للفصول والجمل والمقاطع، إذن كان الكتاب في النهاية يمثل محاولة لخلق صور فنية وشعرية في تجربة فريدة.
( 9 )
مثل الحياة، لن يتوقف الذهاب المستمر في البحث عن الشعر في كل ما يكتبه الإنسان، في كل فنون التعبير الإبداعي. فكلما توغل الإنسان في أدغال الأشكال اللامتناهية من فنون الكتابة، ازدادت علامات الحدود الشعرية غموضا وتداخلا، خصوصا بعد التفادي الإبداعي الذي يحققه النص الجديد بعيدا عن التخوم الواضحة والمتعارف عليها لفنون التعبير الأدبية (القصة، الرواية، المسرحية، القصيدة، السرد، الحوار، المقال، الفلسفة، التأمل... الخ). ففي كل هذا التوغل الفادح سوف تنهض بين يدي النص ملامح غاية في التنوع، وسوف يمتزج الشاعر، كفعالية، بالعديد من العناصر الفنية المألوفة والمبتكرة. وربما أدى ذلك عند الكثيرين إلى الإيمان بأن من الأجدى الذهاب في النص إلى الشعر وليس إلى القصيدة، أو حدود الفنون الأدبية الأخرى.
لكن، حتى الشعر، على إطلاقه، لابد أن يكون متجليا في ما يشبه القانون أو الحد الذي ينبغي أن يكون مستقراً في لحظة |فنية / زمنية، لكي يتاح لنا صياغة حكم القياس والقيمة على أساسه. وهذا الضرب من الاستقرار لا يضير حرية البحث لدى المبدع، على العكس، ربما كان هذا الاستقرار النسبي من شأنه أن يضع المبدع في مواجهة مسؤولية تفادي الوقوع في تقليد ما تم إنجازه واكتملت ملامحه وأوشك على أن يصير قاعدة، قاعدة تتهيأ لإعادة النظر والإضافة والتغيير والتجاوز.
ترى هل يجوز لأحد الزعم، دون قلق، أن ثمة ملامح فنية يمكن للناقد، دعك من القارئ، أن يقوم بتوصيفها في حضرة الكتابة الشعرية الراهنة.
ليس في هذا القول نية للتعجيز، على العكس، فربما كان القصور في مكان آخر غير الكتابة الإبداعية. من المتوقع في كل سياق يرافق التجارب الشعرية في تاريخ الأدب الإنساني، أن يتأمل النقد، وهو ما ينبغي أن يتحقق بضرب رهيف من الإصغاء للنص، ما يستجد من التجارب الأدبية، ويستخرج، من بين أهمها وأكثرها نضجاً وأصالة، حدوداً وملامح فنية من شأنها أن تشير إلى تميز التجربة الجديدة عما سبقها من تجارب.
وإذا نحن تجاوزنا المبالغات الرائجة عن فشل التجربة الشعرية الجديدة في اقتراح شروطها الفنية، فسوف نصادف عزوفاً، لا تبرره الصعوبة المتوقعة في التجارب الجديدة، عند النقد السابق عن الدخول في مغامرة الأسئلة التي تطرحها التجربة الجديدة في النص الشعري.
لابد أن نتميز بالجرأة والشفافية عندما يتعلق الكلام بأهمية البحث عن عناصر توضح الملامح العامة في التجربة الشعرية بهدف تأسيسها، فليس في نيتنا أن نحبس اللهب في المصباح ثانية، بل إننا نذهب إلى فتح المزيد من الآفاق أمام هذه النيران التي انطلقت مثل النمور، حمراء الأحداق والأشداق، خارجة وإلى الأبد، نحو الفضاء الأرحب.
أزعم أن بمقدور التجربة الجديدة أن تطرح على نفسها الأسئلة الصعبة وتواجهها. فمن شأن التجارب الجديدة أن تتميز بجسارة من يدخل الغابة مؤمناً أن ثمة أسداً غامض الملامح، غريب السمات، مكتنز الذخائر، يمكننا اكتشافه ومحاورة روحه الباهرة.
وعلى الكتابة الجديدة أن تقف عند جديدها لتدلنا على آفاق الشعرية الأرحب من القصيدة.
حتى "سوزان برنار" التي يستشهد بها العرب في الكلام عن (قصيدة النثر) كانت قد قالت: أن كل تمرد ضد القوانين القائمة لابد أن يستبدل هذه القوانين بأخرى، حتى لا يقع في اللاعضوية واللاشكل.
دون أن نكون مجبرين على أن نفهم من هذا القول ضرورة الركون عند شكل محدد، حين تتكشف لنا ملامح هذا الشكل أو ذاك.
ففي الحدود المألوفة بين الشعر وغيره، ثمة ما لا يقاس من قدرتنا على أن نرى في تلك الحدود آفاقاً مفتوحة لا تخوماً مسدودة.
( 10 )
إن مصطلحات:
القصيدة / القصة / الرواية / المسرح / النص ..
هي الوجه الثاني لمصطلحات أخرى، مثل:
الشكل / المضمون/ الايقاع/ الاسلوب/ ...
هذه المصطلحات من بين التعبيرات التي يمكن مصادفتها يومياً في السجالات الأدبية والنقدية خصوصاً حول قضايا الشعر والتعبير الأدبي. لكنني عادة لا أكون جازماً بأنها مصطلحات واضحة الملامح المعرفية في مشهد الحوار النقدي العربي. لذلك فان مثل هذه التعبيرات ستكون عرضة لما لا يقاس من التحول، إلى درجة أن طبيعتها الجوهرية تظل في مهب موهبة وطاقة كل شاعر ومبدع على منحها الملامح والحدود.
ربما لأن كلمة (الشكل) مثلاً، في تجربتنا الروحية والثقافية وحساسيتنا الشعرية، سوف تختلف بدرجة أو بأخرى عنه في متناول شاعر آخر، مما يجعل الأمر غاية في التعقيد. ويمكننا تخيل الأمر نفسه بالنسبة لمصطلحي المضمون واللغة.
نحاول توصيف حالة نصادفها دائماً. من طبيعة القدرة الإبداعية لدى الشاعر أن يتمكن من التعامل مع هذه التجربة المحتدمة بقدر واضح من الموهبة والمعرفة في آن واحد.
من هنا، أرجو أن تكون مثل هذه الظواهر مسافة مقترحة نتأمل طبيعتها المادية في حياتنا ونحاول أن نمنح أنفسنا قدراً من الحرية في الخروج على الحدود التي كرستها لنا التجارب الشعرية والنقدية السابقة، والتي صدرت عن وهم أن الشكل حد، واللغة حد، والمضمون حد، الأمر الذي جعل الشاعر يتحرك في غرفة مظلمة من ألغام نقدية تزعم أنها حديقة المستقبل.
( 11 )
لا نميل إلى الاطلاقات الملتبسة.
ثمة مسافة يتوجب أن ندركها بين العمل الإبداعي الذي تحدث فيه الأشياء، بآلية موغلة في الغموض والعفوية وأحب أن أقول البدائية أيضاً،
وبين العمل النقدي الناشئ عن التحليل والدرس، وهذا يحدث بآلية واعية ومقصودة متصلة بالذهن، مما يميزها عن عمل القلب والعاطفة المتأججة التي تحقق الأشياء وهي تعمل أشياء غيرها.
لسنا متطرفين في انتصارنا للشكل، على العكس أعتقد بأن هذا هو الموقف الطبيعي للشاعر، فالشعر والإبداع يأتيان بما يقترحه الشاعر لشكل الكتابة. وأخشى من أن أكون عاجزاً عن مجاراة ما تقترحه عليّ المخيلة أثناء الكتابة، وهي مخيلة غالباً ما تكون أكثر جرأة من جلافة الذهن وميل الانسان طبيعياً للنوم الصامت لحظة الكتابة،
وهذا الضرب من النوم خالٍ من المخيلة النشيطة.
لذلك صادف أن قلت ذات نص عن الجسد الذي يهوي فتنهره الروح.
سبق أن أشرنا، أمين صالح وأنا، في "موت الكورس" الى إرهاب القارئ، وكنا نعني تلك الجاهزيات التي يصدر عنها القراء وهم يخضعون، في اتصالهم بالنصوص الجديدة، لقوانين قديمة تشكل نقيضاً لأدوات التعبير الجديدة.
ونعني بالأخص المفاهيم السائدة في الثقافة العربية ، بتكريس من المنظورات النقدية التقليدية، وهي مفاهيم تجعل القارئ، بضغط من الناقد، يأتي إلى النص بقوالب مسبقة وأحكام تكاد تكون حديدية لا يقبل الخروج عنها، وبالتالي يجد نفسه مؤهلاً، بدعم من نقدٍ قاصر، للحكم مسبقاً على التجارب الإبداعية الجديدة بأنها ليست أدباً ولا فناً لمجرد أنها لا تستجيب ولا تطابق صورة الأدب والكتابة الثابتة في ذهنه.
الإرهاب الذي نعنيه هنا هو ما يقع على القارئ ويستخدمه القارئ بدوره على الكاتب. وأخشى أننا جميعاً سنقع دوما ضحية الجاهزيات إذا نحن لم نتواضع قليلاً أمام اقتراحات المبدع، ونخلع وشاح القضاة ومطلقي الأحكام، لنقف أمام النص كما نقف في حضرة صديق حميم يريد أن يهمس كلماته برفق وحزن ويمضي.
( 12 )
الشاعر، فيما يثبت قدرته الإبداعية، لن يتوقف، ولن تمنعه المواضعات الموروثة، عن ابتكار لغته: شكلاً وروحاً وتألقاً.
ففي حين لا ينبغي التنازل عن حق الشكل الجديد في الكتابة، ليس من الحكمة التفريط بحق المسّ الشفيف، لكن العميق، بالواقع الرهيب الذي من المبالغة الزعم بتفاديه لحظة الكتابة. غير أن شرط الفن الذي يقترحه علينا المبدع هو ما يمنح الشعر حريته الفنية وقدرته الفريدة في سبر هذا الواقع دون الخضوع له أو مجاملته. في الكتابة الأدبية، الشعر خصوصاً، لا معنى لنص بدون الذات العميقة فيه، بالمعنى الذي تنداح فيه شخصية الشاعر بحرية، ولكن بجمالية تقنعنا بأنها جديرة بتجاوز مواصفات الشكل المألوف، ويخالف المستقر الثابت.
الشخصية الذاتية للفنان في كتابته هي العنصر الفعال في اكتشاف آفاق شكل التعبير، ليس من الإنسانية التنازل عنها أو التفريط فيها.
( 13 )
حين نقول بحرية الشكل فإن ثمة نزوعا إلى العمق والجمالية والابتكار.
دون أن تشغلنا مسألة التسمية.
لماذا نشترط التسمية لأشكال حياتنا، كما لو أن أشياء حياتنا لا تأخذ مشروعيتها إلا بعد تسميتها وتصنيفها وتوصيفها، وبالتالي تقنين كينونتها وسرعان ما تصبح قانوناً.
هل نحن ضحية شهوة القانون لكي تأخذ حياتنا طبيعتها الوجودية ؟
وهذا ما يفسر الانشغال المضجر الذي يتكرس منذ سنوات طويلة إزاء التجربة الشعرية الجديدة، منذ قصيدة النثر.. إلى آخره .
أليست الكتابة هي الأهم ؟
إن حرية الشكل لا تتطلب سوى تشغيل المخيلة على الجانبين :
الكاتب والقارئ.
وما ينتج عن ذلك فإنه يأتي في ما بعد.
وعندما يتمكن الكاتب من إقناع القارئ بأنه إزاء نص قادر على النفاذ إلى النفس، فهذا جدير بالاهتمام. وخلال هذه العملية، سيكون علينا الإستعداد لإعادة النظر في كافة التسميات والمصطلحات المتداولة في التعامل مع الأشكال الفنية المتاحة.
ماذا يعني أن نقول قصيدة أو مسرحية أو قصة أو رواية. هل يمكننا الجزم، الآن، بأن مصطلحاً مثل "قصيدة" قادر على حمل الدلالة الفنية "والتقنية خصوصاً" على الخضوع للتوصيف الأول للقصيدة في الثقافة العربية التقليدية، هل هو مصطلح جامع مانع لذلك التوصيف ؟
الأمر نفسه بالنسبة للقصة والمسرح. ألا يمكننا العثور على انزياحات تعبيرية لأشكال أخرى مثل الشعر والسرد في العمل المسرحي، ألا نجد أيضاً سرداً رائعآً في العديد من النصوص الشعرية، ألا نجد في القصة التي تكتب الآن نصوصا شعرية ومواقف درامية و تألقا ملحميا؟
ما الذي يمنعنا من الإستمتاع بكثير من هذه التجارب بمعزل عن الإنشغال بتوصيفها "تقنياً"؟
إذن، أليس من حق المبدع أن يطرح الأسئلة الإبداعية على الآخرين، ومن بينهم النقاد؟ ألا يأتي الإبداع أولاً ويأتي النقد في ما بعد؟ المبدعون هم المكتشفون للآفاق في مقدمة الآخرين، ومن بينهم النقاد. و إذا طاب للبعض أن يسمي فهذا حسبه، وهو حر في ما يريد، لكن من المؤكد أنني لست معنياً بوضع أنفاسي في قوالب، أو وضع أحلامي ومعطيات مخيلتي في أطر. إن الكاتب يذهب ، في ما يكتب، نحو أشكال لا تتوضح إلا بعد اجتياز التخوم. وهنا يتوجب الإيمان بأن الحدود الموروثة لأشكال التعبير ستكون أكثر جدوى وفعالية وجمالاً إذا نحن نظرنا إليها بوصفها آفاقاً وليست تخوماً ، وعندها تصبح لحرياتنا معنى.
( 14 )
السرد هو أحد آليات التعبير التي أعتقد أن بامكانها ان كون أن تكون مكتنزة بالشعر. لابد من الاستفادة من طاقة السرد، إذا استثنينا الشعر القصصي بالمعنى التقليدي، فالسرد يمتلك جماليات مثيرة لا حصر لها. بإمكان السرد أن يغني القصيدة العربية ويساعد في اكتشاف الأفق المفتوح لها، لأنني بالمقابل أبحث عن أفق أكثر رحابة من خلال النصوص المفتوحة أو من خلال فنون التعبير الأخرى كالحوار والمشهدية والتقطيع السينمائي والسيناريو التي استخدمناها في نص "الجواشن".
( 15 )
ليس ثمة نهاية لهذا الأفق.
فما إن تبدأ في تأمل الأفق حتى لا يكون لمخيلتك حدود تمنعها من ابتكار الأشكال لحظة الكتابة. إن في الأفق اللانهائي للحياة الإنسانية ما لا يقاس من الأشكال.
إننا نفتح هذه الأشكال الثابتة على سبل ورحابة لا تقبل الإستقرار، تماماً مثل الإيقاع الحيوي لحياتنا الجديدة. والتوهم بأن الأشكال الجديدة من شأنها أن تلغي الأشكال المعروفة خلط ينبغي تفاديه. إنني لا أميل إلى هذا الاعتقاد. ففي الحياة متسع لكافة الأشكال، مادامت قادرة على التعبير عن التجربة الإنسانية. وسوف نجد في مستقبل الكتابة العربية العديد من الإبداعات التي تقترح علينا دائماً أشكالاً تعبيرية جديدة ومدهشة وجميلة. خصوصاً ونحن في سياق حضاري يجعل من وسائل الإتصال الفنية الحديثة عناصر غاية في التنوع لخدمة المخيلة النشيطة للفنان والكاتب في شتى الحقول التعبيرية. إنني لا أجزم بما يمكن أن تقترحه علينا الحياة غداً. إنني فقط أمعن في التحديق بمتعة في هذه الآفاق الباهرة التي تتصل بالتجربة الإنسانية. وأظن أن كل شيء في الحياة رهن الموهبة والمعرفة التي يتوجب أن تتوفر لدى المبدع في هذا العصر.
( 16 )
لا شيء يسعف التجربة إذا لم يكن الشاعر ممتلكاً لطاقته الإبداعية المميزة. عليه أن يبتكر شكله ورؤيته الفنية وطريقة تعبيره مع كل نص، دون أن يتنازل عن جماليات الشعر. ليس هناك قانون سابق سوى شعرية الكتابة.
( 18 )
إن أساليب الكتابة الأدبية هي أرواح تكتسب طبيعتها من حواس الشخص وطاقته الغامضة في شحذ مخيلة اللغة. وهو ما أعنيه بأن الشعراء كائنات لغوية. أقول ذلك وأحب التأكيد عليه لكي ألفت إلى أهمية الجهر بحق المبالغة في العناية باللغة عندما يتعلق الأمر بالتعبير الأدبي. ليس من الحكمة الزعم بعدم الاكتراث أو التهوين أو لامبالاة الشاعر بلغته لئلا يبدو منصرفاً عن مضمون وموضوع النص منشغلاً باللغة. إنني أرى على العكس من ذلك، فإذا لم ينشغل ولم يعتن ولم يسهر الشاعر على لغة تعبيره فبأي شيء ينشغل إذن؟ ان الانشغال الحميم والعشق العميق للغة هما مهمة الشاعر بالدرجة الأولى، وهما الشرط الذي من شأنه أن يميز شاعراً عن الآخر. أما الموضوعات والمضامين فهي التي لا ينبغي الاكتراث بها أو القلق بشأنها، لأن ذلك يحدث تلقائيا وعفويا وبفطرة الروح في جسد الشخص والنص، انه يحدث تماماً مثلما يحدث الحلم في النوم. لأن تجربة الإنسان هي بمثابة النسغ في الغصون والدم في الأوردة، من الطبيعي أن يتمثلها النص لحظة الكتابة. بل إنها شيء يتحقق دون أن يمكن تفاديه مهما زعم الزاعمون. إنه شأن داخلي يحدث في الباطن، غير أن اللغة هي فقط ما يستدعي الاحتفاء والاهتمام والإخلاص والعشق لكي تمتزج بالروح الداخلي للشاعر.
هذا بالضبط ما يجعلنا نفهم بأن الكلام ومواصلة الكلام عن التخوم المتوهمة بين الشعر والنثر وأشكال وأساليب التعبير هي ضرب من إهدار طاقة الشاعر في ما لا فائدة فيه لحظة الكتابة. دون أن يمنع هذا بالطبع انشغال النقاد في ما يذهبون إليه من اجتهادات، فهذا شأنهم دائماً. من غير الافتراض بأن الشاعر هو مساهم "نظري" ضروري في هذه العملية. أو التوهم بالافتراض بأن الشاعر سوف يكون قادراً على فهم وتفسير وتنظير كل ما يتعلق بالكتابة. أظن ان في هذا خطأ شائع يتوجب تفاديه.
الشعر شيء والكلام عنه شيء آخر.
المجاز.. مكر اللغة
1
في القول الشعري قولان، الأول: ما جاز لقلبك يجوز لعقلك،
الثاني: كل نص أدبي تنقص شعريته، كلما قصر عن المجاز. فأنت أقل من عازفٍ وأعجز من صائدٍ إذا جئتنا عارياً من المجاز. كأن المجاز هو وتر القيثارة والقوس في آن. وما عليك إلا أن تحسن تثقيف مجازك لكي تحسن الاثنين: العزف والقنص. على أن يكون "مجازك" رائقاً وقت الكتابة.
2
كلما انتبهتُ إلى نص أحببته وجدته زاخراً بالمجاز المدهش الكامن. ففي خِفية المجاز وتواريه وغموضه شرط الإتقان والتحقق الفاتن والجمال البليغ. سرية المجاز، بوصفه آلية التعبير، هي التبلور النوعي لتقنية القول الأدبي. حتى لكأن الكلمة تكاد لا تبين لفرط شفافية بوحها، أو لكأن المجاز فيها يفرط في الغياب لكي يكون باهر الحضور.
3
لن يكون لدينا قول شعري خصوصاً، وأدبي عموماً، من غير أن يكون المجاز متألقاً ومتقناً في شكله ومضمونه ومراياه. فالتشبيهات والكنايات والاستعارات هي بعض الأجنحة الكثيرة التي بواسطتها سيحلق المجاز مع النص الذي يزعم أدبيته. والذين ينأون عن المجاز في ما يكتبون، سوف يقعون في خذلان شنيع وهم يفرّطون في الشرط الأول للقول الأدبي. ذلك أن البلاغة هي ربيبة اللغة، ومن غير الصقل المستمر المتواصل لطاقة ابتكار المجازات سيتعذر علينا الزعم بأي منجز أدبي محتمل.
4
قل للمجاز ما تحلم به، يدربك على المغامرة ويأخذ بيدك إلى اللجّ. عليك أن تحسن الغرق أولاً، وأن تمتلك الريش كله لأجنحة توشك على الانبثاق. قل له صدقك يصدقك ويذهب بك إلى الغواية الناعمة. حيث الجرأة في خلق الصورة، وحيث الثقة في جوهر المعنى، والولع بزجاج المشكاة، والعشق لجمرة الكأس. ذلك هو المجاز الناضج الجريء. قل له، يخبرك عن مواقع كلمات، وتندلع أنهار الصور في كيانك.
5
وإذا أصغيت جيداً لهمس مجازاتك المخاتلة، ستعرف كم أن المجاز هو أيضا ضربٌ من مكر اللغة الذي لا يهزم ولا يقاوم.
مكرٌ هو بوصلة تغوي عقل القارئ وتهدي قلبه. ولكي تطيب لك لذة النص، يتوجب أن تكون قويّ القلب جرئ العقل، تقدم ببسالة على اكتشاف شجاعة المجازات، وتكون مدرباً على تجاوز التخوم التي ألفتها واستقرت عليها حواسك ومعارفك، ففي التجاوز شيء من المجاز أيضا، حسب لسان العرب وأهوائهم.
6
وإلا كيف يجوز لنا القول الشعري من غير أن نجتاز الطرق الجديدة، الطرق غير السالكة فنسلكها، الغريبة فنألفها، البعيدة فنقاربها، الغائبة فنستحضرها. وإلا كيف نزعم الأدب ونحن نتحصن بالتردد بوهم الرصانة، ونتذرع بالوضوح مفرّطين بالغموض، هذا الغموض الذي يمنح مجازاتنا الجمال الآسر الذي يستحيل علينا تفاديه كلما سعينا إلى عبقرية اللغة وتوأمة الشعر مع الحياة والحلم بها.
7
في "قاموس المحيط"، (المجاز: الطريقُ إذا قُطِعَ من أحد جانِبَيْهِ إلى الآخَرِ، وخِلافُ الحقيقةِ). والشعر هو بالضبط اختلافٌ عن الحقيقة ونقضٌ لها، خصوصاً تلك الحقيقة التي يريدوننا أن نعتبرها في "الواقع"، الشعر هو كشف لهذه الحقيقة، وفضحها في ضوء المخيلة ومكر المجازات التي ترى لنا عكس ما ننظر إليه.
8
وفي "لسان العرب" (أَجازَ الطريق قطعه، وأَجازه: أَنْفَذَه).
تلك هي الجرأة التي يسعى إليها المجاز، حين يتعلق الأمر بريادة القول وعمق المعنى وجوهرية المآل. فالطريق لا تصبح طريقاً إلا بعد أن يرتادها رائدٌ جديدٌ يكتشف مواقع الخطى فيها. والمجاز اجتياز جانح عن الطرق المطروقة، والطريق أن تطرق طريقة جديدة تكتشفها أنت، وتضع على تخومها قناديلك لترشد الآخرين.
9
وفي "اللسان" أيضاً،
(الجَواز: صَكُّ المسافر).
ومن غير هذا الجواز أنت مقيد محبوس محاصر في مكان واحد لا تروم إلى شيء جديد ولا تروم عن شيء قديم.
في حين أن أول ما يتطلبه المجاز حيوية الحركة وحرية المخيلة وحركية المعنى. ذلك أن الجواز اجتيازٌ حرٌ للمسافات وعلاج ناجع لجغرافية الدلالات.
فابتكر جوازك، وثقفْ أوتارك واصقلْ أقواسك وأطلقْ لعزفك العنان، اترك حبلك على غاربها، واصغ لهمس مجازك الرائق.
" لا تخف من الكمال، فلن تدركه "
1
يقول "سلفادور دالي" ذلك، فنعرف أنه يعمل على طمأنة المبدع بأنه يذهب في الطريق الصحيحة، كلما تشبث بأقصى ما يتطلبه خياله في سبيل اكتمال عمله. وأن عليه أن يتشبث بهذا السعي المتطلب الذي لا يكفّ عن التعالي وعدم الاقتناع والحلم بما يفوق ويتفوق.
حلم الاكتمال هو الشرط الذاتي العميق الذي يرصد عمل المبدع ويدفعه إلى نوع غامض من هندسة الإنجاز المتقن الدقيق، الذي سيبدو فيه العمل الفني، ساعات الشغل، كما الجوهرة بين يدي الجواهرجي الذي يسهر على التأني ليعمل بدأب على تحويل قطعة الفحم الخام إلى أعلى مراحل الأحجار الكريمة.
2
حلم الاكتمال الفني سنعول عليه دائماً كلما تعلق الأمر بما يهدد المبدع من شروط التسرع والارتجال التي تحيل حقل الإنجاز الفني إلى دائرة جهنمية من الفوضى الغبية، وتدفع الفنان إلى الارتجال في عمله، تحت ضغط الإحساس الفادح بأنه في سياق سباق مجاني مع آخرين من الفنانين، كما لو أن نتائج هذا الميدان "الإعلامي/ الاستهلاكي" الفج هو حكم القيمة التي تجعل المبدع متقدما في إبداعه. وهنا بالذات يتحول كلام سلفادور دالي إلى ضرب من سخرية أقدار، ربما لم يقصدها في أصل التعبير، لكن ثمة ما يتداعى في واقع الحقل الثقافي العربي، حيث ورشة وسائل الإعلام ووسائط الاتصال باتت تغري وتغدر بالعديد من الذين يبدأون حياتهم بقدر لا بأس به من الاهتمام بإتقان عملهم، لكن سرعان ما يتحول اهتمامهم إلى تلبية المتطلبات الخارجة عن شروط الإبداع، فيقعون تحت طائلة الارتجال الذي يحط من الطاقة الحقيقية لمواهبهم، فيصير الأمر بالنسبة لهؤلاء أقل بكثير من حدود الفن في جوهره.
3
بعد أن كان المبدع، حسب دالي، يخشى الوصول إلى الاكتمال فيفقد طبيعة البحث العميق في الفن ويخسر لذة الكشف والاكتشاف والتعبير، أصبح لدينا أعمال تشي بأن ثمة استسهالاً قميئاً يهيمن على الشروط العامة لما يتعمم من مختلف الأعمال الفنية في واقعنا الثقافي، حتى بات من الصعب والمحرج وصف ما يجري تداوله بالإبداع كقيمة فنية.
4
إن الخشية التي يشير إليها سلفادور دالي، من بين أعمق المشاعر الرصينة التي سوف تكون طبيعة صميمة من طبائع الفنان وهو يسهر على إنجازه، تلك الخشية التي ترى في متعاليات الكمال الفني حلماً يشكل قلقا مقيماً يمنع الفنان من الاستسلام للإعجاب والاقتناع السريع بعمله. ترى كيف يمكنني أن أثق في فنان يصدر عن الزعم المستقر بأن كل ما تصنعه يداه هو الإبداع الخالص؟
5
أستذكر كلمة "سلفادور دالي"، لكي أقول بأن الكمال ليس أن تدركه، لكن أن تسعى إليه بطاقة الموهبة وإخلاص المعرفة. ففي هذا السعي ضرب من استحضار شروط المستحيل في الفن. ذلك المستحيل الذي اعتبره الشاعر الفرنسي ''رينيه شار'' قنديل المبدع الذي يضئ مواقع خطواته دون أن يصل إليه.
الوسيمون يوقظون الغرائز
1
كأنما المكان يضيق بهم، وسيمون يتوسمون في الغفلة أن تنتبه قبل الموت. والوقت لا يسعهم، أليفون يثقون في الغرابة قميصاً جديداً لليل طويل.
2
في الشخص ميل إلى الحرية، يذهب إليها منذ النسيم الأول، والضوء الأول، والصوت الأول. ما إن يمسك بطرف حلم حريته سرعان ما تصرعه سلطات الكبح التي تتناسل مثل الطحالب، فتحول حياته مأزقاً، ليوشك على السؤال: تلك حرية أم جحيم.
3
ليس أن تقبل الفكرة لكن أن تشك في الطريق والوسائط.
4
من بين سرب طويل من المتقدمين لبيت المظالم، عليك أن تصغي لوجيب الدم في أوردة الصامتين، ممن لا يحسنون الكتابة، ولا يدركون الشحاذة، وليس لهم معرفة ولا خبرة في الوسائل.
5
تلك غريزتك الوحيدة التي يتوجب شحذها: الحب.
دع لفتية المغامرة أن يضعوا لك الجمرة في الإبط. حيث لا تهدأ إلا في فرس تهشل بك نحو الأقاصي، ولا تهنأ بغير اللذة الغامضة وأنت في شهوة الكشف. اجعل غريزتك القصوى في سياقها.
6
لا تصدق الواقع، إنه ضربٌ من الكذب. الحقيقة في المكان الآخر، حيث يكمنون لك بالفخاخ في منعطف يباغتك ويفجعك ويرديك. لكن لا تمت كلما قتلوك.
7
وسيمون، يتذرعون بالغموض لكي يطلقوا أسراك من صدرك. دع لهم الخيال ولن تندم. ليس مثل غريزتك الأولى دليل على حبك للحياة. دعهم، يصقلونك بالشك ويفتحون الطريق لخطواتك المتعثرة، لكي تشهد فضيحة الجهل بمرآة المعرفة.
وسيمون يوقظونك من بشاعة كرادلة يكرزون بك نحو الجحيم.
8
تلك جنتك يأخذك إليها فتية ينهمكون في العمل وقت الصلاة، ويعلنون الأنخاب كلما زعم الآخرون التهدج.
9
رأيتهم في مساء كئيب، يستفردون بالفرس التي استعصت عليهم في الزمن الصعب، حيث أخفقوا في اقتيادها إلى اسطبلات الامتثال وعربة الطغاة، وفي زمن الوهم جاءوا يولمون بها لتجهيزها لزرائب القطعان. رأيتهم كما في محفل عجزةٍ يجهزون على جثة وشيكة.
غريزة القلب دليلك الذي يرى لك.. وينظر إليك.
10
تشبث بقلبك،
واشتغل في هامشك الحر، تصقل القناديل بزيت الروح.
11
الوسيم في وحدته المستوحشة، لا يأنس لغير الذئب.
اللغة.. في حضرة المليكة
1
لا أحب إطلاق الأحكام على الأشخاص عموماً.
سوف ينطبق هذا خصوصاً على الشعراء. أميلُ كثيراً إلى الكلام عن القضايا الشعرية التي تتصل بالتجارب وبالرؤى الشعرية خصوصاً. وأجد في هذا أفقاً أكثر رحابة يتيح لي ملامسة الجوهر الأهم في الكتابة. ومع التجربة شعرت أن ثمة مسؤولية مشتركة سوف يتحملها الكاتب والقارئ، كلما كان متصلا بالكتابة، يتوجب أن يتوفر بينهما حد أدنى من الوعي بأهمية الإصغاء للآخر، الكاتب إذا كان صادرا من لحظة التجربة، القارئ كلما كان معنياً بلحظة الكتابة، إذا كان ذلك شأنه وهاجسه اليومي، وليست الكتابة والأدب ترفاً يزجي به أوقات فراغه. ليس في إطلاق الأحكام في حقل الكتابة الشعرية الجديدة حكمة كبيرة الآن. ثمة حاجة نوعية لتفعيل حوار عميق مع التجارب، وهذا الحوار يطلب درجة عالية من وعي ضرورة تبادل أنخاب التأمل الشعري "نقدياً"، في سبيل تصعيد البحث المعرفي في معطيات التجارب الشعرية البالغة التنوع في السنوات العشرين الأخيرة، وهي تجارب لا زالت تعوم في بحر متلاطم بلا منظورات نقدية قادرة على قيادة السفن الكثيرة نحو آفاقها الشعرية.
أحب كثيراً الكلام عن اللغة بوصفها أحد أهم عناصر الكتابة الشعرية، سعياً في البحث عن ملامح الفنارات التي تضيء مواقع قلوع السفن التي تملأ البحر باحثة عن موانئها الموعودة. مؤمناً أنها المكون الأساسي لقضية شعرية هي من صميم تجربتي الشخصية في الكتابة.
2
دائماً كنت أشعر أن ما يبقى من صنيع الشاعر، بعد كل شيء، هو اللغة.
اللغة بمعنى الروح الخاص بالشاعر في هذا الجسد اللغوي الحي الممتد عبر الكتابة المترامية الأطراف.
ما يميز الشاعر عن غيره هو حساسيته التي يستطيع أن يصوغها عبر تجاربه المختلفة، وقدرته على اقتراح اجتهاداته الخاصة في ممارسته حرية الابتكار في لحظة اللغة وهي تولد في هذا النص أو ذاك، حريته بمعنى أنه لا يقف من اللغة موقف العبد، ولكنه يتصرف مع اللغة كما لو أنه في حضرة مليكة تعشقه هو بالذات، وأنه حرّ في هذه الحضرة لكي يصنع حياته معها بلا حدود.
3
بهذا المعنى كنت أدخل في مغامرات اقتحام الحدود بين أنواع التعبير من جهة، ومن جهة أخرى أشعر بأن اللغة، إضافة إلى إحساسي بمسؤولية حق الحرية، هي ثروتي الشخصية التي لا تمنعني عنها سلطة ولا يشاركني فيها أحد، إلا القارئ الذي لا أعرفه.
من هنا أعتقد أن المتعة التي كانت تمنحني إياها تلك "الشهوة" إذا صح التعبير، تضاعف طاقة المخيلة لحظة الكتابة، بحيث لا أكاد أرى في تخوم أشكال التعبير إلا آفاقاً مفتوحة وليست حدوداً.
4
الآن،
لم تعد مسألة النثر والشعر تشغلني،
وليست هي ما يتوقف أمامها النص، عندما يبدأ في التخلق.
بالنسبة لي،
هذا الأمر يطرح أسئلة أكثر عمقاً وجدة. لذلك فإنني أشعر بالقلق دائما عندما أصادف شاعراً تشي كتابته بعدم الاهتمام، أو اللامبالاة، باللغة فيما يكتب. فيبدو مثل شخص يجتهد في تثبيت أعمدة الكهرباء ومد الأسلاك وتركيب الكثير من زجاج القناديل، لكنه لا يكترث بطبيعة التيار الكهربائي الذي يمنح الضوء لكل هذا البناء.
اللغة، بوصفها روحاً، هي الأهم في النص كما في الحياة.
إنها أجمل الثروات وأخطرها.
الشاعر لا يستطيع أن يحقق قدرته على الحضور الشعري خارج اللغة.
5
ترى كيف نفهم كلمة الشاعر ‘’اوكتافيو باث’’ عندما يقول "الشعر، امتثال لقواعد، خلق لقواعد جديدة" إن لم تدفعنا إلى التحديق المسؤول في مهمات الشاعر إزاء لغته؟
نحن نتوقع من الشاعر، فيما يتحرر من قيود القواعد القديمة، أن يقدر على اقتراح قواعده المبتكرة، الجديدة، لكن القائمة على شعرية اللغة، واكتشاف جمالياتها الفنية وعبقريتها الإنسانية.
كأن في الفن فتنة
( 1 )
والفتنة، في اللغة،
حسب ابن فارس: "الفاء والتاء والنون أصل صحيح يدل على (الابتلاء والاختبار)" (مقاييس اللغة 4 / 472). فهذا هو الأصل في معنى الفتنة في اللغة .
حسب الأزهري: جماع معنى الفتنة في كلام العرب: الابتلاء، والامتحان وأصلها مأخوذ من قولك : فتنتُ الفضة والذهب، أذبتهما بالنار ليتميز الردئ من الجيد. (تهذيب اللغة 14 / 296)
هذا ما نذهب إليه كلما قلنا بفتنة الفن. ويبقى على من يذهب إلى تأويله الديني، في الإسلام، فله ذلك غير مجبرين على الإعجاب بمذهبه وغاياته. رجاة أن لا يحسبن أنه الحق المبين في ما يقول ويزعم.
( 2 )
الفتنة في الفن، لكي لا تتوقف المخيلة الإنسانية عن شغلها لفتح شرفات المتعة على ما لا يحصى من التأويل، ففي حرية المخيلة قدرة الكائن على الإحساس بالجمال
الفتنة في الفكر، تبدأ عملية الانتقال جيئة وذهاباً بين عالمين، عالم الوعي وعالم اللاوعي
الفتنة في الحياة، وعي الإنسان بحق تقويض التخوم التي تحجبه عن حرياته الخاصة في التعبير بشتى أشكاله.
(3 )
أما الفتنة في الدين فسوف أتركها لنص القرآن، وليس من الحكمة اعتماد معاني الفتنة من الوجهة الدينية عندما يتعلق الأمر بالفن والأدب والإبداع.
لست قادراً على إقحام كتاب مقدس، حمال أوجه مثل هذا، لكي أعرف دلالاتٍ تخرج عن حدود معانيه السماوية الأخروية المقصورة عليه.
حمال أوجهٍ، إلى حد أن أي صبي، تعلم فك الخط تواً، يجد في نفسه شجاعة تبيح له إطلاق الفتاوى جزافاً ليحكم ويتحكم في حقول هي أبعد عن جهله.
( 4 )
عندي،
الدين هو شيء واحد.
أما رجال الدين، فهم أشياء كثيرة تستعصي على العد.
ولهؤلاء، بوصف كيانهم الإنساني الكريم، تقدير لبشريتهم ولاحترامهم حقهم مثل غيرهم، لا أكثر ولا اقل،
لكنهم، بوصفهم المزعوم، ليسوا في برنامج مشاغلي،
فما يؤمنون به وما يجتهدونه وما يجهرون به من مزاعم ويضمرون، مستبطنين به، من أوهام وما يطيش منهم كلما هموا بالكلام، فهو شأنهم فحسب، ولا يحسبن أن لهم سلطة على غيرهم بالادعاء والعسف والترهيب.
ثمة فرق كبير، ومسافة واضحة المعالم، بين كيانهم البشري المحترم، الخطـّاء عند كل رجفة قلب، وبين وهْم نيابتهم السماوية والبرلمانية.
فلست ممن يؤمنون بنواب الله على البشر، بعد الأنبياء، ولا ممن يؤمنون بنقل طقوس الدين ومواعظه من دور العبادة الى غرف العمل السياسي.
( 5 )
هل كان "مجنون ليلى" فتنة لاختبار اللحظة الراهنة من غير قصد.؟
هل يقدر عرض فني شعري، بهذه العفوية والبراءة الباهرتين، أن يضع أطراف المشهد الذي يعقّ على كواهلنا تحت الامتحان البسيط؟
لكي نقرأ التالي:
حكومة تقصر في الدفاع عن مشروع، يفترض أنه مشروعها، أرادت أن تقطف ثمار معاناة مجتمع برمته متلاعبة بالجميع.
جمعيات سياسية مأخوذة، لا تزال، بنتائج انتخابات موغلة في التلفيق لفرط فجاجة المحاصصة الطائفية التي سهر عليها مهندسو الكوارث على الجانبين.
سلفيون منفلتون في مهب الماضي يخرجون من الإسلام ويخرجون عليه، متخمين بأوهام الدفاع عن دين، آخر ما يحتاجه تشويههم له، طرحوا علينا صوتاً أكبر منهم، فيما هم، في الواقع، لا يساوون شروى نقير.
دينيون يتدربون على تشغيل آلة منافحاتهم الدينية في المكان الخطأ، وفي الوقت الخطأ، وبالعصى الكثيرة في عجلات المجتمع.
قيادات لم تزل تتخبط في معطيات قراءتها البائسة لتحالفات استراتيجية توشك أن تمسخ بها تاريخاً نضاليا بذل ذبالة روحه من أجل التقدم نحو المستقبل، يجري جرجرته خلف عربة تسعى حثيثا نحو الماضي.
علمانيون اضطربوا أمام خيار واضح بين الوقوف مع حريات الكائن في حياته وفكره ومخيلته، وبين بهلوانات القفز العالي على مكتسبات المجتمع الحضارية بأكثر الأدوات تخلفاً وفظاظة وجهلاً.
هؤلاء العلمانيون أنفسهم، أدهشونا بقدرتهم المذهلة على استبدال أدوات العلم بالمرجعيات التي لم تكن لتكترث بهم، فيما هي تصوغ فتواها من شرفتها الخاصة، لمشروعها الخاص، للخاصة من الطوائف.
(6)
من يدرك، إذن، ضرورة الفتنة لامتحان الواقع واختبار الوقائع.
فتنة هي الصقل الجسور لمخيلة الناس فيما يكتشفون طاقة الحرية في أرواحهم.
فتنة، هي أيضاً، وضع الجمال والإبداع بمثابة حكم قيمة على السلوك الإنساني في كل حقول العمل الحياتي. فتنة، هي خصوصاً، لكي نتيقن من حضور الشرط الأخلاقي في سعينا الحر نحو المستقبل. أخلاقٌ، ليس بوسعنا الزعم بالضمير، إذا نحن تخلينا عنها في التفاصيل قبل المبادئ.
فتنة تمنح للمجنون الجميل حق الجهر بجنونه في حضرة أكثر العقلاء غباءً وادعاءً وقبحاً.
"فلنزرع حديقتنا"
"في فرنسا يجب أن تكون السندان أو المطرقة،
أنا اخترت أن أكون سنداناً"
فولتير
( 1 )
منذ أكثر من مائتي عام، قبل أن تتبدى الثورات العربية، كان "فولتير" قد أطلق كلمته الدالة: "إنني مستعد أن أموت من أجل أن أدعك تتكلم بحرية مع مخالفتي الكاملة لما تقول".
لكأن هذه الجملة هي الاختزال الأبلغ لجوهر الممارسة الديمقراطية الحضارية التي استحقتها شعوب كثيرة قبلنا، فيما تصوغ حياتها القائمة على حق الحريات المدنية التي يناضل من أجلها الناس وتصونها المؤسسات الديمقراطية وتحميها المؤسسة الحكومية، بوصفها موظفة لدى الشعب.
من يستطيع الجزم، بلا قلق، أن الحكومات العربية التي تزعم الديمقراطية، وتطرح صوتها العالي على العالم بهذا الزعم، هي فعلا موظفة لدى شعبها وليس العكس؟
لماذا اشعر بأن هذا الاستدعاء الفاضح لفولتير لا يخلو من دلالات، خصوصاً عندما يطفح علينا كيل المزاعم من كل الجهات. دون أن يكون فولتير نموذجاً صالحاً لكل زمان ومكان، شأن ما يقولون عن الدين.
( 2 )
ليست الحكومات بريئة من ارتكاب فضاعات التلفيق، وإنفاق ملايين الدولارات والدنانير، لكي تصوغ لها سروالاً ديمقراطياً بقياس عوراتها التاريخية في محاولة لتحصين "أمن الدولة"، بشكل يناسب صقل الطريق اللائقة لإطالة عمر الوضع، حتى لو استدعى ذلك إنفاق ملايين أخرى من الدولارات والدنانير في سبيل اثبات أن ثقافة الديمقراطية تستدعي الضغط عليها بالمال، لكي يصل الى البرلمان من "يفهم الإشارة ويسمع الكلام"، ودائماً سوف تحسن هذه الحكومات أن تفعل ذلك دون أن تترك أثراً.
ليست الحكومات وحدها، لكن سياسيين آخرين أيضاُ يحملون عبء العار كاملاً، كلما تيسر لهم محو أثر دولة أثثت بهم مقصورتها الملكية لتقضي على بقية الأوهام الديمقراطية، التي ستجعل جثمان فولتير ينتفض غضباً في مثواه، كلما علا صوت أحدهم منافحاً عن تعصب هنا وعنصرية هناك وفاشية هنالك.
( 3 )
ترى هل هدأت "فزعتهم" على الثقافة والحريات العامة والصحافة وأشكال التنفس الطبيعي؟
لا أظن، فلديهم الكثير مما يدخرونه لهذا الشعب الذي يتجرع حسرته على سنوات التضحيات الطويلة من أجل حياة حرة بالمعنى الحضاري للكلمة. إنهم بالكاد يبدأون.
وعندما نتذكر فولتير، إنما نكون كمن يوقظ المعنى في الكلمة.
فليس من غير دلالة أن يقول فولتير "عنهم" بعد أكثر من مئتي عام: "إسحقوا الخرافة والتعصب الديني".
وقتها كانت الليبرالية تتماثل في ظهيرة عصر التنوير الجديد، من غير أن تطلق المزاعم، لأن الدرس كان طازجاً، والتجربة كانت من الغنى والتنوع بالاحتمالات، بحيث شكّل فولتير، ومعه روسو، جناحيّ التحليق المبكر لموقف المجتمع الحديث من فكرة صناعة المستقبل الجديد بجسارة من يؤمن بأن الدين هو الشأن الشخصي الخالص الذي ليس من حق كائن من كان أن يسألني عنه.
لئلا يأتي صبية تعلموا فكّ الخط تواً، يتسنمون عضوية برلمان يصاغ على قياسهم، مستحقين بجدارة تسمية "نواب الآخرة"، يأتون ليتولوا تربيتنا وتربية أطفالنا وإطلاق فتاواهم في شؤون "الجمع والمنع" في حياتنا.
كان علينا أن نستدعي فولتير بالذات، دون الزعم ببراءة هذا الاستحضار، من أجل المبالغة في فضح .. الفضيحة.
فولتير الذي كان يصرخ بمشاريع فرنسا الرجعية والإقطاعية التي تعثرت طويلاً قبل أن "تفهم" سلالة "الأكثر من لويس" بأن الديمقراطية ليست منحة يتكرم بها الحاكم، بمهازل انتخابية تعتمد فيها شتى أنواع الألاعيب "الديمقراطية" من أجل أن يأتي نوابٌ يسْـلـَحون على الديمقراطية ذاتها على مرأى من الشعب المغدورة أحلامه.
غير أن فولتير، لم يكن ملحداً بما فيه الكفاية، وهو يؤكد إيمانه بوجود إله واحد مبني على العقل. لكي يتأكد أصحاب "الفزعة" الديمقراطية أن ثمة من يحسن الذود عن فكرة الحرية بأشكال حضارية لا تنفي الله ولا تستقوي به على عباده.
هل سمعت من يقول مؤخراً : أنه ليس من حق أحد أن يستخدم اسم الله لإثارة الكراهية؟
كأنني سمعت هذا، غير أنهم لا يفقهون.
حتى أن فولتير الأقدم منهم لا يزال يقترح علينا تأمل التحالف التاريخي بين المؤسسة الدينية والمؤسسة الحاكمة، لا لكي نستعدي مثالبه، لكن لكي نتفادى غباءه الفكري وصلافته الفجة.
***
عندما وصلت مؤلفات لفولتير وروسو إلى لويس السادس عشر في سجنه قبل أن يعدموه، صرخ قائلاً: هذان الرجلان هما اللذان دمرا فرنسا!!
****
في عام 1715، حين مات لويس الرابع عشر، وكان وريثه “لويس الخامس عشر” طفلاً لم يبلغ الخامسة من عمره، عيّن فيليب الثاني، دوق أوراليان، وصياً على عرش فرنسا، وما كان من فولتير إلا أن سخر من الوصي ومن الملك الجديد لويس الخامس عشر في أبيات شعرية.
فقد باع الوصي على العرش الفرنسي فيليب الثاني، لأسباب اقتصادية، نصف الخيول التي تملأ الاسطبلات الملكية، وعلّق فولتير قائلاً :" كم سيكون عمل الوصي أحكم بكثير من ذلك، لو أنه طرد نصف الحمير التي تملأ البلاط الملكي".
***
حدث ذات ليلة، وفولتير في دار الأوبرا، أن تهكم عليه أحد النبلاء وسأله في خيلاء : "ما اسمك؟"
فأجابه: "اسمي يبدأ بي واسمك ينتهي بك".
*****
هكذا تكلم " فولتير "
"فلنزرع حديقتنا"
***
"هذا القرن شبيه بحورية البحر، النصف الأول منها جميل مثل أسطورة والنصف الآخر قبيح ومخيف في شكل ذيل سمكة".
***
"لو لم يكن الله موجوداً لوجب علينا أن نوجده".
***
"أنا أؤمن بوجود إله واحد مبني على العقل"
***
" ان الله ليس وقفاً على دين معين، انما هو الكائن الأسمى والعقل المدبر الذي يدير الكون"
***
"اسحقوا الخرافة والتعصب الديني".
***
"كل من ليس حيوياً ومستعداً للمواجهة، لا يستحق الحياة، وأعتبره في عداد الموتى".
***
"بما إنني وقح للغاية، فأنا أفرض الكثير من الإزعاج للآخرين خصوصاً المصابين بالبله".
***
"إن الذين يجعلونك تعتقد بما هو مخالف للعقل، قادرون على جعلك ترتكب الفظائع"
***
"أريد أن أمتلك الأرض بكاملها أمام عيني في عزلتي"،
***
"أموت في هذه اللحظة وأنا أشعر بعبادتي الله، وبحبي لأصدقائي، وبعدم كرهي لأعدائي، وبرفضي المطلق للمعتقدات الباطلة".
عبد القادر عقيل،
أن تذهب إليه بطفولتك لئلا تخطئ طفولته
1
ليس هذا شرطاً لقراءة عبد القادر عقيل، لكنني أقترح وقتاً نوعياً هو بمثابة المناخ الذي يستحوذ عليك فيما تستجيب له، تلك هي فسحة أملنا الرحبة في كتابة هذا الكاتب.
هنا، سيصبح عليك أن تنسى حديد سكة القطار المألوفة، ففي نص هذا الكاتب مداخل منسوجة من حرير المخيلة بخيوط بالغة الرهافة، لفرط الطفولة التي صقلت تجربته وأسلوبه ولغته. يكتب كأنه يحكي لنفسه في غرفته، في بيته، في كونه البعيد. لا يكترث بمن يصغي أو يقرأ إلا بوصفهم العنصر المكون للنص ذاته.
2
يحكي، ثم يذهب إلى النوم.. ثمة أحلام في انتظاره.
هذه هي البساطة المستحيلة،
هكذا بالضبط أستطيع أن أرى إلى لغته التعبيرية، إلى معظمها على الأقل.
ولعل هذا هو السر في جمال تجربة عبد القادر عقيل عبر مراحلها المختلفة، والمتباعدة أحياناً.
حين يبدو أسلوبه الطفولي في السرد متاحاً للقارئ، فذلك لأنه تعوّد أن يطلق للطفل الأزلي حريته في البوح، من دون أن يقحم عليه ما تعقّد وما تركّب في مخزونه الثقافي وتراكمه المعرفي، الأمر الذي بدأ يتطور ويتبلور عبر تجاربه السردية، قصة قصيرة أو رواية.
3
عنصران ثقافيان أسّـسا لأسلوبه السردي الذي تميزت به نصوصه الروائية: العنصر الأول تجربته المبكرة والمتميزة في كتابة أدب الطفل، والعنصر الثاني قراءاته ومعرفته الغزيرة في التراث السردي العربي، الصوفي خصوصاً، بمختلف جمالياته البلاغية. وإذا أضفنا، إلى كل هذا، نزوعه نحو حريات مخيلته الفنية، سوف يتيسر لنا اكتشاف مكونات تجربته الإبداعية في مجمل فعاليته السردية.
وظني أن عبد القادر بقي مخلصاً لـ "طفله" المكنون فيما يشتغل على صنيعه الأدبي، مثل ناسكٍ لا يتخلى عن قنديله في شتى الأوقات والفصول.
بهذا المعنى نستطيع أن نتفهم هذا التنوع الثري في تجربته، لكن من غير إدعاء ولا إعلان ضاج، بل في هدوء الطفل الخجول الذي يفضّـل طوال الوقت عدم الخروج مع إخوته، والاكتفاء بالجلوس في البيت لتأليف الأحاجي والألغاز، من أجل أن يبهر بها إخوته عندما يعودون من لهوهم.
4
في كتابه الأخير، يختبر عبدالقادر فن السرد بقصتين تشكلان إيقاعاً متوازناً طريف الرشاقة. القصة الأولى "اثنا عشر ذئباً على مائدتي"، مبنية على التفلّـت من الواقع وإطلاق نشاط المخيلة في صياغة الحكايات، فيما تنزع القصة الثانية ”أكاد لا أشك، لا أكاد أوقن" إلى لعبة تفادي المخيلة في سبيل اختبار قدرة الواقعية على مضاهاة الحياة، وإن كان هذا التفادي سيحدث بصعوبة مشوقة.
تشترك القصتان في كونهما تصدران من استعادة تجربة الطفولة، في الأولى تبدأ القصة برحلة مدرسية "فسحة استطلاعية هدفها الكشف والمعرفة، كما يقول الأستاذ عيسى مشرف الرحلة الذي يطلق إشارة الصعود إلى الباص". وما إن ينطلق الباص في طقسٍ ساكنٍ، متوغلاً بركابه الفتية في جغرافية الطبيعة، حتى ينقلب المشهد سريعاً وعلى نحو شبه أسطوري إلى طقس ماطر عاصف يأخذ الفتية والراوي والحدث إلى منطقة خارج الواقع. فعندما يلجأ الفتية إلى أحد كهوف الجبل هرباً من العاصفة، من المحتمل أن يتوقع القارئٌ أن يكون المكان هو أحد كهوف جبل الدخان، الكائن في منطقة الصخير بالبحرين. وهذا ما يحدث عادة في الرحلات المدرسية المحلية، غير أن هذا الظن وذلك التوقع لن يصمدا كثيراً، ففي الأدب ربما تصبح الرحلة نزهة المخيلة، ذلك لأن السرد لن يعود واقعياً، فالراوي كان قد قطع شوطاً في بناء سرده بأكثر الصور والشخصيات والمشاهد صلة بالتراث العربي، الممتدة من قصص القرآن حتى ألف ليلة وليلة، ولكن بشطح خيالي بالغ الشفافية. العاصفة هنا تستحضر أسطورة الطوفان "غمرت سيول الأمطار وجه الأرض"، حيث إعادة الخلق، فيغرّر بك أسلوب السرد بين طفل مذهول إزاء عاصفة شتوية ومطر كثيف "طلب مصطفى أن نخلع ثيابنا ونجففها حتى لا نتعرض للبرد"، وبين توغل المخيلة في وصف مشهد ميثولوجي يخترق الذاكرة البشرية قاطبة "علت المياه خمسة عشر ذراعاً، فخرجت الأفاعي والزواحف والحشرات بحثاً عن ملاذ".
5
الكهف هو أيضاً سوف يتجاوز كونه مجرد غارٍ في جبل، ليصبح "طول الكهف أربعين متراً وارتفاعه ثمانية أمتار وعرض فتحته خمسة وعشرين متراً / وبقايا هياكل عظمية/ وماء يخرج من شق صخرة، ماء عذب شديد البرودة تفوح منه رائحة طيبة".. هنا إعادة إنتاج لحكاية أهل الكهف. ففي غمرة الطوفان الذي بدأ يمحو الزمان والمكان في الحكاية، ضاع الجميع وبقيت الصفوة "لم يكن في المكان سوى أثني عشر شخصاً فقط". ولكي تكتمل أسطورة كهف عبد القادر عقيل نسمع مصطفى يقول "سنعيش هنا، نزرع ، نأكل، نشرب من الماء العذب لقد أتت الساعة لنقطع كل الروابط التي تمنعنا من الاستنارة الكاملة سنؤسس مملكة الحقيقة على الأرض". ألم يعدهم الأستاذ عيسى بأن هدف هذه الرحلة هو "الكشف والمعرفة"؟.
يحلو للسارد أن يؤثث المشهد بعناصر ميثولوجية إضافية، فنرى صراع قابيل وهابيل عندما يضرب الراوي موسى بحجر صلد على رأسه ويحتدم اقتتال غامض بين الفتية، في طقس دموي يزعم بعضهم أنه ضرب من التطهر / ضحكت وأنا أمسح دمه على وجهي وجسدي، وأخذت أمسح الدم على وجوه البقية، وحيث يقول مصطفى "قوموا، هذا يوم جديد من شهر جديد من سنة جديدة، وإن ما بلي من الوقت يجب تجديده
/أخذ منا التعب كل مأخذ، فخلد كل منا إلى النوم".
6
إلى أي حد سيكون عبد القادر مخلصاً لطفولته وهو يسرد علينا مثل هذه القصة؟ هل يصدر عن الذاكرة؟
ماكس جاكوب قال مرة :إن الذاكرة هي الخيال. وسوف أفهم ما يقترحه علينا مثل هذا النص من معنى. ففي الفن لا نكون منصفين إذا نحن قصرنا مذاهب النص على أنه تجلي لمعطيات "ذاكرة" الكاتب. الذاكرة تاريخ خاص، بينما الفن خلق خالص. الذاكرة، في العمل الفني امتداد للواقع، وفي الوقت نفسه نقض له وتقويض لمكوناته وإعادة خلق لعناصره.
ثمة آلية شبه واعية تقوم على التقويض المتواصل لبنيات السرد ومنطق الحدث وعلاقات الشخصيات، فسوف يمعن عبد القادر عقيل "أثناء مشهد الكهف، وفيما الفتية يخلدون إلى نومهم"، ليقول لنا عن حلم ينبثق في ذلك النوم، لنكتشف كم هو حلم يتصل بلحظة تجربته الكونية، ويتقاطع مع ملامح تاريخ عهد العنف الذي نام "عنه" أهل الكهف، مقترحاً دلالات رمزية تكشف عن عذابات الكائن وتجربته الإنسانية خارج الكهف "المعاصر".
ليس فقط اكتناز "معرفة" الكاتب بالتراث هو الذي دفعه لتكثيف الزخم الصوري في نصه، ولكن ولعه الذاتي بتلك الدلالات الغنية هو ما يجعله يمعن في صقل تجربته: في النص والشخص.
حتى إذا ما أفاق من نومه سوف يصيح به أصحابه: لقد كان التنين يعلمك ما لا تعلمه.
وإذا كان أهل الكهف قد استغرقوا في نومهم الخالد نحو ثلاثمئة عام، فسوف يظل المطر هنا "يهطل أربعين نهارا وأربعين ليلة ونحن بداخل الكهف معزولين عن العالم، ثم بعد اليوم الأربعين هدأت المياه عن الأرض، وشاهدنا قوس قزح في السماء، فكان إيذاناً بحياة جديدة، وعالم جديد".
7
لكن هذا ليس كل شيء.
فلكي يكتمل مشهد الخلق الذي يسعى الكاتب لاقتراحه في النص، سوف يسمع الفتية من كهفهم "صوت بوق شديد لم نعرف مصدره، وأخذ صوت البوق يزداد اشتدادا حتى يكاد يصم الآذان، ثم أصبح صوتاً لا يحتمل".
هل ثمة من ينفخ في الصور؟ هل ثمة قيامة وشيكة لخلق جديد؟
إن الطفل في السارد هو ما يرى في رحلته المبكرة نحو المعرفة والاكتشاف. وها هو الطفل يخرج مع الراوي لكي يكتشف ما الذي يحدث بعد الكهف والطوفان:
"خرجت من الكهف بعد أن وضعت الشمع في أذني، مشيت باتجاه الجبل الأسود. وما إن اقتربت كثيرا من الجبل حتى شاهدت شخصا بالأعلى متسربلا بثياب بيضاء ناصعة، كان محاطاً أظن بنور هائل أو نار مضطربة. أخذت ألوح له بيدي كي يراني، ولكنه كان يقفز برشاقة من سفح إلى سفح وأنا اتبعه. صرخت بأعلى صوتي عله يسمعني، ولكنه لم يكن يلتفت إليّ. لا ينزل ولا يتكلم ولا يراني".
ماذا يريدنا النص أن نقرأ في ما يصف؟
مَنْ ينفخ في الصور، ومن يشرف على الحشر من شرفة الجبل، وكيف يتسنى لنا الذهاب مع النص إلى كائن في مكانه "لا ينزل ولا يتكلم ولا يراني؟"..
"في طريق عودتي رأيت ألواحاً من زمرد أخضر، عليها كتابة بالذهب، فيها الأمر والنهي والتحريم والتحليل والسنن والأحكام".
8
"انظر يا صديقي كيف ترى البلاد"
لم تعد البلاد سوى جبل وصار البحر كمياه النهر
"انظر يا صديقي كيف ترى البلاد"
لم تعد البلاد سوى هضبة
"أنظر يا صديقي كيف ترى البلاد"
مهما أمعنت النظر فالبلاد لم تعد مرئية.
9
طفل يأخذ بتلابيب السارد. السارد شخص يخرج من حلم ويدخل في حلم آخر. وحين يعود إلى الكهف لن يرى أحداً من رفاقه الاثني عشر.
الذئاب التي كانت على المائدة.
"كثيرا ما نظن أننا نَصِفْ، في حين أننا نتخيل" يقول غاستون باشلار.
هل كان عبدالقادر عقيل مهندس تلك الظنون لكي نكون ضحية هذه المخيلة؟
فبعد تلاشي أثر الفتية، الذئاب الاثني عشر، حواريي التجربة، رفقة الكهف والطوفان وأهوالهما، يستسلم السارد إلى نوم جديد، لفرط التجربة، ثم يستيقظ جالباً أحلامه معه، حيث المرأة الحسناء تتراءى له : "أنا امرأتك، الملكة العظيمة، سيدة جميع البلاد، سيدة البيت، تجري الشمس في محاسن وجهي إذا برزت، ويضيء البرق من بين ثناياي إذا تبسمت، ترى وجهك في صحن خدي".
لكن هذا ليس سوى أضغاث أحلام تكشف عن خالق عابث يواصل نقل الكائن من حرير أحلامه إلى شفير كوابيسه. المرأة الحسناء ذاتها التي كان موسى قد وعد بها السارد عندما بدأ يغويه في أول الرحلة "بكبسولات صغيرة صفراء/ إذا أخذت واحدة فستجد نفسك داخل هذه الصورة مع هذه الحسناء"
هكذا إذن، ثمة امرأة الكبسولات التي يتدفق بها السارد تحت وطأتها، وحين يرفض الخضوع لسلطتها تتفجر صنوف العذاب من تحت يديها.
سلطة تعده بأرض خلود "حيث لا شقاء ولا تعب ولا نصب ولا كد ولا ابتلاء ولا اختبار ولا امتحان". تأخذه إلى الشجرة الضخمة/ تأخذه إلى الدرع والفأس والأفعى، لكنه يكون عصياً على الخضوع. "حين لم تجد عندي سوى الرفض أشارت وهي في فورة غضبها، فهجمت عليّ مخلوقات غريبة التكوين/ هجموا علي وقيدوا يدي بالسلاسل وأوثقوا رجلي بالحبال وانهالوا .../ بكيت من شدة الألم / تواصل التنكيل بي حتى شعرت بأن آخر زفرة في روحي قد أوشكت أن تنفلت مني".
10
سوف يعتمد الكاتب هنا على القطع السينمائي ليستعيد مكرراً ما يشبه المشهد الافتتاحي الأول: "الساعة التاسعة صباحا حين وصلنا إلى منطقة خضراء/ وصول الباص إلى منطقة خضراء مستوية تحيطها الجبال السوداء من كل جهة". ويستعاد المشهد بالتفاصيل ذاتها، بالتماهي الرشيق بين الواقع والخيال ذاته. حتى لا نكاد نوقن ما إذا كان السارد قد دخل في حلمه أم أنه قد خرج منه للتو.
سيكون في التكرار شبه الحرفي لمشهد البداية تلك الدلالة التي تأخذنا إلى الآلية الجهنمية التي يتعرض لها الكائن البشري يوما بعد يوم، وجيلا بعد جيل، في سلسلة متواصلة و متناسخة من العذاب نفسه، كما لو أن الآلهة تعبث بنا بلا هوادة.
لأن المشهد التالي سيكون في الكهف، فيما السارد نائم "وحيدا أحتمي بالنار الموقدة، فتحت عيني إثر حركة مريبة في مدخل الكهف، رأيت بين الدخان الرجل المتسربل بثياب بيضاء محاطاً بنور هائل" قال: "إذهب واحمل الخلاص إلى العالم كله، انشر غيوم رحمتك وخلص المساكين و المحرومين واليائسين والمسحوقين تحت حمل الحياة الثقيل، ومكن الشاطئ الذي يرحب بالغرقى و المنهوكين ألماً، حينها تلقى السعادة التي لا تزول، والكنز الذي لا يفنى، والحقيقة التي لا تموت، والحياة التي لا تعرف البداية ولا النهاية".
ويواصل مونولوج التلقين النبوي في واحدة من أكثر مقاطع النص جمالا ودلالة. "لا تفتح عينيك لكي تبصر، بل أغمضهما لتبصر جيداً". يصغي / ويرى/ ويصعد متجاوزا الكهف والشخص والاثني عشر ذئباً، ويتدفق النور "وبقيت أنا والنور الهائل الذي غطى الكهف كله، وصرت جزءا من النور".
مرة أخرى سوف يسعفنا غاستون باشلار فيما يقرأ معنا النص بوصفه مكاناً متعدد الجماليات، مفتوحا على سديم البدايات: ‘’حين نطالع العالم بألف نافذة من نوافذ الخيال، فإن العالم يصبح في حالة تحول دائم’’.
ليس بأقل من هذه الشرفة الشاهقة لكي نزعم أننا قريبون مما يذهب إليه عبد القادر عقيل. ثمة الميثولوجيا الشائعة في هواء الثقافة البشرية، يسعى الكاتب هنا إلى وضعها في سياقه الشخصي، تجربته الذاتية، تفجراته الطفولية، وصنيعه الفني نشيط المخيلة.
(11)
عندما قلنا عن البساطة المستحيلة في كتابة عبدالقادر عقيل، كنا نرصد هذه اللغة المتاحة والمستعصية في آن واحد. فليس للطفولة شبيه سواها، وكما أن اللغة الإشارية للطفل هي سره الخاص الذي يتضمن رموزه ودلالاته قبل التحليل وبعده، فإن اللغة في نص عبد القادر عقيل ليست للإيضاح بل للغواية والمزيد من التنقل من حلم إلى آخر، ومن مستوى إلى آخر من مستويات الدلالة.
وكما إن شخصيات القصة الواردة من لحظة الفتوة هي نسيج وحدها مجتهدة في صياغة النص، فإن ثمة شخصيات جديدة ونوعية يصوغها الحدث بالذات، متفلتة من لحظة الواقع، مقوضة منطقيته، لا تُـخلص له ولا تَـخلص منه.
ولعل في التعدد المتكاثر للمداخل "الحلمية" التي يتوسلها الكاتب فيما ينظر إلى "مكان العالم"، ما يمنح طاقة من التعدد الدلالي تدفع بالعالم إلى التحول المتواصل، مخترقا الواقع ومصعّـداً الاحتمالات القصوى للمعنى.
"لا أدري على وجه التحديد كم من الأعوام مضت ونحن في الكهف ننتظر أن يخلصنا أحد، أو أن يتوقف الطوفان حتى نجد طريقا للخروج، كنا في كل صباح ننظر إلى الخارج بانتظار قوس قزح الذي لم يظهر أبدا".
هكذا يختم السارد نصه، كمن يستدرجنا إلى عتمة السديم الخالق والمخلوق.
هذا عن القصة الأولى من الكتاب، فقط،
أما القصة الثانية "أكاد لا أشك، لا أكاد أوقن"، فسوف تتطلب شرفة أخرى، مثل الوقوف على العتبة الثانية من التهلكة.
(12)
مع عبد القادر، كثيرا ما نتبادل قراءة مخطوطات نصوصنا الجديدة.
وعندما استلمت مخطوطة هذا الكتاب، وطالعت عنوانه (اثنا عشر ذئبا على مائدتي).. انفجرت ضاحكاً.
لا تفسير لديّ لمثل هذه المصادفات الموضوعية، فقد كنتُ قد انتهيتُ تواً من مخطوطة كتابي الأخير، واخترتُ له العنوان التالي: "ما أجملك أيها الذئب"، لكي أسمع قهقهة عبد القادر بدوره وهو يرقبنا نتكاثر في ذئاب وفي قرابين.
غازي القصيبي،
قدمان في زرقة البحرين
يكتب كأنه يعيش،
أقصد كما يحب أن يعيش.
هذا ما أشعر به كلما ذكر غازي القصيبي الشاعر منذ أشعاره الأولى التي "من جزائر اللؤلؤ". فذلك الكتاب هو من بين الكتب التي تعرفت بها باكراً على صوت جديد مختلف في كتابتنا في تلك الفترة، وأعني كتابتنا، التي كانت الجغرافيا قيدا ظالماً لها في سنوات التأسيس الحديثة. ولعل غازي أحد المبكرين الذين نجوا من ذلك القيد، والذين انهمكوا في الكتابة بأفق أكثر حيوية من حيث الرؤية الإنسانية مضموناً، والأهم من جهة جوهر الأشكال والأساليب والأدوات الفنية، وهذا، في تقديري، هو العامل الحاسم الذي سبقنا إليه غازي من حيث جرأة الخروج عن القالب الذي تململ فيه بعض الوقت، بأشعاره الأولى، لكنه سرعان ما قال لنا كلمته الشعرية، فنياً، بقدر مشجع من الذهاب إلى الحرية.
هذا بالضبط ما قصدته بقولي أنه كان يكتب كما يحب أن يعيش.
وسوف يبدو للبعض، أحياناً، مثل هذا الطموح بمثابة الترف الفني، لكي يغمزوا إلى الترف الاجتماعي الذي اتصل به غازي عائلياً، لكن دون أن يقلل ذلك من حيوية تجربته الفنية، بل على العكس ربما ساعده ذلك على وضع موهبته الشعرية في مهب أكثر التجارب الشعرية في الثقافة العربية، التي كان الشعر فيها ضرباً من الإشهار الأول لكل من يزعم ممارسة الكتابة والأدب، ويضعها أيضاً في مداميك التجربة العربية بامتياز، حيث كان الأديب عندهم هو الشاعر، وهذا ما سيجعل الكثيرين، من أصحاب اليسار "المالي" لاحقاً، يرون في غازي نموذجا متميزاً يسعون للأخذ بما أخذ، في سبيل نيل المكانة التي نالها في حياته العملية، ولكنهم للأسف يغفلون عن أن الأمر ليس يسيراً، ولا متاحاً، بالشكل الذي يتصورون، فغازي القصيبي لم يصبح أديباً "بعد ذلك"، بل أن "كل ذلك" جاء بعد أن أصبح غازي القصيبي وعرف شاعراً وأديبا ومثقفاً في سياق هذه المنطقة في المشهد العربي، تقوده، بجدارة، موهبته وثقافته، وهذا ربما سينقص العديدين من الذين اعتقدوا أن جاه السلطة والمجتمع والمكانة يأتي ويتعزز بالشعر كوسيلة.
ربما هنا سوف يظهر لنا معنى أن يكتب الشاعر كما يعيش،
أعني كما يحب أن يعيش.
كان غازي من بين أجمل الرومانسيين الحالمين في تلك المرحلة، الزاخرة بما لا يحصى من الرومانسيات، تبدأ من مروحة رومانسية اليسار السياسي، وصولا إلى الرومانسيات القومية، ورومانسيات البدائل الدينية، مرورا بتجربة كثيفة من الرومانسيات الأدبية و الشعرية، التي كان غازي القصيبي يجسدها بمعرفة الشاعر المأخوذ بأسباب الحضارة الحديثة.
هذا بالضبط ما ميز تجربة غازي، فيما يكتب قصيدته، عن افتعال تعبيري "اضطر" إليه عدد من متأدبي مرحلة الستينيات و السبعينيات، ليس في منطقتنا فحسب، ولكن في المشهد العربي كله. هؤلاء الذين لا نكاد نسمع عنهم شيئاً الآن.
غير أن غازي القصيبي راح يواصل حلمه الشخصي، بحريته الشخصية، بنصه الشخصي، بقدر واضح من المغامرات الشخصية، التي سوف تتجاوز أحياناً حدود الشأن الشعري والأدبي، دون أن يتنازل عن أدواته وملامحه وشروطه: الحرية الشخصية.
وهذا ما يمكنه أن يفسر لنا هذا التنوع الثري في مجمل ما يكتبه ويصدره من مؤلفات، وهي كتابات تشي كثيراً بأنه يذهب إلى الحياة في الكتابة، بالشكل الذي يحب أن يعيش في الحياة وخارجها.
تلك هي معركة غازي القصيبي،
ورايته،
وتنوعه وتعدده.
منذ بيته الصغير على ساحل "أم الحصم" المدينة البحرينية الصغيرة في بحر كان أزرق، بما يكفي للجلوس على حافته ووضع القدمين في أحلامه الطويلة، حتى أصغر التفاصيل في علاقته الإنسانية بأحياء الكون، وعدم التأخر عن ممارسة الشعر بالأشكال التي لا تحصى، فعند غازي، الشعر ليس قصيدة في كتاب، فهو، كما قلت، يحب أن يعيش الشعر ويكتبه في آن.
رجاةَ أن تكون كلمتي هذه مجروحة، مجروحة، مجروحة،
فهذا أقل ما توصف به الصداقة الرصينة فيما تبقى.
أمين صالح،
لا يروي، لكنه يرى
منذ اللحظة الأولى التي يقول فيها أمين صالح عن ‘’المطر الأزرق’’ في السطر الأول من الرواية، سيتحتم علينا التيقن بأن ثمة مسافة بالغة الحميمية بين الواقع المألوف والمخيلة الفاتنة التي لا يتخلى عنها الكاتب أبدا.
مطر "أمين صالح" الأزرق هو ما سوف يسم نصه الروائي بما يشبه تصعيد الوقائع والشخصيات في ‘’رهائن الغيب’’ لكي تبرأ من ملامح الواقع وشروطه، وتتوهج بعطايا المخيلة وازدهار الأحلام.
***
لن تتأخر عن رواية (رهائن الغيب) لأمين صالح، في أي وقت تقرأها، وحين يطيب لك أن تعيد قراءة أمين صالح فإنما أنت تمنح نفسك فرصة نوعية للمتعة. فهذا الكاتب لا يكتب لك لكي تنتهي، لكن من أجل أن تبدأ، دائما تبدأ في كل مرة تتاح لك القراءة، وظني أن شرط الجمال الأول في العمل الأدبي هو أن ترغب دائما في إعادة قراءة النص.
أمين صالح من بين النادرين الذين يوفرون لك هذه الرغبة مع كل نص.
***
حين يكتب أمين صالح عن طفولته وصباه وفتوته في ‘’حي الفاضل’’ في خمسينات وستينات منامة البحرين، إنما هو يستجيب للاوعي المبدع النـزّاع لإيقاظ القناديل المطفأة أو تلك التي يوشك الزيت فيها على النفاد.
تلك القناديل التي كان أكثر من جيل يستأنس برفقة صورها لخطواته، ورشاقة الانتقال بين السرد الواقعي الشفيف والشعرية التي يتألق بها نص الكاتب في مجمل كتاباته.
***
عندما لا يتطابق، واقعياً، ما تصادف الشخصيات المعروفة من أفراد عائلته وأصدقائه في الحي والدراسة، فسوف يشكل هذا أحد أبرز جماليات العمل الأدبي الذي يسهر عليه أمين صالح فيما يؤلف روايته ويشغل مخيلته على إعادة ابتكاره وخلقه.
ليس لأن العمل الفني شيء يختلف عن الواقع والتاريخ، وليس لأن الرواية تتطلب مفارقة الوقائع تفادياً لتكرار الواقع أو نسخه، ولكن، خصوصا عند أمين صالح، إن مبرر الكتابة لديه هو جماليات الجديد في الخلق، بمعنى أن يقترح صنيعا مغايرا، ليس للحياة فقط، ولكن مغايرا لما يمكن أن يتوقعه القارئ، خصوصاً حين يكون السرد صادراً عن سياق واقعي يتقاطع مع فئات كبيرة من البشر "القراء المعاصرين"، لابد أن يصادفوا ما يؤكد لهم الرؤية الجمالية الخاصة بالكاتب، بأمين صالح بالذات، وهو الشخص المعني بالصنيع الفني الخاص.
هذا هو بالضبط ما عدت للتعرف عليه وتأمله في قراءة جديدة لرواية ‘’رهائن الغيب’’.
***
ستظل كائنات الرواية "رهائن للغيب" في مستويات عدة، فما إن تنطلق من إحساس الراوي العميق بأنه وإخوته النموذج الإنساني المرهون لغيب المكان والزمان والكينونة، حتى تتفجر الدلالات التي لا توفر كائنا من كان في الرواية ليبدو فعلاً رهينة سياق ما في الحياة. لكي نجابه في نهاية الأمر بمساءلة أنفسنا: من منا ليس رهينة مأسورة لسياق حياتي وكياني ما؟
***
يروي في سرده كأنه يرى، سيظل أمين صالح مخلصاً لأحلامه حين يتعلق الأمر بالكتابة.
ولعله في هذه الرواية يقدم لنا دليلاً جديداً على رشاقته التعبيرية وهو يصوغ مسارات سرده بنسيج بالغ الدقة بين الواقع والحلم، بين التفاصيل المباشرة للواقع الذي يكتسب ملامحه من تجربة الحياة المعاشة وبين المخيلة الشعرية التي يعيد الكاتب بها خلق المشهد بوصفه أدباً.
وربما الطبيعة الشفيفة التي تتجلى فيها شخوص الرواية تمنحنا شعوراً بأنها ليست كائنات واقعية خالصة لفرط جمالياتها التي تتجاوز الواقع، وهو المعطى الإبداعي الذي يقترحه علينا صنيع أمين صالح في هذه الرواية.
وهذا بالضبط ما نعنيه بأن الكاتب، فيما يكتب، لا يروي لكنه يري، وهو بالتالي يصف ما يراه، الآن، هذه اللحظة، في هذه الرواية. وهي رؤيا أكثر منها رؤية، أي أنه يستحضر سيرة حياته، بكامل مساراتها ومراحلها، لكنه استحضار متحرر من تفاصيل الواقع المحدودة مستعينا بملامح جديدة تصقل الذاكرة بالمخيلة.
وهنا سيكمن دائما سر الشغل الذي ظل أمين صالح يسهر عليه طوال حياته الأدبية، ليس في الكتابة فحسب، ولكن خصوصا في تأجيج المخيلة الشخصية في حقل الشغل الفني العام.
***
يكتب عن مكانه كأن الكون بيته،
ليس ثمة تخوم بين مكان أمين صالح الشخصي في بيته في حي الفاضل، في خمسينات وستينات القرن الماضي، وبين أقصى مكان في كون الناس الذين يتصلون في ما بينهم بالمشاعر نفسها، والهموم والهواجس ذاتها، والأحلام المجنحة ذاتها، والجنون الفاتن بالحياة ذاته.
هذا الصدور الكوني بالذات هو ما يميز كتابة أمين صالح منذ بواكيره الأدبية، لم يشكل المكان تخوما في كتابته، حيث الإحساس الإنساني هو فضاء النص وحيويته الدائمة، لذلك فإننا سنجد في رواية ‘’رهائن الغيب’’ الاستمرار الأعمق لتجارب أمين صالح حين يعمل على التشخيص، حيث يبتكر المناخ الذي يشعرك بالصدور عن الجذور الأصيلة للواقع، في اللحظة ذاتها التي يحلق بك بأكثر الأجنحة حرية وشموخا للأعالي.
***
يبقى لأمين صالح امتياز شعرية الكتابة،
هذه الميزة التي ستظل رهانه الأجمل، ويبقى لنا أن نصغي لصوته الحميم وهو يصوغ لنا تاريخه الشخصي في ‘’رهائن الغيب’’، من دون أن يفرط لحظة في ولعه الخاص: الشعرية.
كلما قرأت له نصاً جديداً تأكد أملي في الكتابة، وازدادت ثقتي في أنني أذهب، برفقة هذا الصديق، نحو الآفاق الحرة، الجميلة، بالبوصلة التي لا تخطئ الطريق: الحب.
كلما قرأتُ نصاً لأمين صالح، تيقنتُ بأن ليس ثمة دوافع ولا مبرر للكتابة سوى ذاتها، هذه الذات التي لابد أن تصدر عن الحب وتذهب إليه.
الماغوط،
لستَ محسوداً على الموت،
ولسنا على الحياة
1
كانت جائزة سلطان العويس ستندم لو أنها تأخرت قليلاً عن الفوز بالشاعر محمد الماغوط قبل رحيله. بهذا الشكل أحب أن أرى إلى لا معقولية التعثر المرير لبعض ملابسات تكريم المبدعين في حياتهم النشيطة، سيبدو عبثاً الكلام على المبدع، بوصفه كذلك، بعد أن يرحل عن عالمنا، سنكون أقل منه بدرجات غامضة، من حيث طاقة إدراك ما حدث له بعد الموت وقبله في لحظة واحدة، فمن حالة عدم الاكتراث التي يمعن فيها السلوك العربي تجاه مبدعيه، ثم الانتقال بسرعة البرق إلى حالة الاحتفاء الفادح بعد موته مباشرة، كما لو أن ثمة من ينتبه فجأة إلى وجود شخص يستحق الحياة أكثر منا، حتى لكأنني أسمع رغبة بعضنا في التبرع بوقت إضافي له لكي يستمر في الحياة، إن كان ذلك ممكناً.
2
كلما مات ماغوط انبثقت قصيدة جديدة في شاعر جديد.
لم يكترث الماغوط بشيء مثلما اكترث بالحياة، تنكيلاً بموت تعذّر عليه أن يجرأ على شاعر مثله. منذ الحزن والجدران التي لا تحصى، عرف الماغوط، أكثر منا، أن الموت أصغر منه. بعد الحياة الزاخرة والتجربة المكتنزة بعذابات تضاهي الموت، ماذا يعني موت كهذا.
تيسر للماغوط أن يكتب على هواه، من الثرى حتى الثريا، كما لم يفعل شاعر من جيله، حتى أنه تشبث بعفوية فلاحه الأول تحصنا ضد العطب الموشك عند كل تحول يمكن أن يكون عرضة له.
كتب على هواه.
منذ أن أدهش أعضاء خميس مجلة "شعر"، حتى المقالات التي استنفرت بعضهم لعبثية استعادتها للمنجز الماغوطي، غير أنه لم يكن يكترث، حيث "هواه" هو الحاكم، مهما كان، فهو كائن ينطق عن "هواه" بامتياز.
3
التقيته مرتين.
الأولى في مقهى فندق الشام بمصادفة صباحية.
تقدمت إليه، عرّفته بنفسي.
فقال: هذا أنت؟! أهلاً. اجلسْ.
لكنه لم يضف شيئاً، متوقعاً الكلام من جهتي، أنا لا أحسن التصرف في مثل هذه المواقف، ليس ثمة ما أقوله له، عبرتُ له عن سعادتي بلقائه، وانتهيت.
اكتفيتُ منه بالكلمات الثلاث الصغيرة. وحين طلبتُ منه ما يفيد ملفاً خاصاً نعمل على نشره في (جهة الشعر) عن الشاعرة سنية صالح، حرك أصابعه التائهة على عروة عكازه، كمن يهم بالنهوض، وهي حركة فضحت كلمته الأولى: اجلسْ. كائن نافر هو. لكنه لم ينهض. هبط ثانية بكامل جسده على قاع كرسيه، وقال في شبه تنهيدة: "لكنها الكراتين".
ثم أردفَ موضحاً: كيف لي أن أبحث في كل علب الكرتون تلك، الصور والأوراق كلها هناك.
نطقَ كلمة "هناك" لكي أشعر بأن "هنـــاك" هو المكان البعيد عنه جداً، وخشيت أنه يقصد المسافة نفسها التي تفصله عن سنية صالح هذه اللحظة، مسافة لا علاج لها عند أحد، احترمتُ ما أبدى وما أضمر، فليس بيننا من صداقة تكفي لدفعي لأي نوع من المثابرة في الإلحاح، إنه لقائي الأول معه، وهو قال لي "هذا أنت؟!"، وأنا، لحظتها، كنت الأكثر ارتباكاً، تأخرتُ عنه طوال هذه السنوات، هل آتي إليه الآن لكي أطلب منه ما يتصل بحميمته.
اكتفيت بذلك.
غير أنه استدركَ، مثل رغبة نادرة في التخفيف من إحباطي، وقال: عليك أن تذكّرني دائماً، هذا هو رقم هاتف الدار، وذكرني، ربما.. أنا متعب الآن، لازم أمشي..
أذكره "دائماً"!!. ربما لأنه سينسى "دائماً"، ثمة شعرية ماكرة أحببتها، ربما لكونها استمراراً لنصوص الشاعر.
لكنني فعلاً كنت قد اكتفيت تلك اللحظة، يجب أن أترك الشاعر في حاله. في ما بعد، شرح لي أصدقاءُ يبتسمون كثيراً، أنه ضنين بكل ما يتعلق بزوجته الشاعرة سنية صالح، وربما يكون قد جانبك التوفيق في أن تطلب منه ذلك في لقائك الأول معه.
فتيقنت أنني لا أزال أرتكب حماقات الحماس لما لا يكترث به الآخرون.
4
المرة الثانية.
قبل شهر تقريباً، فيما كان يصعد خشبة مسرح حفل العويس بعكازته ذاتها، وبمساعدة مرافقه وطبيبه الخاص، متقدماً لاستلام جائزة سلطان العويس في حقل الشعر، يتقدم برشاقة العصفور الأحدب العجوز، يفتر ثغره عن ابتسامة تشي بجدارته بالجائزة، وعدم اكتراثه الفادح لتأخر الجائزة أو تقدمها، فهو يستحقها قبل كثيرين سبقوه إليها، وهذه حقيقة لا تقلل من شأن أحد ولا تعطل أحداً عنها.
الشاعر يدرك أن اسمه زينة للجائزة، حتى أنه عندما استلم الدرع البلوري لاحظ سريعاً أنهم سلموه درعَ شخص آخر، فلفت نظر أحدهم فاستدرك الأمر ليستعيد الشاعر بلورته الخاصة باسمه.
جلس الشاعر أولاً، على المقعد الأول، في استراحة هي الأولى من نوعها لشاعر امتهن الحزن والانتظار كما لم يفعل شاعر عربي على شاكلته.
5
الآن.
نتمنى على الماغوط أن لا يبالغ كثيراً في رحيله، فلسنا مستعدين فعلاً لتقبل هذه الفكرة بالسرعة العادية. أصدقاؤه ومحبوه يشعرون برغبة التريث في الاستسلام لفكرة غيابه المبكر. 72 عاماً ليس عمراً كافياً لرحيل متسارع، وأكثر من عشرين كتاباً لا تشكل قرائن كافية لمكتبة شخص غائب، نتمنى عليه أن يتيح لنا وقتاً إضافياً نقنع فيه الذين تكلموا عن الماغوط أكثر مما درسوه، ونسعف فيها الذين كتبوا في هوامشه فيما يزعمون أنه كفّ عن الشعر منذ كتابيه الأولين، في محاولة لنفيه كاملاً في نفس اللحظة، غاب عن هؤلاء أن الشعر ليس في النص فحسب، فالشعر هو ضرب من سلوك إنساني باهر الإبداع، والشعر كذلك طريقة حياة لم يغفل عنها ولم يفرط فيها محمد الماغوط، والشعر هو أيضاً أسلوب في إنعاش موهبة النقائض بلا هوادة في عالم السكون والأجوبة والمداهنات.
نتمنى على الماغوط أن لا يذهب بهذه السرعة العادية، فثمة أجيال من شباب ما زالوا يرون فيه التجربة الأبكر والأكثر استمراراً في النموذج الأول لشعر لا يزال يثير غيظ المطمئنين ويستفز حفيظة المحافظين.. أجيال بالكاد سمعت عن الماغوط لكنها تقدر على التشبث بعناصر تجربته الأولى في الشكل الذي يغني تجاربها ويمنحها نعمة الشعر.
نتمنى على الماغوط أن يقبل منا تشبثنا بعطاياه الباكرة، مثل قناديل لا تزال تصلح لعتمة كثيفة، شريطة أن يسمع هو أيضاً نصيحته القديمة للشاعر بدر شاكر السياب، حين قال له: تشبث بموتك أيها المغفل.
لنقول للماغوط: لستَ محسوداً على الموت، ولسنا على الحياة.
***
عذابات المثقف (ك)
واقعٌ يقرأ "القلعة"
1
يظل النص الأدبي باهر الحضور، كلما برع الواقع في قراءته. عادة يجري النظر إلى النص الأدبي بوصفه قراءة للواقع، وأحياناً تكون هذه القراءة بمثابة الفضح. ويتفاوت النظر بين المذاهب الأدبية : واقعية، رمزية، انطباعية، .. إلى آخره. وتبقى شهوة تفسير الواقع في ضوء النص حاضرة في جميع الاجتهادات، ويستدعي هذا النظر تماساً ومقاربات غاية في التنوع بين النص والواقع، بحيث يستوجب على النص أن يكون مستجيباً للواقع وخاضعاً له، حسب هذه الطريقة في النظر والتفسير. وهي طريقة أوشكت على الهرم والعجز، وتعاني العديد من القصور لفرط المفارقات التي تؤدي في نهاية الأمر إلى إفساد الذائقة الأدبية، وتفشي الخسارة على الجانبين :
- الكاتب والنص، لأنهما ينزعان لتقليد الواقع فيخفقان بسبب سذاجة الصورة قياساً للأصل.
- الواقع ، لأنه سيظل أكثر قدرة على مفاجأة القارئ لأنه يصدر عن الحياة الجامحة الخيال.
فيما تواصل التجربة الإبد اعية في الخروج على سلطة التقليد بهدف سبر الجوهر.
2
أحياناً، ستكون قراءة الواقع للنص منطوية على طاقة من المصادفات المفاجئة الموغلة في الفضح. وفي قراءة الواقع للنص ضربٌ من إعادة تركيب النص في ضوء حركة الواقع وحيويته وطاقة التحول الإبداعي الذي لا يكتفي بالنص، بل يذهب إلى مكوناته الناشئة عن شطح المخيلة. نقول الواقع، ونعني الحياة ذاتها، تلك التي يشكل النص مقترحاً مفتوحاً على تحولاتها.
وهذا يتطلب وعياً تاريخياً بالعمق الإنساني، لما يمكن أن تنزع إليه بعض النصوص الأدبية النادرة، وهي تتجاوز حالة الثبات التي تفرضها النظرية النقدية. ويمكن أن نسمى خلود هذه النصوص، وقدرتها على الحضور في أزمان ومسافات تاريخية مختلفة، بالنصوص العابرة للزمن. وبمثل هذه النصوص يمكن أن نصغي للواقع وهو يقرأ النص بنوع باهر من الكشف.
3
من بين الأعمال الأدبية التي تظل قادرة على الحضور في حياتنا المعاصرة، ويشكل تقدم الحضارة الحديثة إحياءاً وتأجيجاً دائمين لمقارباتها الإنسانية، وإعادة خلق لا تكفّ عن الحيوية، تلك النصوص القليلة التي تركها لنا فرانز كافكا، بالخصوص نصوصه الأساسية، مثل "المحاكمة" و"القلعة" و "أمريكا". وما علينا إلا أن نعيد تأمل هذه النصوص لكي نرى القراءة المشوقة التي يقترحها علينا واقعنا، ونكتشف أيضاً الطاقة الخلاقة الكامنة في تلك الرؤيا. فلم يكن كافكا يتحدث عن لحظة زمنية ومكانية ثابتة، إنما كان يمارس ضرباً من السبر المتصل بالإنسان في كثير من تحولاته، فيما هو يحاول تفادي حياةً أرأف منها الموت .. فيموت .
يقول تشارلز أوزبورن "يمكن القول بأن كافكا لم يكتب ثلاث روايات، بل كتب، أو حاول أن يكتب، رواية واحدة ثلاث مرات. ومن المؤكد حقاً أنه يحاول في الكتب الثلاثة أن يعزف على الأطروحة نفسها. إن كونشرتاته الثلاثة عن الإنسان والمجتمع قد تختلف في التفاصيل، لكن الإهتمام الواضح فيها جميعاً هو محاولة الإنسان أن يندمج ويتكامل في صحبة رفاقه وزملائه. لقد فكر كارل روشمان في "أمريكا" أن يفعل هذا عن طريق أن يكون ناجحاً، وفكر جوزيف ك. في "المحاكمة" أن يفعل هذا عن طريق البرهنة على براءته، وفكر ك. ، كما يُسمى مرة أخرى، أن يفعل هذا في "القلعة"، آخر الروايات الثلاث، وربما أعقدها وأكثرها دلالة، عن طريق الإنتماء اليائس والإستقرار اليائس ".
4
في مسألة الإنتماء، سوف يتجلى العذاب الإنساني الخالد الذي يجابهه الشخص في الحياة، دون أن يقدر على تفادي الفشل، مرة بعد الأخرى، بسبب عدم التكافوء بينه وبين القوى والسلطات التي تزداد تعقيداً وتركيباً في المجتمع المعاصر. بل أن الإنتماء في المجتمعات المتخلفة سوف يأخذ طبيعة وحشية تصل غالباً إلى التعامل مع هذا الحق كما لو أنه المنحة التي لا ينالها الإنسان إلا عبر عبودية تقوم عليها سلطة النظام الإجتماعي. وهي عبودية لا تنجح أقنعة الحضارة وقشورها أن تخفي تجليها الوحشي وطفحها بالمهانة. حيث الإنسان لا يتجاوز كونه متهماً بإنسانيته، جديراً بالعقاب الدائم المستمر، ما لم يعلن خضوعه وولاءه للسلطة، وهوإعلان لا يستطيع هذا الإنسان أن يثبته إلا بموته، فالتخلي عن الحق الإنساني موتٌ محقق وناجز. وإذا كان كافكا قد جابه إشكالية خاتمة "القلعة" مباشرة، فإنه قد وضع الشخص أمام موته الماثل في الخطوة التالية دوماً.
سوف يقول "ماكس برود" في ما بعد : "إن كافكا لم يكتب إطلاقاً الفصل الختامي، لكنه أخبرني به ذات يوم عندما سألته كيف ستنتهي الرواية، وأن ماسح الأراضي المزعوم كان عليه أن يجد الرضا الجزئي في النهاية. لم يكن عليه أن يجد الراحة في صراعه، بل عليه أن يموت وقد مزقه الصراع. وكان على القرويين أن يتحلّقوا حول سرير موته، لتأتي كلمة من القلعة تقول أنه بالرغم من زعم ك. القانوني للعيش في القرية، لم يكن صادقاً، إلا أنه، مع إدخال الظروف الإستثنائية المخفّفة، مسموح له أن يعيش وأن يعمل هناك". إنها هبة الموت في شكل حياة.
ترى هل نستطيع بقراءة الواقع، وهو يقرأ النص، أن نكتشف فضيحة النظام العربي وهو يتعامل مع مواطنيه بوصفهم "رعايا" متهمين يستحقون العقاب حتى وإن ثبتت براءتهم.
وهل سيتاح لنا في يومٍ ما أن نطرح على هذا النظام الأسئلة المؤجلة، التي لا تكفّ السلطات الماثلة عن مصادرتها ؟! أحب أن أعود لقراءة واقعنا وهو يقرأ "قلعة" كافكا .. دائماً .
5
الإنتماء، بشتى تجلياته الإنسانية، هو البؤرة الجهنمية التي سوف تصدر منها، وتذهب إليها، تجربة كافكا، في الحياة والنص. لم يكن منتمياً إلى جهة، ولم يطمئن لأية جهة .
لم يقف كافكا عند حدود إنسان بعينه، في زمن ومكان محددين، مما سيفتح الأفق للواقع، في مستقبل الأيام، لأن يقرأ كافكا بما يستقيم مع الفضيحة الإنسانية، التي لن تكفَّ عن التكشّف، بصورة تساعد البشر على الشعور بالخجل في حضرة الوقت، وهو يعبر عليهم، دون أن يتقدم الإنسان نحو شرفه وكرامته وحريته، بما يليق للمزاعم المتداولة بين كافة المنظومات السياسية والإجتماعية في عالمنا طوال قرن واحد على الأقل. أكثر من هذا، سيتاح للواقع العربي أن يقرأ نص كافكا من وجهة النظر الحضارية، فيما يرقب المثقف وهو يقدم أوراق اعتماده للجهة ذاتها التي أمعنت في التنكيل به وبأحلامه ومشاريع حياته، طوال نصف القرن العربي الأخير خصوصاً. لا أعرف لماذا حضرت في ذهني صورة المثقف في تفاصيل هذا المشهد، عندما شعرتُ بالواقع وهو يقرأ نص "القلعة" . ليس صدفة بالطبع، فالدور الذي يحسن المثقف تفاديه بين وقت وآخر، عندما تتعارض المصالح وتتقاطع الاحتمالات، هو الدور الحضاري نفسه الذي يتصل بشهوة المستقبل لدى الكائن البشري منذ بدء الخليقة. ليس مثل الإنسان كائن يطمح لأن يكون غده أفضل من أمسه. وبما أن للمثقف دوره النقدي الفعال في الحياة، فإنه مرشحٌ دوماً لأن يكون الضحية على الجانبين :
ضحية السلطة، لأنه يصدر عن حلم الشعب، / وضحية الشعب عندما يخضع لوهم السلطة.
وهي تضحيات لا يتنازل عنها المثقف هنا أو هناك، وراهن الشخص هو الذي سوف يقرر التفسير النظري لما يحدث في الحالين. ويمكن أن نصدّق المأزق الذي سيقع فيه المثقف دائماً. وهو مأزق سيتفاداه بعضهم، عندما ينجح في معرفة الخيط الأبيض من الخيط الأسود في المنطقة الفاصلة بين الحلم والوهم. فحين يقول السيد (ك) في قلعة كافكا : "أفترض إنني لا أنتمي إلى القرية كما إنني لا أنتمي إلى القلعة " علينا أن نصدقه أيضاً، فهو لا ينتمي سوى لنفسه المبتورة. وتلك هي مأساة السيد (ك) في حياتنا. وليس في هذا حياداً، فالمثقف لا يستطيع أن يكون محايداً مهما بالغ في التلفيق والتماهي. ما إن تفتح القلعة أشداقها حتى يصبح المثقف واضحاً أمام نفسه، فإذا صدّق أن الليث يبتسمُ، سيكون قد اختار باكراً شكل الموت ووقته.
6
يجلس المثقف في دهليز كافكا، يصغي له وهو يكتب نصه عن تلك القلعة التي تتلاعب بمصائر البشر، قلعة قابعة هناك في قمة الجبل، تطل على القرى الصغيرة وتفتك بها في هيئة من يشفق عليها، وفي جميع الأحوال لن ترى القلعة في تلك القرى غير كائنات داجنة أو قيد التدجين أو يتوجب أن تخضع لذلك. تلك قلعة لم يكتبها كافكا لكي يلهو بمعطيات المخيلة، لكنه حاول أن يصوغ للشخص الإنساني سبلاً شتى زاخرة باحتمالات الحياة عبر الموت، وربما العكس أيضاً.
سيقال إن كافكا لم يكن يفكر في المثقف على وجه الخصوص عندما دفع بالسيد (ك) إلى تلك القرية الصغيرة المغطاة بالثلوج. نعرف ذلك، لكننا نعرف أيضاً أنه لم يضع شرطاً مسبقاً يحول دون حرية الواقع وهو يقرأ النص على هواه. ها نحن إذن نقرأ "قراءة" الواقع للقلعة على هوانا، وليعذرنا سدنة النصوص، لكوننا نصغي للواقع أكثر مما نكترث بما يفسّرون.
7
عندما يصل السيد (ك) إلى القرية الصغيرة الجاثمة في سفح الجبل بقلعته الشاهقة، لن يجد في الفندق المتواضع غرفة شاغرة، فيضطر للنوم في زاوية جانبية، في غمرة الصخب الذي يصدر عن قرويين، يقاومون ليلهم الدامس بأنخاب متعبة لا مبالية بما يحدث في تلك الزاوية، في ذلك الفندق، في تلك القرية، وربما في العالم من حولهم. ثم يبرز شخص سوف يقطع على السيد (ك) رغبة النوم، مؤكداً له استحالة مكوثه ما لم يحصل على موافقة الكونت القاطن في "القلعة". فلا يجد السيد (ك) غير الزعم بأنه "ماسح الأراضي" الذي يتوقع الكونت حضوره. ولكي يتأكد ذلك الشخص "دائماً سيكون ثمة شخص يتأكد" من صدق هذا الإدعاء، يجري مكالمة هاتفية مع القلعة، فتنكر القلعة، لأول وهلة، معرفتها بماسح الأراضي هذا. وبعد برهة، وقبل أن يستعيد السيد (ك) قواه الذهنية لكي يبتكر كذبة أخرى، يدق الهاتف ثانية مؤكداً أن السيد (ك) هو الشخص المتوقع حضوره، وإن كل شيئ على ما يرام. لقد راقت الكذبة - اللعبة للقلعة.
في هذه اللحظات المباغتة والحاسمة يكون السيد (ك) قد وضع قدمه في نسيج العنكبوت، ليقع في الشرك دفعة واحدة. ففي اللحظة التي يقدم "نفسه" في مهمة يؤديها لكي يبرر "وجوده" هناك، اكتشف أن القلعة قد قبلت عرضه، وبادلته الإشارة بأن زَكّته بموافقتها على بقائه في الفندق تلك الليلة لكي يستمتع بالنوم. لكنه لن يهنأ بنومٍ أبداً منذ تلك اللحظة. "إذن فالقلعة قد اعترفت به بإعتباره ماسح الأراضي، إن هذا لا يبشر بالخير بالنسبة له، فهذا يعني أن القلعة كانت تعرف عنه كل شيئ، وأنها قد قدرت كل الفرص المحتملة، وقبلت التحدي ، بابتسامة".
8
لقد تبنّت القلعة السيد (ك) بالدور الذي اقترحه باذلاً نفسه لخدمتها، وهذا يعني أن القلعة سوف تتعامل معه منذ الآن بناءاً على ذلك. و"ذلك" تعني أنه مطالب برد التحية بمثلها أو بأحسن منها. عليه إذن أن "يمسح" لها الأرض، وإلا فسوف تتولى هي "مسح" الأرض به، فالقلعة لا تلهو عادة مع أحد في عبث مجاني، إنها لاتعطي شيئاً بلا مقابل
أبداً.
وفي خضم التداعيات النفسية التي يكون السيد (ك) ضحيتها طوال الوقت، سيظهر أمام نفسه أنه قد وجد الأمر، بشكلٍ ما، مناسباً له، لعله ظَـنَّ إن في الأمر أمل للتفاهم مع القلعة على التفاصيل، مادام كل هذا سيؤدي به إلى تحقيق انتماءٍ ما لجهة ما. هذا شخص يتبرع "زاعماً" بالعمل لحساب القلعة، من حيث أنه يمتلك المواهب التي تحتاجها القلعة في جميع الأحوال.
في ملابسات مثل التي يقع كافكا، وأشباهه، تحت وطأتها، ما على الشخص إلا أن يعلن استعداده للتعامل مع القلعة حتى يجد "كل شيئ على مايرام". وإذا كان السيد (ك) قد أخترع كذبة "ماسح الأراضي" لكي يبرر وجوده بها، فإن القلعة كانت على أتم الاستعداد لأن تصدّق كذبته، لكن عليه أن يؤدي هذه الكذبة بصدق كما لو أنها حقيقة، وعليه أن يقاوم شعوره الثقيل بأنه ليس أكثر من نصاب محتال. و " إن قلقه إزاء تقبّل سلطات القلعة لقصته هو قلق مخادع " قد ينطلي على الآخرين، لكن العلاقة ستظل خيطاً سرياً لا يعرف كذبته الحقيقية غير السيد (ك) والقلعة. وهي علاقة لم يُجبر عليها السيد (ك)، بل أنه نفسه الذي تبرع بالمشاركة فيها. وسوف يرى الواقع، في مثل هذه المبادرة، ضرباً من التوق الفطري عند الإنسان لأن يكون عامل تغيير في المجتمع، مؤدياً بذلك دوراً في الحياة. وسوف يطيب للمثقف إذن أن يعتبر هذه المبادرة نزوعاً نحو التصدي للقلعة بوصفها آلة النظام المهيمن، وسوف يقبل التحدي، بابتسامة مشوبة بالكآبة.
9
هل كانت القلعة تعرف عن هوية السيد (ك) أكثر مما كان هو يعرف عن نفسه؟ أم أن رغبته الجارفة في الإنتماء سوف تدفعه لأن يباشر في أداء "مهمته" في سبيل الحصول على اعتراف القرية بتزكية رسمية من القلعة ؟ .
لكنه ما إن يبدأ في محاولة الإتصال بالقلعة حتى يكتشف أن هذا يكاد يكون مستحيلا، فكل ما يتوجب عليه منذ الآن هو الإذعان للعمل المناط به، ويتأكد له ذلك من المساعدَين الذين تبعث بهما القلعة، ليقتصر عمله من خلال موظفي القلعة المنتشرين في كل مكان يذهب إليه. سوف يظل اتصاله مشوباً بغموض يشبه غموض الشخصيات الكئيبة التي حاصرته في نص المحاكمة، وسوف يجد السيد (ك) نفسه يتقدم يوماً بعد يوم متورطاً في براثن القلعة، دون أن يقوى على معرفة طبيعة السلطة التي يجابهها، أعني السلطة التي ارتهنَ بها وأسلم نفسه لمشاريعها، عندما ادّعى أنه ماسح الأراضي دون أن يكون كذلك. ولن يجد الوقت لكي يتخلص من الوهم الذي اخترعه لنفسه... وهم "أن يتقبله الآخرون، أن يعترف به الآخرون، أن يُعطى دوراً ليؤديه". ولكنه سيعرف لاحقاً، من العمدة بأن القرية ليست في حاجة إلى ماسح للأراضي، حيث جرى مسح كل شيئ وتم تسجيله مسبقاً، بالرغم من أن القلعة تعتبره ماسحاً للأراضي. ولن تجدي كل محاولات السيد (ك) لمعرفة الحقيقة، بل أن العمدة سيساعده فقط على شكوك مضاعفة بأن كل ما يجري له ربما لم يكن حقيقياً، بما فيه المكالمات الهاتفية من القلعة. حتى السيدة صاحبة الفندق، التي تحتقره، ستخبره أنها كانت منذ عشرين عاماً عشيقة أحد موظفي القلعة الذين بُعثوا لكي يساعدونه في مهمته. ويبدو أن ذلك مألوف في تلك القرية، ربما لأن استسلام النساء لموظفي القلعة هو الأسلوب الوحيد للاتصال المتاح بين القلعة والقرية. وسيتحتم على السيد (ك) أن يقبل ما يعرض عليه من وظائف، هي بالتالي تجلٍ مستمر لمهماته التي لا مفر من القيام بها، فالوظيفة هي أحد أشكال الإعتراف به، ومن دون هذا الإعتراف لن يقدر السيد (ك) على الإستمرار في الحياة. كما أن شكل الإستسلام هذا هو الذي يتوجب أن يتقمصه عندما يريد أن يتوهم الاتصال بالقلعة.
10
ثمة الحياة التي هي موت ناجز غير معلن. ما إن يسلم المثقف نفسه للدور المتوهم في خدمة القلعة، مستسلماً لتوجيهات مبعوثيها وممثليها في القرية، حتى يفقد سلطته على نفسه، فهو منذ اللحظة رهن سلطة القلعة، ويتوجب عليه أن يصغي إلى تعاليمها، وينفّذ مشاريعها بالآلية التي تتناسب مع منظور القلعة فحسب.
عندما يكتشف المثقف أنه لم يعد يعبّر عن النزوع الفطري الذي صدر عنه مبكراً، والمتمثل في رغبة تغيير الحياة، وإنما هو يذهب، مثل السائر في النوم، نحو إنجاز المهمات الغامضة التي تروجها سلطة القلعة، بواسطة موظفيها المنتشرين في مواقع خطواته، عند ذلك سوف يكون الوقت قد فات على تدارك الأمر، حيث لا رجعة عمّا يذهب فيه. خصوصاً عندما يتأكد أنه قد أصبح ضحية الفقد المضاعف. فهو، من جهة، لم ينجح تماماً في التمتع باعتراف القلعة به، لأنها لن تكون مستعدة " إطلاقاً " لاستقباله والثقة به، ومن جهة أخرى لا يستطيع أن يشعر بالإطمئنان لتصديق القرية وثقتها في الأدوار التي زعم التصدي لها في سبيل التغيير. ليس سهلاً الاعتقاد بأن موتاً ناجزاً يمكن أن يمنح الحياة لشيئ. ساعتها سيضبط المثقف نفسه متلبساً بدور التابع قليل الحيلة غائب الهوية وتحت العذاب.
11
للواقع أن يقرأ النص على هواه، ولنا أن نقرأ تلك القراءة كما يحلو لنا، بمعزلٍ عن شرط السدنة، حيث كل شيئ سيكون ... ليس على ما يرام.
ليس ماسح الأراضي هو المثقف بالضبط، ولكن يجوز لكافكا أن يمنح السيد (ك) حرية في تأمل ما يحدث له، تماماً مثلما يتأمل الميت طقوس تجهيز جنازته دون أن يقوى على اختيار نوع الخشبة التي ستحمله إلى هناك، فيما يرقب القلعة وهي تستعيد سلطتها بماسحي أرض آخرين يتقدمون يوماً بعد يوم لأداء المهمات ذاتها، بالأوهام ذاتها. "القلعة التي بدأت ملامحها تنحل، ترقد صامتة كما هو شأنها. يتطلع السيد (ك) إلى القلعة : بدت له في الغالب كما لو كان يراقب شخصاً ما يجلس ساكناً هناك أمامه وهو يحدق، ليس غارقاً في التفكير في حالة نسيان لكل شيئ، بل حراً دونما قلق، كما لو كان وحيداً وما من مخلوق يلاحظه، ومع هذا يجب أن يلاحِظ أنه ملاحَظ ". وفيما يكون السيد (ك) مستغرقاً في تأمل القلعة عن بعد، مصاباً بحسرة الفقدان : ماذا فعلت بنفسك؟!، ستعصف به صرخة أحد موظفي القلعة، خابطاً بقبضته على الطاولة : " آمركُ أن تردَّ على أسئلتي ". إنها المحاكمة ذاتها التي لم يغادرها أبداً. الإشكال هنا يتجسّد في كون السيد (ك) قد توغل في تورطه أمام نفسه، فهو الآن في حضرة مساءلات الداخل والخارج في آن واحد. لكنه لا يملك أن يتراجع وليس بوسعه أن يتقدم. وبالرغم من أنه لم يكن ماسح أراض، ولم يمارس هذه المهنة طوال الوقت، ولم تكن القرية بحاجة لمسح أراض ممسوحة مسبقاً، ولم تعترف به القلعة لأنه كذلك، ولم تقبله القرية بذلك الوصف، فإن القلعة تمعن في التنكيل به، فتبعث له برسالة تهنئه فيها على العمل الذي قام به، وتصرّ على ضرورة مواصلة ذلك العمل دون توقف.
12
هذا واقعٌ يقرأ النص بثقة المقتولين المؤمنين ببراءتهم. ليس في الأمر فكاهة ولا عبث. في الحياة لا يعبث الموت إلا بالجثث المنسية، تلك الجثث التي تباطأت في إعلان موتها. وإذا كان السيد (ك) قد وضع نفسه في الشرك بما يشبه الزعم المازح، فإنه الآن في حضرة "نظام لعلاقات التبعية التي تتحرك من الداخل إلى الخارج ومن الخارج إلى الداخل ومن أعلى إلى أسفل ومن أسفل إلى أعلى، فكل شيئ يخضع هنا لتدرج هرمي صارم يرسف في قيود حديدية". القلعة لا ترى في المثقف أبعد من الموظف، فإذا هو قبل الوظيفة لن يكون بوسعه أن يفرض شرطاً يخرج عن شروطها. وهي شروط تنفي الشرط الإنساني وتتعداه. والقلعة ليست، في نهاية الأمر، غير الوهم الذي يذهب إليه
الشخص مدججاً بالشهوات، شهوات تقدر القلعة، بأوهامها، أن تتلاعب بها وبأصحابها بما لا يقاس من الشعارات. إن "فريدا" ليست شابة وليست جميلة، مع ذلك يواصل السيد (ك) مغازلتها، فتقول له : "أعتقد أنني أعرف ما تريده" وتلتصق بعنقه وتحاول أن تقول شيئاً آخر، لكنها لا تستطيع مواصلة الكلام، ولما كان مقعدهما قريباً فقد سقطا على السرير. وهناك استلقيا، لكن ليس في اهمال الليلة السابقة. كانت تبحث وهو كان يبحث، لقد مزقا وجهي بعضهما ولويا بعضهما، ودفنا رأسيهما في صدريهما بحثاً عن شيئ، ولم تقدر عناقاتهما وأعضاؤهما المتشابكة أن تنسيهما -بل ذكرتهما- ما يجب أن يبحثا عنه، وكالكلاب التي تنبش الأرض يائسة، مزقا جسديهما، وأحياناً ما كانا يناضلان عجزاً من جهد أخير للحصول على السعادة التي يمرغان أنفيهما فيها، ويلقى كل منهما وجه الآخر".
*******
لحظة النص / لحظة الجسد
( 1 )
ليل النص حلم كثيفٌ من الكائنات والعناصر، وربما كان ليلاً أكثر حضوراً من نهارات المحو.
الليل، كتابة تتصل بالأحلام، حيث لا نكون صادقين إلا هناك. ليلٌ، برغم حضوره الحميم ، يظل نصاً في هامشك، أو أنه هامش تدّخره لمجابهة الكتاب ومتنه. تذهب به في عزلة لا يطالها نص الناس. كأنما في حرية الهامش يجوز لك أن تطلق المرايا من أسرها. ففي الليل الحميم تقدر أن تجعل الحلم قنديلاً يؤرجح ظلالك وأنت تذرع الغرف والممرات، وحيداً ، خفيفاً ، حراً ، تفاجئ نفسك وتباغتها بالمكتشفات الفاتنة .
تبوح بالنص كأنه لك ، وتنتحب به كأنه عليك.
فهذا ليلٌ لك ، ليلك الذي تتحصّن به و تغترّ.
( 2 )
ليس أن تقرأ النص، لكن أن تكون مستعداً لكي تصدّق ما تشهق عيناك له، بوصفه تهدّج المهج المفدوحة. وإذا حدث وأصابتك الدهشة، لفرط النقائض التي يقترحها النص، مقتحماً سكينتك، فارطاً يقينك، يتوجب أن تتحلى بالرزانة ودماثة السرد، لئلا تفتك بنفسك حسرة لشعورك بالخسارة تنتابك وأنت سادرٌ في غيبوبة تحقنك بوهم الكمال.
( 3 )
في النص، أنت مثل الأعمى يكتشف الليل بأحلامه الفاتنة.
تحمل قنديلاً تقود به سرباً من الفراشات، نحو هاوية النيران،
زاعماً أنها نافذة العتمة.
عند الشاعر ،
النص هو جنته و جحيمه في آن واحد.
لكن القارئ لا يريد أن يرى في النص غير الجنة، جنته هو خصوصاً، دون الاكتراث بجحيمٍ يمتحن الشاعر و يفنيه ويعيد خلقه.
( 4 )
لحظة النص، عندي، مثل لحظة الجسد. وحيث كل الحواس في الجسد ضرورية، تكون كل عناصر الفن صالحة وضرورية، لفعل التعبير والبوح والاتصال. المتعة التي تتحقق لحظة الجسد، تكون أكثر جمالاً ولذة وصدقاً أيضاً حين يلجأ الجسد إلى كل تلك الحواس المتاحة، حواس ظاهرة ومكبوتة. يصعد الجسد في لذته كلما تسنى له أن يمارس حريته القصوى في تلك اللحظة، ففي الجسد طاقة للجمال لا تتجلى في عريه الظاهر فحسب، ولكنها تكمن ،خصوصاً، في خفائه وتماهيه وتماسّه مع شهوة الغموض والسرية التي لا تضاهى.
( 5 )
قبل ذلك، كتبتُ شعراً موزوناً كثيراً، وربما أكثر مما ينبغي. مبكراً كنت ممن يشعرون بميل شديد إلى الإيقاع. حتى أن كتابتي خارج الوزن لم تغادر الموسيقى بشكلٍ ما، ولا أزال أشعر بلذة غامضة، تكاد تكون روحية، في الكتابة وزناً، ليس لديّ موقف مسبق في هذا المجال. يبدو لي أن حساسية الإيقاع، عندي، عنصرٌ أساسيٌ مكوّنٌ، ضمن عناصر أخرى، يمنح النص خصوصيته الشعرية، وبالتالي مغايرته للنثر. وأعتقد بأن في اللغة العربية، دون الوقوف عند حدود بحور الخليل، طاقة لا متناهية من الإيقاع، ويمكن للشاعر أن يكتشف هذه الطاقة ويتمتع بجماليتها.
الشاعر لا يخرج على جاهزية الحدود لكي يهرب من الوزن والإيقاع، على العكس، إنه يفعل ذلك لكي يتفادى سهولةً تستهينُ بطاقاته وطموحه الفائق. إنه يفعل ذلك، أيضاً، لكي يكتشف أخلاطاً جديدة من الموسيقى، تلائم روحه ورؤيته، في كل نص.
فالموسيقى ليست جرساً خارجياً، لكنها جوهرة المراصد.
وظني أن أحد التحديات أمام الكتابة الشعرية الجديدة، كونها مطالبة بإقناع القارئ أنه إزاء شعر عربي، نكهةً وموسيقى وحساسية، وليس نصاً مترجماً .
الكتابة خارج الوزن، بعد الخروج على التفعيلة والبحور الخليلية، ينبغي أن نرى إليها باعتبارها مسؤولية أخطر مما واجهه تجديد خمسينيات وستينيات القرن العشرين.
الشاعر هنا/ الآن، يأتي إلى الكتابة عارياً من جميع الأسلحة الجاهزة التي توفرت للشاعر العربي عندما طرح تجديداته الحديثة. ولا ينبغي الاستهانة بما بين أيدينا من ثروات جميلة، وخطرة في آن.
( 6 )
في مجتمع مأسور، كالذي يعتقلني، لا أجد ثمة علاقة منطقية بينه وبين ما أكتب. ربما يقول البعض أن الرفض ضربٌ من العلاقة بالواقع. قد يكو ن هذا احتمالاً، لكنها تتجلى غالباً كعلاقة قتل، قتل متبادل، وهذا لا يمنح الشاعر أية طاقة إيجابية مثل الحب في راهن حياته.
لماذا نتهاون في هذا الحق الذي يُحرم منه الشاعر العربي. إنني أرى الفجوة بين الكتابة وبين الواقع العربي وهو يتدهور تتسع، وأشعر أن هذه حقيقة لا ينبغي استنكارها. إنها طبيعة الأشياء، وليس لدى الشاعر حلولاً ناجزةً لمثل هذا الوضع. التجديد في مجال الإبداع الشعري، لا يمكنه ألا أن يكون نقيضاً لما يذهب إليه الواقع. ثم إنني لا أنظّر - فيما أكتب - لتطورٍ ما في بنية المجتمع العربي، هذا أمرٌ لم يعد من شأني. ما أحبه قد لا يقبله الواقع العربي ولا يحبه كثيراً، أو سريعاً، ولكن لا حيلة لي في هذا الأمر.
أرجو أن نتفادى الوقوع في عملية إعادة إنتاج الأفكار والمفاهيم والمسلمات السابقة. المبادئ والقيم الإنسانية شيء آخر، أكثر عمقاً وحناناً وجمالاً مما يتداوله الرأي الثقافي العام والسائد.
****
سيرة النص
رواق
كُـتبتْ هذه السيرة في فترات متباعدة، تمتد من منتصف الثمانينيات حتى منتصف التسعينيات، في صيغة استجابات مختلفة وسياقات متنوعة : أجوبة على أسئلة في حوار، تعليق، مقال، مداخلة في ندوة، أو ذهاب ذاتي للبوح في صورة تأمل، يستبطن التجربة بآليات تتراوح بين الشَـكّ العنيف حيناً ، والثقة المبالغ فيها حيناً آخر.
وكنت كلما ثارتْ الأسئلة في داخل التجربة أو حولها، لجأتُ إلى محاورتها، بما يشبه التداعي الذاتي، مكتوباً في نص هنا أو نص هناك، ينشر بعضه، ويظل بعضه في ليل أوراقي، بشكل غامض من الاطمئنان بأن النص الشعري أكثر أهمية من الكلام النظري عليه.
لذلك ، بقيت هذه السيرة في شتاتٍ من هواء الكتابة، متخفّية، متماهية في رغبة النص الفاتنة في الذهاب إلى القارئ بريئاً من شهوة تبريره التي تنتاب الكاتب عادة، وإذا كانت هذه السيرة ، بادية التفاوت، في درجة الانفعال والسَبر والشعرية، فربما لأن الحياة هي أيضاً عرضة لمثل هذه الحالات المختلفة المتفاوتة .
وعندما يجري التعامل مع هذه السيرة بوصفها مكتوبة على هامش النص، فإن نشرها، مرصوفةً بليلٍ كثيفٍ يشغل الهامش بهواجسٍ رافقتْ حياة الشخص وتجربة النص، هو ضَربٌ من أشكال الرغبة التي خالجتني طوال الوقت، في تحقيق تجربة قراءة الكتاب بوصفه قطعة من حياة الكاتب، بكافة أشكال ممارسته الأدبية، باعتباره - الكتاب - جامع لحظات عديدة غاية في التنوع، مثل الحياة.
وبهذا نكون قد أتحنا لأنفسنا - الكاتب والقارئ في آن - محاولة إعادة النظر في مفهوم " الكتاب " في الأساس . بمعنى أن تجاوز حدود النوع الأدبي، يمكن أن يقترح علينا، في الوقت نفسه، العملَ على تجاوز مفهوم الكتاب وصورته المحددة - تقنياً - والمقتصرة على " شكل " واحد، ثابت، لمادته.
ليس في نية هذه السيرة التقديم للنصوص الأخرى. وليست السيرة أيضاً طريق ملكية للكتابة يقترحها كاتبٌ على قارئ.
هذه السيرة، إذن، لا تأتي لتفسير ما تتهامش أوتتقاطع معه من النصوص الأخرى. وإذا صادف وتقاطعتْ بعض العناصر هنا أو بعض الإشارات هناك، فإنما يحدث هذا بفعل المصادفات الموضوعية، التي تستثيرها وتجترحها طبيعة المشاغل التي ينهمك فيها الشخص نصاً وحياة.
سيرة النص، هنا، عبارة عن حوار ذاتي مع النفس ، تتوق للإتصال بأرواح يؤرّقها القلقُ ذاته، وتذهب إلى ذات الأفق، ولكنها تقدر، في الوقت نفسه، على العمل بأدوات وآليات مختلفة متنوعة ومتغايرة في كل تجربة وكل نص.
***
السيرة
1
ما الذي يُحدّد شكلَ النص.
. لا ،
أعني ما الذي يمنح النص صفته وتصنيفه النوعي، كأنْ نقول عن هذه المادة: قصة أو مسرحية أو قصيدة أو مقالة؟! أكثر من هذا، كيف استقرَّ لنا أن نعتبر ملامح معينة في النص حداً فنياً يجعل الكتابة قصة أو قصيدة أو غير ذلك؟!
لكن، قبل هذا كله، كيف حدث أن تبلورت هذه الملامح، لتصير عناصر مكوِّنة، ثم حدوداً واضحة، لتستقر أخيراً وتصبح قانوناً. وفي الأصل، مَنْ الذي اقترحَ علينا تلك العناصر، عبر تحولات التاريخ الأدبي في الحضارة الإنسانية ؟
أعترفُ، إن هذه الأسئلة ليست بريئة بشكل مطلق.
إنها ذهابٌ مباشر لمساءلة الجذور القديمة الأولى لتصنيف الأنواع الأدبية. فكيف جازَ لتلك الجذور أن تصير حداً مقدساً. من الذي قال به، ومن وضعه، وكيف تأتّى لنا اعتباره بمثابة الأواني غير المستطرقة التي توضع متجاورة متجابهة دون أن يتصل محتوى كل منها بمحتوى الآنية الأخرى ؟!
2
مَنْ قال :
الشعر شعر والنثر نثر .. و لا يلتقيان ؟!
في المراحل المبكرة، لتكوّن الحضارة الإنسانية ، سوف نصادف غالباً نزوعاً جنينياً لصياغة أشكال القول الأدبي. لتبدو هذه الأشكال مكتشفات فطرية، عفوية، تبلورها حركة الحياة والثقافة، وتمنحها ابتكارات المبدعين ملامح غاية في التنوع والتحول. ومن حظنا في هذا الكون أن الكتب والنصوص الدينية قد تحدثت عن كل شؤون الإنسان والحياة، ووضعت لها معايير وضوابط، غير أن الشيء الوحيد، الذي لا يستطيع أي شارح أو مفسّر الزعمَ بأن الأديان قد أفتت فيه وطرحت حوله الحدود، هو فن الكتابة وأشكال التعبير الأدبي. من هنا سوف تأخذ هذه المقترحات الفنية، منذ بواكيرها، الطبيعة البشرية، التي تقبل الخطأ والصواب، ولابد لها، تبعاً لذلك، أن تكون مرشحة لاحتمالات الشك والنقض والتحول والتجاوز والتغيير.
المؤسّسون الأوائل للثقافة الإنسانية، هم الذين طرحوا منظوراتهم في هذا المجال، بوصفها مقترحات فحسب، منذ هوميروس حتى الخليل بن أحمد. وهؤلاء مؤسّسون من مخلوقات الله البشرية، ليسوا آلهة ولا يصدرون عن مقدّس. فمثلما في التراث الغربي، سنجد الوصف نفسه يصدق على مؤسسي الكلام العربي القديم شعراً ونثراً.
هذا كله يضعنا أمام حقيقة تاريخية لا يمكن تفاديها، وهي ضرورة طرح القداسة عن تصنيف الأنواع الأدبية الموروث لأشكال التعبير. طرحها بحيث ينفتح الأفق واسعاً أمام الأجيال اللاحقة من المبدعين، كل في حقله الفني، لكي يقترحوا علينا إضافاتهم، أو نقائضهم، في أشكال التعبير، تلك الأشكال التي سوف تأخذ دوماً شكل حياة البشر وطرائق تفكيرهم وأحلامهم.
يخالج المرء شعور غامض كلما قرأ شيئاً يناقش قضية الأنواع الأدبية وحدودها الشكلانية، والأوهام المتصلة بالتراث الذي تصدر عنه تلك الأنواع .
ففي معظم تلك الكتابات يبدو التعاطي النقدي مع أشكال التعبير، كما لو أنه مَـسٌّ بأرسخ المعتقدات الدينية لدى الإنسان، موحياً بأن ثمة منطقة محرّمة ليس للكاتب أن يتجاوزها وهو يحاول صياغة منظوره الجديد. حتى يكاد المرء أحياناً يشعر بأن مجرد اختراق شروط شكل القول الموروث من شأنه أن يخلخل نظام الكون، ويهدم كيان البشر. قد لا يصرّح البعض بهذه العقيدة، لكن حقيقة الأمر تشفّ عن نزوع لا واعٍ لعدم المسَاس بالأصول الموروثة، وبالتالي الخضوع لوهم محاكمة كل خروجٍ عن تلك الأصول باعتباره خروجاً شاذاً عن منظومة أكثر شمولاً، بحيث تطال بنية المعرفة الدينية التي تأسَّس عليها العقل الإنساني. وفي هذا السلوك دليل جديد على الصعوبة التي يمكن أن تواجهها التحولات الثقافية عندما تستجيب لشروط المنظور المقدّس في الحقل الأدبي. غير أن ذلك السلوك لن يمنع التحول الحضاري الذي يحدث بصورة بطيئة، وجوهرية، ولكنها شديدة الفعالية والعمق. لأن فعل التبلور الذي أشرنا إليه، سوف لن يتوقف عبر المراحل التاريخية المختلفة، وهو تبلورٌ يتناقض مع فكرة الثبات المقدس، تبلورٌ يبقى مشتعلاً في تأجج طموح المبدعين لاكتشاف سبل وأشكال تعبيرهم، بمعزل عن سلطة المقدس التي يسبغها الكثيرون على التصنيف النوعي لأشكال الأدب.
3
ثمة تناقضٌ يكتمل بين أشياء الحياة،
تناقضٌ لا ينبغي إصلاحه ،
على العكس،
يتوجب احتضانه وتأجيجه، تكريماً للحياة .
4
منذ وعيتُ انحيازي للكتابة الشعرية، جابهتُ ضغوطاً -تكاد تصير تقليداً وقانونا ً- تفرضها المفاهيم السائدة التي تضع المضمون في المقام الأول عند النظر أو الحكم على القصيدة. وحتى عندما يجري الكلام عن طريقة قول هذا المضمون، وهو ما يتصل بالشكل، فإنه يأتي في الدرجة الثانية أو الثالثة، وباستهانة كبيرة لا تليق بالإبداع. وإذا جازَ لي الكلام عن تجربتي، فإن اتصالي بمنظومات فكرية، على صعيد الممارسة الحياتية، كانت تعتني بأولوية المضمون، لم يتدخل، أعني لم أسمح لهذا الاتصال أن يتدخل، في صياغة كتابتي. وجدتُ نفسي مأخوذاً بأهمية أن تصير طريقة القول عندي تجلياً ذاتياً وجمالياً. وأعتقد أن الأمر كان مبكراً لدي، فبعد صدور كتابي الأول (البشارة)، بدأتْ لدي مشاعر عميقة، بأن مبرر كتابتي للشعر هو أن أسعى إلى اكتشاف قول التجربة بشكل جميل، وأن أحاول قول ما أريد بشكل جديد في كل مرة، أي أن أقول شكلاً جديداً وليس موضوعاً جديداً، ليس بالنسبة لي فحسب، لكن بالنسبة لما ينجزه الآخرون. وإذا كان هذا طموحاً شعرياً لم أنجح دائماً في الذهاب إليه، فأرجو أن لا أتنازل عنه أبداً.
بالنسبة لي، كان عذاب المضمون في الحياة، وعذاب الشكل في النص، تجربة واحدة يصعب رصد تخومها.
5
لا أحتمل أن أكتب النص في ذات الشكل مرتين.
هذا ما جعل كل نص أنجزه - كما عبَّرَ البعض - يوحي كما لو أن الذي كتبه شخصٌ آخر، شخصٌ مختلف في كل مرة.
أعتقد أن هذا أمرٌ مشوّق، أحلم بالفعل أن أكون شخصاً مختلفاً في كل مرة، ليتاح للقارئ تخيل أن من كتب "قلب الحب" شخصٌ يختلف عن كاتب "الدم الثاني" أو "النهروان".
هذا هو بالتحديد ما يلذّ لي أن أقترحه على القارئ.
إذن، ماهو الشكل تحديداً ؟!
لكن، وفقَ النظر النقدي السائد، هل يمكن الكلام عن شكل صارم، في الكتابة الشعرية والإبداعية عموماً ؟
أكاد أشكّ في ذلك.
أحياناً أسهر ليلاً كاملاً متلمّساً ملامحَ شكلٍ ما، لنصٍ ما، ثم أنام ظاناً أنه الشكل.
في الصباح أكتشف أن الشكل ليس هذا، أو على الأقل ليس هو الذي يمكن أن أسكن إليه مرة أخرى.
يوماً بعد يوم، ونصاً بعد نص،
أعرفُ أن النص لا يكتب بهذا الشكل .. ولا بشكل آخر.
تُرى، هل الشكل هو ما يقترح البعض تحديده في هندسة البناء البصري للنص؟
أم أنه ما يتصل بطريقة التعامل مع اللغة ؟
أم أن لطاقة الرؤيا دورٌ فاعلٌ في منح النص شكلَه المنتظر ؟
6
صادفتُ أجوبة كثيرة، مشوّشة ومضطربةً، لمثل هذه الأسئلة في الممارسة العربية للكتابة. وأعتقد أن المشكلة المعرفية، على صعيد الثقافة والنقد الأدبي العربيين، تتمثل في أن النظرة المهيمنة لا ترى إلى الكتابة الإبداعية باعتبارها فنّ الشكل، ولكن فنّ المضمون.
أكثر من ذلك، أن ثمة مفاهيم، تكرَّستْ طوال الوقت، تَشي باحتقار شديد، أو إغفال تام، للشكل في الكتابة العربية. الأمر الذي يجعل معظم منظورات النقد الأدبي أحكاماً، تصدرُ عن خارجٍ وتقول عن خارجٍ، مأسورةً بالمضمون لا تزال، ليبقى النص وحيداً في غربته.
تُرى، ما الذي يميّز شاعراً عن آخر، إذا كتبا في مضمون واحد؟ إنه الشكل.
لماذا يعجبني الأول ولا أتوقف عند الثاني، بالرغم من اشتراكهما في مضمونٍ واحدٍ، وربما موضوع واحد أيضاً ؟
لابد أنه الشكل.
وإلا فكيف يمكننا أن نفهم ذلك القول المأثور، الذي يشير إلى الموضوعات التي على قارعة الطريق، والأسلوب الذي هو الشخص؟!
ترى ، هل الشخصُ هو الشكل ؟
لكن ، مرة أخرى ،
ماهو الشكل ..؟؟
من المؤكد أنني لا أعرف شيئاً عنه.
لستُ منجِّماً، أنا مغامرٌ، أكتشفُ، ولا أذهبُ إلى الكتابة مدجَّجاً بالأشكال.
على العكس، إنني أكتبُ فحسب، أما الشكل فيأتي في ما بعد،
كل ما في الأمر أنني لا أقتنع ولا أقنع بسهولة،
ففي الفن : القناعةُ كنزٌ لا ينفع، كما يحلو لي القول دائماً.
أظن أن قلقي تجاه ثبات الشكل هو الذي يؤدي بي كثيراً إلى مجازفة غير مأمونة، وأتمنى دوماً أن لا أنجو من شِراك المغامرات الشعرية.
7
يظل الشاعرُ مستغرقاً في حرياته،
فليس لشكلٍ مسبقٍ سلطةٌ عليه.
لستُ متعصباً لطريقةٍ محددةٍ في الكتابة،
لأنني لا أثق في الأشكال.
الاختلاف المتواصل في التجارب هو الذي يمنح النص حريته الدائمة.
هذا يؤدي بالكتابة إلى اختراق الأنواع الأدبية، وتجاوز حدودها المعروفة، ذهاباً إلى النص المفتوح، وهي تجربة أتاحت لي المزيد من متعة الإكتشاف الرؤيوي.
لعلي في تجربة نص "الجواشن" ، الذي كتبته بالاشتراك مع الصديق أمين صالح، ذهبتُ إلى شكل تعبيري مفعم بالمكتشفات، ولكم أن تتخيلوا لقاء تجربة قادمة من القصيدة مع أخرى قادمة من القصة. تجربتان تشتركان في كتابة نص يختلف عن النوعين المستقرّين.
بالنسبة لنا كان الأمر ممتعاً جداً وزاخراً بالمكتشفات.
8
يمكن العودة، في ما كتبت، إلى بدايات الخروج على حدود الشرط الفني للقصيدة، متمثلاً في النزوع المبكر لمحاولة اكتشاف الشعر في النثر. ففي محاولات بعض قصائد "خروج رأس الحسين من المدن الخائنة " و "الدم الثاني" تململٌ فنيّ غير مدرك آنذاك. تبلور، في ما بعد، بخروجٍ مباشر وشامل عن التفعيلة في "قلب الحب" ثم "شظايا". الآن يمكنني تمثّل تلك التجارب كمرحلة تأسيسية لما يمكن اعتباره قلقاً يبحثُ عن آفاق التعبير الشعري.
لم تشكّل مسألة التصنيف النوعي عقبة في سياق العملية الأدبية التي انشغلت بها، فمنذ اصطدامي باصطلاح "قصيدة النثر" لم أعد أثق في التصنيفات الرائجة ضمن الثقافة الأدبية العربية، فثمة معتقدات سائدة في النقد الأدبي، تخضع لضرورة وضع التصنيف قبل الذهاب الى التجربة. وفي تقديري أن مثل هذا الأسلوب من شأنه أن يفسد العديد من التجارب الإبداعية التي يمكن أن تغني الكتابة الأدبية.
آنذاك ، بدأ التفلّت من حدود القصيدة، التي أخذتْ تضيق على الأفق الذي يقترحه التدفق الشعري، ويذهب إليه خارج الوزن وخارج التفعيلة. ثم اكتشافي أن ثمة حرية تعبيرية لابد أن تطرح مسؤولية جديدة أمام الكاتب، كل ذلك وضع أمام تجربتي إحساساً مضاعفاً بخطورة الأداة التي تستحوذ عليّ وأشتغل بها : اللغة.
الاحتفاء باللغة، إذن، هو الشرط الأول لتخلّق الحالة الشعرية، حيث الصورة الفنية لا تتحقق بغير طاقة الجمال الكامنة في اللغة. هذا الاحتفاء يشكل، في اعتقادي، طبيعةً أساسيةً عند الكاتب وضرورية، لكي يجعل إنتاجه الأدبي مبرراً بتميزه التعبيري عن أشكال التعبير الإنساني الأخرى.
تبلورَ ذلك في تعاظم الحساسية تجاه الإيقاع اللامتناهي في اللغة العربية : الكلمات، الجمل، المفردات، الحروف، الصور، الاستعارات، الدلالات، العلاقات. كنت أجد في اللغة طاقة هائلة من الإيقاع، الذي كانت الأوزان والتفاعيل تسحقه أو تعبُر عليه بضجيجها الخارجي والعام، ورأيتُ في ذلك كبتاً لحرية الحرف، كوحدة وكذات، في مواجهة القانون الموضوعي العام، الذي لا يرى في الحرف سوى جرس يمكن أن يصخب مثل طبل في نهاية كل كلمة وعند خاتمة كل قافية .. في ذيل الشطر أو التفعيلة.
تلك الطاقة الكامنة كنت أكتشفها بلذة عميقة، وأجد في ثناياها روحاً شعرياً يضيء غموض الأفق أمامي، ليس على الصعيد الفني فحسب، ولكن على الصعيد الروحي خصوصاً.
9
عندما قرأتُ ما كان يكتبه الصديق "أمين صالح" باعتباره قصة، كنت أقول: هذا شاعرٌ أكثر حرية مني. ولعل "أمين صالح" كان العنصر الأكثر تحريضاً لتجربتي من أجل اقتحام الأفق الذي كنت أحلم به.
ودون الاستهانة بمستقبل الكتابة الذي نتطلع إليه، فقد كان أمين صالح- من جهته - يأتي من عالم النثر الى التألق الشعري بسرعة متناهية، وكان مبكراً في ذلك أيضاً. وأذكر، بعد أن قرأتُ مخطوطة "أغنية ألف صاد الأولى "، تمنيتُ عليه ألا يكتب على غلافها بأنها رواية، فقد رأيتُ فيها نصاً جديداً مغايراً لمثل ذلك التصنيف، نصٌ يتمتع بحرية تَخرجُ عن حدود الرواية بمفهومها المتعارف عليه، وكان فيها من الشعر عناصر كثيرة. هذا ما يؤكده ارتباك الكثيرين أمام تلك التجربة، خاصة أولئك الذين جَهَروا بأنها ليست رواية، دون أن يكتشفوا أنها أحد النصوص الجديدة المبكرة للكتابة التي كنا نذهب إليها، والتي بين أيدينا الآن اجتهاداتٌ نادرةٌ مثلها.
عندما وجدنا أنفسنا، بعد سنوات، نكتب "الجواشن"، شعرنا أن عملنا ليس إلا تبلوراً طبيعياً على الصعيد الذاتي، فـهاجسنا المشترك، الذي استمر كل تلك السنوات، لم يعد يقبل التردد أمام أفق التجربة التي تغرينا يومياً للتجريب بكامل حريتنا.
شخصياً، كنت أرى في كتابة أمين صالح أسئلة جديدة تحاور عمقياً الأسئلة التي تشغل كتابتي. بالطبع كلانا لم يكن يريد الأجوبة، فالكتابة ليس أن تجدْ جواباً، لكن أن تسأل.
أثناء انشغالنا بكتابة "الجواشن" جاءت فكرة بيان (موت الكورس)، الذي جعلنا نكتشف، من بين أشياء أخرى، مسألة غاية في الطرافة لم نكن ننتبه لها - تقنياً - في أول الأمر، وهي أن كلانا كان قادم من نوع تعبيري مختلف، في أصله الفني، عن الآخر : جاء أمين صالح من تجربة القصة وجئتُ من الشعر. هذه الحقيقة تجعل تجربتنا - من الوجهة النقدية - أكثر تعقيداً، في حين أننا لم ننتبه لها إلا في وقت متأخر، مما يؤكد -لنا على الأقل- أن شرط النوع الأدبي قد تم تجاوزه عملياً وبشكل عفوي، وأن مفهومنا للكتابة أصبح متصلاً بالنص، النص باعتباره كتابة شعرية في العمق، كتابة تكتسب شرعيتها من قدرتها على التحقق خارج الأنواع، وبجماليات فنية تقترح تعاملاً مختلفاً عند الكاتب أولاً، وعند القارئ في ما بعد.
هذه الشرعية ليست حكم قيمة لنجاحنا أو فشلنا، لكن إشارة إلى حقها في حرية التجربة... وهذا ما حاولناه في "الجواشن".
10
يأتي الكاتب من حدود الأشكال إلى حرية الكتابة، نحو لذة المجازفة ونشوة الإكتشاف، ليشهر جمالية المغامرة. وعندما لا يصدر الكاتب - في النص - عن تصورٍ/ مثالٍ، سابقٍ يقلده أو ينسج على منواله، فإن مسؤولية الإقناع الفني تتوقف، عندئذ، على طاقة الابتكار والجمال، حيث ينبغي على الأدوات والعناصر المبتكرة أن تكون قادرة على بعث الروح الإنساني في شكل يليق بالحرية التي يزعمها. وينبغي أن يتشكل هذا الفعل في كل لحظة :
وقت الكتابة و وقت القراءة.
وهو شكلٌ يشبه الأفق وليس قانوناً.
كل نص يمكن أن يصير مادة أولى، أو نقطة انطلاق، لنصوص أخرى قيد الاحتمال، إذ لا قداسة لشكلٍ ولا تكريسٍ لنمط، من هنا جاء الكلام عن النص مشوباً بقلق الكاتب المتردد إزاء ذلك الأفق، فيما هو خاضع، لا شعورياً، لوهم الشكل، ومرصود لتحفظ القارئ أمام أي خروج عن شكلانية النوع، ذلك القارئ الذي يسأل عن نوع هذا النص، أو يبحث عن المعنى الذي يريد الكاتب قوله، وفي هذا مصادرة مزدوجة من شأنها أن تفسد التجربة في الجانبين.
11
كيف يأخذ النصُ شكلاً ؟
فيما نحن نتوغل في الكتابة، سوف نتيح لأنفسنا فرص النجاة من إشكاليات الشكل.
أو نتفاداها، كلما توغلنا في الكتابة كفعل روحي وفني في آن.
لماذا نتجرّع ماءَ الشكل الراكد قبل الكتابة ؟
ليس في الشكل ما يغري، إذا كان شرطاً أمام الكتابة، يسبقها ويتسلّط عليها.
ثم إن الشكل ليس أولاً وليس قبل أي شيء.
الشكل هو كل شيء، أنه القتل والأسلحة في آن.
من هنا تنبع عناصرُ الجمال في تجربة النص.
إن رغبة الاختراق التعبيري عند المبدع هي ضربٌ من الموهبة الأساسية، وربما هي واحدة من أهم مكونات الإبداع. وعبر التاريخ الإنساني، في مجال النشاط الفني والأدبي، كان التجديد والابتكار لا يتحققان بغير هذا النزوع الفطري عند المبدع، إنه في كل لحظة من التاريخ يجرّب بحرية ومسؤولية في هذا الاتجاه، وعليه أن يؤكد موهبته في التجربة.
للشاعر حرية أن يتصرف، لحظة الكتابة، كما لو أن اللغة ملكية خاصة له، يعمل بها من غير الخضوع لوهم أية سلطة تعترض على ذهابه الإبداعي وخروجياته عن مألوف النص. وكلما تميز هذا الشاعر بالموهبة والمعرفة، تيسر له أن يجعل مقترحاته أقرب إلى إحساس القارئ، بأنه إزاء تجربة تأخذ الأمر مأخذ الجد، ولا تستهين بخطورة ما تفعل. عندها لن يعود أمام التجربة إلا أن تثق في الأفق وتذهب إليه بلا تردد.
قراء قليلون، نادرون أحياناً، لكنهم مكتملو الحواس .
قراءٌ، مثل جوهرة المراصد، يرصدون الأفق معك، يذهبون إليه معك، ويشكّون فيه معك.
وحين يستفردون بالنص، تنتابهم نشوة الكشف وينكشفون أمام ذواتهم.
رغبة الاختراق، على صعيد آخر، ضربٌ من التمرد الذاتي ضد الشرط الموضوعي للواقع. وبما أن أشكال التعبير المستقرة هي تجليات متماهية في سلطة الواقع وقوانينه، فإن الفنان سوف يعبّر عن ذاته المتمردة دوماً، ضد موضوعية المواصفات السائدة والثابتة، خاصة تلك التي تتحول إلى كابحٍ مركبٍ أمام تطلعات الإنسان المتغيرة يوماً بعد يوم.
الأشكال الفنية الموروثة أخذت تفقد قداستها المتوهمة، منذ أن بدأ الكاتب إحساسه بأنها قيدٌ يصادرُ الخطوة والطريق، ومنذ اكتشافه بأن ثمة وهماً اسمه الشكل الواحد الوحيد المستقر لطريقة التعبير.
الأشكال الفنية ليست سوى مقترحات وضعها بشر مثلنا، إنها أشكال كانت، بالنسبة لهم، مكتشفات اجتهد بها مبدعون سابقون، وهذا يعني أن بشراً آخرين يمكن أن يتمتعوا بنفس الحق والحرية في تجاوز تلك المكتشفات، واكتشاف آفاق جديدة يمكن الذهاب إليها في كل تجربة وكل نص.
لكن، ينبغي التأكيد بأن ذهابنا لتجربة النص لا يشكل نفياً لأي نوع أدبي آخر. على العكس، إننا نرى في حضور كافة أشكال التعبير، قديمها وجديدها، حواراً إنسانياً يمنح المشهد الفني تنوعاً وثراءاً.
أكثر من ذلك، فإننا نحسب التنوع اختباراً لجميع الاجتهادات الفنية، لمعرفة قدرتها على التقاط لحظة الإنسان في راهن حياته.
12
الكتابة في عصرنا، عندما تؤكد على حرياتها في تجربة التعبير، إنما صدور تصدر عن ضرورة الديمقراطية بشتى تجلياتها للإنسان . وإذا كانت أنماط الكتابة انعكاسا غير مباشر لأنماط الحياة وتطلعات البشر، فإن التمرد على تلك الأنماط انعكاس، هو أيضاً، لتطلعات إنسانية مغايرة وتتغير بلا توقف. وربما شكّلَ التمردُ الفنيّ على نمط تعبيري مستقر، خلخلةً لنمط أو قانون حياة مستقرة في المجتمع، ومن هنا نستطيع أن نفهم ردود الفعل التي يمكن أن تحدث إزاء اجتهادات التجارب الأدبية الجديدة وخروجياتها. وما تثيره تجربة حرية النص تفسّر لنا الى أي حد يقوم الذهن العربي على تقديس مبالغ فيه للثوابت والمستقرات الموروثة في المجال الثقافي، إنه تقديسٌ يصادر مستقبلنا.
حتى الخيول سوف تصاب بالإعاقة إذا طالَ حبسها عن حرية السهول.
ترى ، ألا نرى في ضوء ذلك، بلادة الأشكال المتوارثة للكتابة الأدبية، وبالتالي طريقة عرضها الرتيب، مما يؤدي إلى سأمٍ مستفحل يفسد المتعة الجديدة عبر كل تجربة فنية.
يلذّ لنا في مثل هذا الموقف أن نطرح سؤالاً جذرياً من هذا القبيل:
ما الذي يحدث في الكون عندما يكتب الأديب نصاً مختلفاً لا يخضع لأي نوع من الأنواع الأدبية المعروفة والمستقرة؟
ونطرح سؤالاً أخر أيضاً :
ما هي الغاية النهائية للكاتب عندما يكتب القصة أو القصيدة أو المسرحية أو الرواية، هل هي رغبة البوح الإنساني والتعبير عن الذات، أم هي غائية تحقيق النوع الفني المحدد بعينه ؟!
إن شكل القصيدة ليس هدفاً في حد ذاته، ولا شكل القصة ولا المسرحية ولا الرواية، لذلك فإن الاستمرار في الابتكار الفني لشكل التعبير، هو نشاط إنساني يشير إلى الحرية التي يتطلع إليها المبدع بوصفه إنساناً.
النص - من هذه الشرفة - يقترح حرية إضافية أمام الكتابة الأدبية، دون اكتراث لوهم القداسة التي يضفيها البعض على موروث الأنواع الأدبية.
13
في الكتابة يلذْ للكاتب أن يتمتع بكل العناصر الفنية المتاحة والمكتشفة في لحظة النص. الكتابة هي لذة الكاتب قبل أن تصبح متعة للقارئ، وهذه اللذة لا تتحقق من دون كامل الحريات التي يستدعيها النص، من أصغر الحروف الى أقصى المخيلة.
بالنسبة لي، أصبح النص، بوصفه طريقة حياة، لا يقتصر على ضرب محدد من فعل الكتابة، ولكنه تحولٌ الى طبيعة شاملة تتغلغل في كل نشاط كتابي يمكن أن أمارسه. فلم يعد ممكنناً أن أكتب جملة من دون أن تأخذ حريتها وحقها من الشعرية، حيث اللغة تصعد الى طبيعة تغاير نثر الإبلاغ والإخبار الجافَين القائمين على الذهنية الخالصة. فالمقال، مثلاً، يمكن أن يستفيد كثيراً من الاقتراحات التعبيرية التي تنبثق من تجربة النص في الكتاب العربي الجديد. ولعلنا نلاحظ في السنوات الأخيرة الانزياح الشعري الذي تذهب إليه تجارب تعبيرية مختلفة، من بينها بعض النقد الأدبي أيضاً، وفي هذا تَمَثُلٌ حقيقيٌ لما يمكن اعتباره تداخلاً وتمازجاً لكافة الأنواع التعبيرية في مجال الكتابة، وهذا يؤكد أيضاً مسألة نتوقع أن يفيدنا عنها النقد الأدبي بالذات، وهي أن انفتاح النص لا يتحدد في الشكل الفني، لكنه ينطلق من فهم الكاتب للطبيعة الكامنة في اللغة، ودورها في التحولات التي تجري في مجال الكتابة عموماً.
14
غالباً ما أستغربُ من الإغفال الواضح، الذي تقع فيه العديد من التجارب الشعرية الجديدة، لحساسية الإيقاع، التي من شأنها أن تمنح الكتابة روحاً جديدة يمكن أن تتميز بها عن التجارب السابقة، هذا إذا تمكنا من عدم التفريط بمكتسبات القصيدة الحديثة، وأطلقنا ما هو مكبوت في إيقاعية اللغة، بوصفها الطاقة الموسيقية المتاحة أمام الشاعر دوماً. إنني أنحاز كثيراً لأهمية الموسيقى في النص، وأشعر بأهمية (العزف) على ما لم يكتشفه الخليليون حتى الآن. ففي اللغة العربية سحرٌ لن يلامسه أحد مثلما يفعل الشعراء، هؤلاء الذين يؤسّسون مستقبل اللغة المفتوح على الأفق.
هذا يجعلني أشير الى ما يستوقفني كثيراً في معظم الكتابات الراهنة، حيث يجري تغيّيب كامل للعناصر التي يمكن أن تشفّ عن نص مكتوب بالعربية أصلاً، مما يؤدي بي - أثناء القراءة- الى الشعور بأنني أمام مادة مترجمة عن لغة أخرى. وأظن أن عدم تأمل هذه الظاهرة، ومعالجتها بصراحة وجرأة عميقتين، يمكن أن يؤدي بنا الى خسارات فادحة سوف تؤثر على التكوين الجديد للتجربة الشعرية العربية. وأخشى أن نجد أنفسنا أمام نصوص على درجة من الجفاف الموسيقي كما لو أنها مكتوبة لقراء من الصُمْ، لفرط الصمت المطبق عليها.
15
مبكراً شعرتُ بأن اصطلاح "قصيدة النثر" تعبيرٌ مرتبكٌ ومربكٌ معاً، ولا يستقيم مع حساسيتي الشخصية تجاه ما أعتبره شعريةَ الكتابة.
في البداية، لم تكن لدي معرفة واضحة بطبيعة التجربة التي صدر عنها ذلك المصطلح ودلالاته النقدية. وعندما وجدتُ نفسي أكتب خارج الوزن، صرفت النظر عن مسألة الخضوع لتعبير "قصيدة النثر". ولم أكن أستجيب لتداوله، ربما لأنني كنت أفترض بأن ما أكتبه هو شعر، وماهيته شأنٌ يتصل بي أولاً. أكثر من هذا، فإن تعبير "نثر" في سياق الثقافة والذائقة العربيتين، يشكل خدشاً لشعرية النص. لذلك ذهبت إلى اكتشاف الشعر في النثر، إن كان ذلك ممكناً.
في ما بعد، في السنوات الأخيرة خصوصاً، اشتغلتُ في عدد من المقالات، بما يشبه الحوار الداخلي، على مساءلة هذه التجربة، محاولاً أن أرصد وأكتشف جانباً من جوانب الإشكالية التي أثارها مصطلح "قصيدة النثر"، وتجليات النظر والممارسة في الكتابة العربية. وقد توقفتُ عند تفسيرات التفتتْ الى التباس المصطلح لدى عدد من الشعراء والنقاد. كما إننا سوف نرى أن بعض التجارب الشعرية الجديدة أدركتْ ، فطرياً، ذلك الالتباس النقدي، وذهبتْ ، فيما تكتب، الى تجاوز المشكل النظري، لتحققَ نصاً شعرياً ينجو من الأوهام الرائجة في الصحافة الثقافية.
لا أتفق مع الافتراض القائل بــ"انتصار التشوش والجهل" في هذا المجال. فإن إن سعة الانتشار ليس انتصاراً، وتعدد الاجتهاد الفني، الموهوب، ليس جهلاً، إنه اختلاف عما نعتقده. وعندما نعتني بالتجربة كنصوص إبداعية، سوف ننجو دوماً من متاهة المصطلحات. فالاتفاق النقدي/ النظري على دلالة المصطلح لا يسعف كتابة فقيرة الموهبة، و"بنية الخلق الشعري العربي المعاصر" عندما تفقد مقوّما نقدياً يوازيها ويضاهيها، لا يجب أن تكون، في عمقها، عرضة لتعثرات جوهرية تفسد فعاليتها الشعرية.
ثمة خلل في الصدور عن إحساس بضرورة تأصيل كل ظاهرة فنية لمرجعية محددة، كأن تكون الكتابة، خارج الوزن، معطىً منسوخاً عن تجربة "قصيدة النثر" الغربية، أو أن يكون لهذه الكتابة أسلاف في التراث العربي. مثل هذا التعاطي لم يعد مقبولاً ولا جديراً بالمزيد من البحث، فلا عقدة سلطة النص الأول/ التراثي، و لا عقدة النص الآخر/الغربي ، يمكن أن تسعفا كتابة تتخلّق كل يوم. إن الشاعر كذات هو المصدر الوحيد لما يمكن أن نسميه تراثاً يولد الآن، فربما كانت الأصالة هي أن تكون أنت الأصل لما تبدع، وباقي الأشياء تأتي فيما في ما بعد .
16
لكن، بالمقابل، من المبالغة التي لا أحبذها، الافتراض بأن شكلا فنياً، مثل الكتابة خارج الوزن /قصيدة النثر، يمكن أن يكون هو أعلى المراحل الشعرية للتطور الفني، ففي هذه الآلية مصادرة لأشكال تعبيرية أخرى، قد لا تعجبنا ولا نميل إليها ولا نحبها، لكنها اجتهاد فني موهوب آخر، من المتوقع أن تتفهمه رحابة المبدع، وتؤمن بحقه في الحضور كبوح إنساني يقترح علينا جماليات أخرى.
ثم أن الكلام عن "قصيدة النثر" باعتبارها "أعلى المراحل الشعرية" يدفعنا الى حضيض السوق الاستهلاكية .. كمن يتحدث عن آخر موضة .
الشعر، بالضبط، ليس كذلك.
الإبداع مثل الهواء،
كل نسمة تأخذ طبيعتها ونكهتها من الدم الذي يتدفق في القلب.
17
ما تَمَّتْ معرفته لا يشكل لهذا الجيل مدعاة لكتابة ما، فالكتابة لم تعد ضرباً من فعل إخبار، إنها فعل اشتباك رؤيوي. هذا الاشتباك لا يحدث مع ما يعرفه القارئ، لكن مع ما يكتشفه للمرة الأولى، وخصوصاً مع شكل هذا الإكتشاف.
من هذه الشرفة تصدر كتابة هذا الجيل، الذي يمعن في مغايرة النص الأول، مستنفراً أمام أية محاولة لترويض مخيلته، وسوف يذهب أيضاً إلى التنكيل بكل شروط الكتابة التي لا يجترحها اجتراحاً بذاته .
يأتي شخصٌ ليعترض على النص قائلاً:
" لكنه لا يشبه شيئاً سبق أن قرأته ! "
هذا اعتراض مفهوم، لكن المقاربة المسبقة للنص الجديد غير مقبولة، لعدم فعاليتها.
النص الجديد لا يريد أن يقلّد كتابة سابقة، إنه يقارب النموذج المجهول، الغامض، قيد الإكتشاف.
من هنا سيجد المعترض فسحة كبيرة للمغايرة بين النموذج، القانون، الجاهز، والنص الجديد، الذي يكاد أن يكون اجتراحاً، أو ينبغي أن يكون كذلك.
إنه يكتب الآن مخترقاً سلطة الجاهزية التي توفرها ذاكرة البنية. ليس للنص بنية مكتملة، إنها لا تكتمل، ولا تطمح لاكتمال ما بمعزل عن قارئ يحسن الاشتباك الرؤيوي مع النص.
ليست قطيعة مع ما سبق، لكن ارتياد لمحتمل المستقبل من خلال جحيم الواقع. هذا الجيل لا يعبأ بالذاكرة، إلا باعتبارها رماداً يدّخر ناراً ممكنة، ولا يكترث بالنسيان إلا بقدر طاقة المحو فيه.
كأني بكتابة هذا الجيل لا تريد أن تشبه الماضي، ولا تتيح للمستقبل أن يخذلها.
وهي لا ترى في الأسلاف سوى اكتمال على وهم يتوجب نقضه.
إذا جاءت كتابة هذا الجيل منطوية على صعوبة القراءة، فذلك لأنها صادرة عن صعوبات الكتابة. ليس سهلاً الكتابة خارج ما تمت معرفته.
18
النص محاولة للتمثّـل الجسدي، لتجسيد حالات لم تعد الحدود الشكلانية المعروفة قادرة على استيعاب حركتها غير المنظمة والمنفلتة من كل أسر. الكتابة، الآن، ليست استجابة لرغبة اتصال مشروط، وإنما لرغبة استحواذية في التحول، واكتناه ذات نافرة وكينونة طاغية.
لا يأتي الكاتب، اليوم، ليقول عن الحالة، لكن ليصير الحالة ويتجاوزها في آن.
بمعنى انه يشتغل على تحويل الخوف - مثلا – إلى جسد ينبثق من تلاحم المفردات، وينمو في عصب الصور والعلاقات. جسدٌ جديدٌ شاملٌ لا يبدأ هنا وينتهي هناك. جسد مفتوح مثل عذراء تغري قرينها المرة تلو الأخرى.
النص، من هذه الشرفة، هو انتقال الفعل الايروسي الى نضال متألق في الأجساد اللامتناهية، المتمثلة في القارئ. القراءة، إزاء / مع هذا النص، ليست بحثاً عن المعنى، بل ابتكاراً لمناخ تستدرجنا إليه عناصر مشتركة، للكاتب فضل مؤالفتها بجمالية جديدة، يجري اكتشافها.
19
لقد بدأتْ الأنواع الأدبية تتداخل بدرجات اقتحامية، متفاوتة الــوعي والتجربة، وتقترح مؤالفة فنيةً بين الحد والآخر، حتى لكأننا نلحظ كاتب القصة يضج ُّبالمواصفات التي يتطلبها فنّ القَص، متطلعا الى آفاقٍ أبعدَ من تلك المواصفات، ويفتح في نصـه ثغرات تنشأ فيها القصيدة بجماليات تداهم التجربة، وتفاجئ القارئ معا. من جهة أخرى، ربما رأينا الشاعر يجد في السرد والحوار والتأمل الفلسفي عناصر تنطوي على طاقة تعبير لا تقل شعرية عن مألوف الشعر.
ولعل الأمـر، بالنسبة للشاعر، سيبدو أكثر تشويقا، فالمسألة لم تعد، محصورة في شرط النثر والوزن، إنما تتجاوز ذلك لتصبح متصلة بالمفهوم العام لشعرية الكتابة، وحدّها الإبداعي، كضرب من التعبير اللغوي، الذي صار طموحه متمثلا في محاورة أشكال الحياة وعناصرها الحارة.
ينشأ النص من تألق الشعر في الكتابة، ومن تصاعد الأنواع جميعها، مثل لهب المواقد، لتلتقي في أتون جامع، بحيث لا يعود الحوار إلا انزياحاً لحالة السرد الشعرية، ليبدو المشهد كما لو أنه سياق قصصي يقصف سلطة الراوي، وينداح بلغة ثاقبة مثل تجليات راءٍ.
20
إنه لا يؤلف كتباً،
لكنه يصقل المرايا .
21
قيل إن النص فضاء افتتــان .
الإفتتان هنا في اتجاهين معا :
حالة الكاتب مفتونا بلحظة الكتابة، فيما يكتشف الآفاق اللامحدودة، حيث تفجر طاقة الجمال في فعل اللغة، منفلتة من أسـر الشكل. وحيث يشعر الكاتب بحرية الذاهب في سديم اللغة، وخطورة الخلق، وإعادة الخلق في جحيم هذا السديم الدائم التألق مثل جنّـة. افتتان الكاتب هنا ليس سوى تحقيق لحالة الامتزاج المتبلورة لطرفي الموهبة والمعرفة معا.
وحالة القارئ مفتونا برعشة الملامسة الأولى لكتابةٍ تزعم الجدة، وتذهب إليها، بعناصر لا تخذل. تذهب مثلما العاشق يكتشف جسد حبيبته للمرة الأولى... فيصاب بالسحر.
21
قال شخصٌ :
أعجبتني كلمة من امرأة، قلتُ لها ومعها طبق : ما عليه يا امرأة ؟
قالت : فَلِـمَ غَطَيناه إذاً ؟
من أين صدر فضول الشخص، وكيف تجاسرت المرأة على جواب موغل في الفضيحة ؟!
في احتدام حوار خاطف كهذا، يجوز لنا أن نلتفت إلى احتمال الإشارة فيه. حين غطت المرأة طبقها، تكون قد حققتْ أكثر من فعالية في آن. هي، من جهة، منعت الآخر من "رؤية" المحتوى. لكنها، من جهة أخرى، استثارتْ شهوة الإكتشاف لدى الشخص. ومن المحتمل أيضاً أنها أتاحت للبعض الآخر تشغيل خياله، وربما لجأ البعض إلى تخيل مالا يتصل بالمحتوى أصلاً، بل من المتوقع أن لا يكون في الطبق شيء أصلاً. وسيذهب البعض إلى أبعد من ذلك، فما دام محتوى الطبق "غامضاً" لشخص ما، سيجد نفسه مؤهلاً لأن ينفي وجود الطبق في الحقيقة. ثم، مَنْ يجزم أن هناك طبقاً، رغم الشخص الذي سأل، ورغم المرأة التي أجابت بسؤال يأخذ إلى الغواية ؟.
هل يمكننا أن نرى إلى النص الأدبي الآن على هذه الشاكلة؟!
أعني هل نسأل الكاتب عن نصه، أم نسأل النص عن كل شيء؟!
هل نطمئن لأجوبة الكاتب المتسائلة، أم نستجيب لغواية الغموض في النص ؟! هل النص جواب يُعلِّم، أم شك يأخذ إلى التهلكة؟!
عندما يبدو النص غامضاً، فذلك لأن النص معادل للحياة، وناقض لها في آن.
من يستطيع الجزم بأن كل شيء في الحياة واضح ولا يحتمل المساءلة ؟!
إن غموض النص ينطوي على فضح لزعم الواقع بالوضوح. من هنا تأتي مخاطرة أن تسأل الكاتب عن نصه. إنك لن تحصل على جواب يوضح، فربما ازددت غموضاً، وربما أفسد الكاتب احتمال متعة لديك فيما تحاول اكتشاف النص. لا يحمل الكاتب طبقاً، ولا يضع غطاء على طبق، ولا يحسن الطبخ، ولا يعد أحداً بالطعام، ولا يشبع الكاتبُ شخصاً جائعاً، ولا يعبأ بفضول شخص فقير الخيال.
لكن إذا تيسر لك أن ترى نصاً يستثير لديك الأسئلة، فلا توجه أسئلتك لجهة غير النص، وإذا فشل النص في التوغل بك نحو لا نهائية المعنى، فلن ينجح الكاتب أو غيره في ذلك.
لكن لا تضع نفسك في ندامة، مثلما فعل ذلك الشخص، الذي أتاح للمرأة أن تنكل به.
ثمة شخص آخر، سوف يسعف المعرفة بغير أدواتها.
شخص قال : " لن ينتفع أحد بعقله حتى ينتفع بظنه ".
ويقيناً أن " الظن " هنا لن يكون إثماً.
إنما هو استجابة لغواية المخيلة، فليس للعقل طريق إلى حقيقةٍ لا تمر بالمخيلة.
22
ليس الغموض الذي نصادفه في الفن من اجتهادات الفنان، على العكس ، إنه الدأب الدائم الذي يبذله الفنان في الكشف عن أسرار تجربة الحياة، وفضح الكامن والمتماري فيها، و إتاحة أكبر قدر من مساحة المتعة أمام ذاته، لمعرفة هذه المهزلة الدموية التي تورَطَ في اجتيازها، بكامل الحساسيات التي تتصل بمعنى الحياة و رؤيته لها.
ما يسمونه غموضاً، يكمن في درجة الاستعداد الثقافي لدى الفنان والمتلقي، بحيث تكون العملية مشتركة بين أطراف متكافئة لتتحقق المتعة. لنعرف أن الغموض هي الفجوة التي علينا أن نجتازها معاً. ولعلنا كلما حاولنا الإيضاح نزداد غموضاً. لذلك نجد أن الذين يبالغون في توضيح نصّهم إلى حد التسطيح، والخضوع لوهم البساطة، سوف يمنحوننا العديد من التجارب العابرة، التي لا تشكل أية إضافة على صعيد التعبير الإبداعي، ولذة النص والحياة في آن.
السائرون في الظلام، وحدهم يعرفون قيمة النجوم الصغيرة البعيدة في الأفق، ووحدهم يستطيعون رسم خريطة النص، والإصغاء للنار الصغيرة في صحراء الحياة.
فليس مثل ضوءٍ صغيرٍ يلمحه الضالُ في نهاية الأفق، معتقداً أنه نار النجاة، وليس مثل مفاجأة ذلك الشخص عندما يصل إلى تلك النار، ليكتشف أنها زجاجة الليل التي لم تزل تختزن بقية من ضوء النيازك. فليتضاعف عدد الذين يسيرون في ليل جميل مثل هذا.
23
فعل القتل الذي نحققه، فيما نكتب، هو الذي ينبّهنا لآليات الرؤيا، هو الذي يلفتنا الى الأسلحة التي يمكن ابتكارها في كل لحظة، في كل سطر، في كل صورة، و ربما في كل كلمة.
أحياناً يدفع حرفٌ ما الى ما لا يقاس من الاكتشافات. حرف الـ (ج) مثلاً، يستدعي أمامي عشرات الصور والتداعيات لمحاولة اكتناه العلاقة الغامضة، المحسوسة لتجربتي حتى العظم، بينه وبين تلك الحقول الصفراء الشاسعة التي تنتظر شفرة منجل يخبط قامات السنابل لتقفز السنبلة وهي تمنح حبة القمح لخبزٍ ساخن تعلكه أسنان تصطك من البرد في كوخ تحيط به الثلوج، وسوف ينتابني فرحُ الفراشات أمام وهج قنديل تلك العائلة التي أحسنت ادّخار ذلك القمح ليوم ثلجي مثل هذا.
وعليّ أن أتجاوز جاهزية حرف الـ (ج) مرة تلو الأخرى، وتجاهل ذاكرته، لئلا تكف اللغة عن منحنا ثرواتها الغنية.
هل دار في خلدك أن نقول عن الشكل، فيما النص بين أيدينا، يغرينا باقتحام التخوم التي وضعتها نظريات الشكل العمياء.
الآن،/ هنا،
الممارسة هي النظرية.
والصَبية التي يكتشفها صديقي الخلد الأعظم، لا تشبه صبايا الكون كله. وسوف أقتل تفرّدها هذا، إذا ما اقترحت عليها شكلاً سبق أن لعبت فيه الصبايا الأخريات.
أحياناً يخدعني الخلد زاعماً أن السناجب لا يطيب لها اللهو إلا في قصيدة الشعر الطويلة، وعلينا أن نحتفي برغبة حيوانات لطيفة مثل السناجب، وما أن نبدأ العمل حتى يتناهى الى سمعنا حوار شيقٌ من الطرف الآخر في الغابة.
فريقان من السناجب يتحاجزان، ويحتل كل فريق خندقاً حفره بدقة معمارية، بحيث يتمكن من إحكام الحصار على أي تسلل لتمتين العتاد أو إخلاء الجرحى. حوار مسبوك تحسن السناجب تداوله، حتى أنها من النادر أن تخطئ في النحو وحركة الأفعال.
ألتفتُ الى صاحبي وإذا به يشير لي نحو طرف آخر في الحوار، فالسناجب لم تنس أن تزرع قناصيها بين الأغصان العالية لشجرة الصنوبر المطلة على مداخل الساحة. ينفجر كلانا في ضحكة مجلجلة، ونمزق النص الذي بالكاد بدأنا به. لقد هزمتنا السناجب وسخرت منا أيضاً. كنا نظن في لحظة ما، أن للسناجب طريقة ثابتة لممارسة لهوها البريء، وتبذر في الأفق فخاخاَ لا تحصى، كل منها طريق لشكل أو ما يشبه الشكل.
نظن أن الفخاخ حدوة حرف الــ (ج) مكنوزة لنا، وما إن نضع أيدينا على بريقها المراوغ حتى تشدخنا أشداقها الفاجرة.. مثل ليث يزعم أنه يضحك لنا، في حين أنه يتضاحك بنا.
ساعتها فقط نتيقن أننا لم نتأخر عن النص.
24
بعد ذلك كله.
ما هو الشكل إذن ؟!
و أي شكلٍ يجري الكلام عليه دوماً ؟
هل هو شكل الكتابة أم شكل الحياة ؟
هل ثمة فرق ينبغي أن يوجد بين الحياة والكتابة؟
جئنا الى النص ،نعرف عن الحياة بالقدر الذي نجهل عن الكتابة،
ولن يعنينا من الأشكال سوى رمادها، إذا كان جديرا بمزيد من الحرائق.
فالشكل يأتي في ما بعد.
إننا نكتشفه فجأة. لا نذهب إليه،
لكنه يأتي إلينا مثل ثلج الأعالي، مثل غيمة هاربة من قاموس.
25
ليس أمام الجيل الشعري الجديد، المتأججة أحداقه نحو الأفق، إلا أن يعيد النظر في الأسئلة التي اقترحتها عليه التجربة الأدبية حتى سبعينيات هذا القرن.
عليه أن يطرح أسئلته على تلك الأسئلة.
هذا هو قدر الجيل الراهن / القادم. فقد انطوت تلك الأسئلة على اضطراب شديد، فرضته الطبيعة السياسية والاجتماعية العربية التي نشأت فيها أطروحات الحركة الأدبية السابقة. فها ها هو الجيل يتلقى حظه الأكثر اضطراباً بما لا يقاس. والتوقف أمام الأسئلة السابقة، لا ينبغي أن يفهم منه تقليلاً من شأن أصحاب تلك الأسئلة، بالعكس... ففي مثل هذا العمل نوع من الاحتفاء الإبداعي بتجربة ليس لأحد أن يستهين بمعطياتها نظراً وعملاً..
إن إعادة النظر، هو فعل حوار، يتجاوز الخضوع والقبول من جهة، ويتصل بخصوصية الزمان ولحظة التاريخ من جهة أخرى. وعلى إعادة النظر هذه أن تتحقق بشروطها، لئلا يصل الجيل الجديد إلى ذات الأفق الذي تبشر به نهايات تجارب منتصف القرن العشرين.. حتى الآن. وهي نهايات لن يكون نكوص نازك الملائكة واصطدام يوسف الخال بجدار اللغة، وعموديات أكثر من شاعر، والهيام بسلطة المؤسسات، لكي لا نذكر إلا الشعراء، صورة مختزلة ومباشرة منها.
لكي لا يفهم كلامنا بالسائد المتداول من القول، فإنني لا أرى في هذا الواقع أزمة ما. على العكس، فكل ما يجري هو مظهر من مظاهر التحول الطبيعي. التحول الذي يَشي بصحة في الجسد، فالجسد الذي لا يموت لا يعرف الحياة..
لا أميل إلى اصطلاح الأزمة.
أحب أن أسمي ذلك موسم الولادة. وإذا تمكن هذا الجيل الشعري الجديد من طرح أسئلته الخاصة، في مواجهة الأسئلة السابقة، سوف يتيسر له أن يثبت جدارته بعبء الكتابة، فأهمية كل جيل، ودليل جديته يكمنان في قدرته على ابتكار أسئلته، وليس في اجترار أسئلة سواه ممن سبقه.
إن في تجربة الجيل السابق قضايا كثيرة تظل بحاجة للمسائلة للمساءلة والحوار والمراجعة، والنقض أيضاً. كلما كان التراث القديم جميلاً، صار أكثر جدارة بأسئلتنا الجديدة، ولابد أن التراث الحديث سيبدو أكثر جمالاً عندما نمعن في وضعه تحت أسئلة لا هوادة فيها، أسئلة تشك أن كل شيء على ما يرام، عندما يتعلق الأمر بالكتابة.
لعل الفجوة المهمة التي على الأجيال الجديدة تحقيقها دوماً، هي تجاوز الاعتقاد بأن السابقين قد أعطوا أجوبة كافية وجديرة بالتقديس، وما علينا إلا قبولها كمسلمات.
الجيل الذي يفعل ذلك، هو جيل بلا ألسنة ولا صوت له ولا يتمتع بموهبة الإصغاء. عليه أن يتفادى المآزق التي ذهب إليها السابقون، وهي مآزق توهم الكثيرون أنها منجزات حصينة، وأجوبة مكتملة.
ليس في كل ما يكتبه الإنسان ما يسوّغ قداسة ما. وليس هناك من هو محصّن ضد النقد والنقض. بهذه الروح، على الجيل الراهن / القادم، أن يبادر في تشغيل موهبته وإبداعه.
لكن من المؤكد أن هذه الموهبة ليس لها أن تحسن الشغل إلا إذا تسلحت بالمعرفة.
هل نكون متصلين بنبوءة جبران خليل جبران، عندما قال ذات مساء مفعم بالألق في بداية القرن:
"أقول لكم، أنه لا ينقضي هذا الجيل، إلا ويقوم لكم من أبنائكم وأحفادكم جلادون".
هل يكون جيلاً جميلاً من الجلادين، هذا الذي يشحذ نصالَ موهبتِه على شفرة المعرفة؟
ينبغي أن نعاقب أجوبةَ الموتِ بأسئلة الحياة.
********
اسمع يا "آرثر"
(تحية إلى عبدالرحمن النعيمي)
1
مندلعاً في يقظةٍ مشتهاة
في كوكب جارف
ترخي ثقتك أدلاءَ مدججينَ بقناديلَ خامدةٍ
متكئاً على طرف التخت البارد
راصداً بأحداقك المذعورة
قلوعاً مرميةً على الرمل
ظناً أنها المد العالي.
2
كيف تريد لنا أن نصدقَ انتظارَك
كيف لنصوصك المختومة بعاج عظامنا
أن تقرأ لنا الطالعَ
فيما تصقل لك تاجاً ترثه كل صباح
مثل تاريخٍ يتفاقمُ في كوابيس ليلنا التائه.
3
طاشَ بنا العقلُ المجنونُ وأنتَ في عرشك،
تنتظركَ حشودُ أحشائنا لتمتحنك بالعجلات
وصريخ الحديد في عظام كواحلنا
ها أنت تبالغ في التحديق
كلما عَبَرَ أمامك شخصٌ مأخوذٌ
يستفحله الوهمُ ،
شخصٌ يتهاوى،
يتشبث بتلابيب شخصٍ يتلاشى
نطوف به في قفيرة القمح
رجاة أن تنهضَ المعجزةُ في أعضائه
نؤدي له صلاةً
يرتجُّ لها المُـلكُ والمملكة
يصطف الموتى جمعاً جمعاً
يتدافع الفقراءُ والخزافون وطهاة العرائض
وأنتَ في الغيبوبة والغيّ،
يُحيطُ بقصرك تسعونَ خطيباً يمتدحون رحمة الموت
لكي يتريثَ ويمنحك الوقتَ لتخرج من جسرٍ منخورٍ
يعبره الجوعى بنصف رغيفٍ
وضرائب نهبٍ وتسعة قتلى.
4
ليتك تسمع نحيبَ الأحباب
وراء الباب.
5
أصلابـُك تظنُّ بنا،
فتريثْ في خجل الوحش
وأتركْ لحديد المعنى يوقظ ليلَ نداماكَ.
6
بالغتَ في صقل السيف بشهوة الحجر
ضاهيتَ الصخرَ بقلبك
فاختلطَ عليكَ العدلُ بطيش المُـلك
هل أنتَ الحربُ على شعبكَ
أم أنت السِلمُ عليه.
7
ليس لديك من الوقت لتأنيب دعاء الندم
فرسانـُك المؤجلونَ ينتظرونكَ على مشارف الجبل
ينتظرون انحدارَكَ منجرفاً لتأخذَ مكانـَك في طليعتهم
يذهبون إليكَ
مثل الحجّ
مثل الحلم إلى النوم،
إليك
إليك
لتذهب بهم في درس اليقظة
لرعيلٍ أمعنَ في التيه
وأفرطَ في الحسرة،
ما كان لكَ أن تتأخرَ عن قلق القلب
في مهاميز فرسانك المنذورين لفقدك
جَسـُورونَ بكَ
ويدركونك بالحب أكثر مما تتركهم في الضغائن،
مريدوك يريدونك،
قرابينهم في أيديهم
رجاةَ أن تبرأ من الضَـرّ
رجاة أن تنهضَ بتاجك الصحيح نحو مدارجَ خيلهم،
يستـلونك مثل سيفٍ سعيدٍ في المبارزات
يعالجون بك جراحَهم
ويجرحونَ بكَ أوهامَ الجنة والنار.
8
كتائب جيشك العاطل تعبث
بلا بصيرةٍ ولا مجدٍ
فقلْ لهم،
أؤلئك الذين بالغوا في الخطأ
من شرفة القصر حتى حديقة الحصن،
يفزعون من حصاة الجرس
ينافحون في بهو الأرض
منخرطين في التدوين
يستغلق عليهم المعنى
وتخونهم الدلالاتُ
ويشطـُّ التفسيرُ بهم.
قلْ لهم
بعينيك المغرورقتين في تضرع الأوج
عينين يعزّ عليهما البكاءُ
قلْ لهم
أن يكفوا عن هندسة الكارثة وأرشيف السُلالةِ
قل لهم
أن يكبحوا كلامَهم الفاحش متذرعين بالصلاة
في منعطف الكعب الهشّ
فيبدأوا في إطلاق فرسَ الشهوة
وشجاعة الموج.
9
هل تنسى أنخابَـكَ معهم ساعة حركة الكواكب
فيما كانت الشمسُ تستريحُ قبل الفجر
فيما الطفلُ في العائلة
فيما النعمة ترَفُ الوقت
فيما الدعاة يتهجون القرى
فيما المعاجمُ تجهلُ
فيما الضجيجُ يطغى
فيما الكتابُ في الوحشة
فيما الناسُ في التجربة
والحكمة في العدل.
10
الآن،
تطوي طاولتك المستديرة
وتصقل خواصرَ خيلك بأكثر المهاميز جسارةً
وتطلقُ نشيدَ الصحراءِ لبحارةٍ في السفر، ونساء في البيت.
لكن مَـْن يُـصغي إليكَ وأنتَ تجهلُ سورة السديم
وتنسى فهرسَ الأساطير
تخرجُ مدججاً بالقوانين
لتقنع شعباً أرهقته الإقامة في سجن البحر،
لكي يقبلَ قيدَ الأرض،
شعباً أمضَّـتـه حموضة العطش
شعباً شطـّ به الوهمُ
وشطرته الأحلام
الآن،
فيما تطوي عباءتك الكالحة
مستديراً نحو عرشك الوشيك
لا تظننَّ أن سيوفَ فرسانك المصقولة لفرط المبارزات
كافية لترويض شكيمة شعبٍ خصَّه الله بالبحر.
11
ثمة فارسٌ واحدٌ
كفيلٌ برسم وردةٍ سوداءَ على كتفك،
يعيد تنظيم حركة الطبيعة
ويمنح الخيلَ أسماءَ الناس،
فتحسَّس الندبَ النافرَ في زندك
حرِّر أطرافك من وهم الإرث.
12
هل أنت ملكٌ أمْ سماء
لكي تنسى فرسانك في غيمة أحلامٍهم العابرة
وتغفل عن فهارس الوعد في طليعة عهدك
ليس لشعبك أن يتأرجح مثلك
بين صكوك المحراب
ونصوص ميثاقك
ميثاقٌ رَفـَعْـتـَه صارية في زرقة السفر.
13
أطلقْ رباطَ بغالك
تخفـَّفْ من أدوات الحرب
أرخِ لنـَجـّارِيكَ كي لا يتيه بهم خشبُ السيسم في اليَـمّ،
فمقاعدك لا تـُحصى
والتختُ المنخور يضيع بنا.
14
نساؤك المذعورات من فرط الوحشة
لم يبق لهنَّ بعد الغربة غير المنفى
ليس في البيت غير انتظار فادح
وذبالة خيطٍ معقودٍ في الرسغ المرضوض.
15
ثمة نساءٌ
رَبَـيـْنَ الأحجارَ في مهودهـنَّ
لئلا يشعرَ الرجالُ بالوحشة
لئلا يصابَ الأطفالُ بالوحدة،
نساءٌ رافـَـقـنَ البحرَ في مَـدّهِ الأعلى
لكي يستمهلنه في السواحل
ويستفردنَ به في ردهة النوم
يَغسلنَ الأواني بفيضِه
ويَـدْهَـنَّ أعضاءَ رجالهنَّ بسَورَة الغضب،
بحرٌ يدخرُ الدمعَ لهـنَّ
ساعة ينجرفُ الرجالُ من جرف الجبل
ملتحقين بجيشك المتعثر بمشتهيات القرى
وسقط السبل المنهوبة.
16
نساءٌ خفيفاتِ القلب ثقيلاتِ الحُجة
كلما لمحنَ دمعتك الأخيرة في مقلتك الساهمة
طفـقـن في مطرِ يفيض على الرأس
فيبدأ جنون الفقد.
17
نساءٌ
انتهينَ تواً من تدريب الموجَ على الغرق
والطيرَ على الأوج
نساؤك الوحيدات في الليل
مَـنْ سيدرك أحلامَـهـنِّ المغدورة
وأنتَ منخرطٌ في رغباتك المكبوتة
منشغلٌ بدماثة الخيل.
18
نساءٌ أعلى من يـدك
لن تلمسهنَّ قبل أن تضعَ الضوءَ في كلماتك
لن تطالَ الخيطَ المنسول من أذيالـهـن
وأنت في آلة الحرس
تتعثر بزجاجكَ الثمل.
19
هل تسمع قهقهة الموتى
وهم يتناوبون على أعنة خيلك
يؤيدون ركابك في ليل الخرائط
يغوونك بالمسك الطازج
والعنبر النيئ
يمسّدونَ سُـروجَـك بلحاهِـم الدبغة
ويفتحون مساربَ العتمة أمامَ دوابك المأمورة
تتصاعد ضحكاتهم الشيطانية
منشدين لك المنادبَ في شكلِ صلاة الموتى،
هل تسمع.
20
يشحذون كواحلهم بخواصرَ خيلك
ينتبهون،
ينهبون،
وينتابهم النصُ :
"مَـنْ أحسنَ الوفادةَ نـالَ الرفادة"
21
هذا وقـتـك فاغـمـدْ سيفك
امنحنا نعمة أن نسمعَ نشيدك الجديد
وننسى ما يجعلك مليكاً يتذكر أسلافاً ينسون
يحبطنا
ويؤجلنا
ويقايض أخطاءَ العمر بنا.
22
أطلقْ خيلك
عبر أزقة هذا ريف مهدور
دعنا ننساك قليلا
ننصح حماة عرشك
كي يتوبوا عن الإلحاد
ويكفوا عن السعي
بأجنحة تشهق في الليل بلا فتوى
ننساك قليلاً كي تتذكر.
23
لسنا رعاياك
ونوشِكُ أن نسأمَ منك
وأنت تمدّ المدى للصدى
تبالغ في ثقتك بصبرنا عليك،
لن ندخل حروبك
لا نصغي لطغيان الفتوى
وأصوليي الحانات
مبعوثي إلهٍ لا يعرفهم.
24
لستَ إلهاً
لسنا عبيداً.
25
لأقدامنا أجنحة تكفي
وطيشُـنا بلا حدود،
26
لدينا أطفالٌ نخشى عليهم سطوة الكتب
والكتائب.
27
كل ما لم تستطع قوله
تقوله الآن
حيث العرباتُ المكنوزة
مشدودةً على مطهماتك الأصيلات،
تقوله الآن
تقوله حيث ينال فرسانـُك حصة عتادِهم المهمل
ليس ثمة احتمالٌ للخطأ
بينك وبينهم الصَكُ،
بينكما ما يوقظ الحجرَ في حضن الجبل
يقطف النارَ في القلب
فقلْ ما تقوله الآن
قبل أن تختلطَ عليك شرفة القبر بوحشة القصر
فلا تعرف
أيهما لك وأيهما عليك
قل ما تقوله الآن.
28
قله الآن
فيما تخرج من وهدتك
قله
صوتك يجعل كلماتـك حـيّـة وقادرة،
فلا تنشغل بغفلة الصلاة عن يقظة العمل.
29
يحزمون أرضكَ بالهجوم والجسر المكسور
غزاة يستنفرونك للطقس والتضاريس
فاخطفْ سلاحكَ من عدوّك
ابتكره واصقلْ به الرسائلَ
يسمع فرسانـُك الكلامَ كلما قلتَ
ويفهمونك كلما سعيتْ.
30
انهضْ من تخت الحكم
انهض من بياض السرير
من سديمك
وافتح سريرتك،
فرسك البيضاءُ في الوعد
بيضاء مثل اليقظة في خرمس الناس.
انهضْ من تختك
استدر بكعبك الصلد
وانحدر نحو فرسانك المنتظرين
لا نجاة لهم بدونك
ولا نجاة لك وحدك.
صدر للشاعر
- البشارة- البحرين- 1970
- خروج رأس الحسين من المدن الخائنة- 1972
- الدم الثاني- 1975
- قلب الحب- 1980
- القيامة- 1980
- شظايا- 1982
- انتماءات- 1982
- الجواشن- (نص مشترك مع أمين صالح) 1989- 2004
- يمشي مخفوراً بالوعول – 1990
- عزلة الملكات- 1992
- نقد الأمل- 1995
- أخبار مجنون ليلى-(بالاشتراك مع الفنان ضياء العزاوي) - 1996
- ليس بهذا الشكل ولا بشكل آخر- 1997
- الأعمال الشعرية (مجلدان)- 2000
- علاج المسافة- 2000- 2002
- له حصة في الولع- 2000
- المستحيل الأزرق- كتاب مشترك مع المصور صالح العزاز- (ترجمة/فرنسية عبداللطيف اللعبي- انجليزية- نعيم عاشور) 2001
- ورشة الأمل- (سيرة شخصية لمدينة المحرق)- 2004- 2007
- أيقظتني الساحرة (مع ترجمة انجليزية- محمد الخزاعي)- 2004
- ما أجملك أيها الذئب- 2006
- لستَ ضيفاً على أحد –2007
- فتنة السؤال- 2008
- دع الملاك – 2008
- الأزرق المستحيل ويليه أخبار مجنون ليلى- 2009
- إيقاظ الفراشة التي هناك "مختارات" – 2009
- الغزالة يوم الأحد "شذرات"- 2010
- طرفة بن الوردة- 2011
www.jehat.com
email: qassim@qhaddad.com
|