3- أ-4
إذا كانت القراءة التعاقبية قد كشفت لنا أن الوعي بأهمية الشكل البصري في الكتابة الشعرية الحديثة يصلح مدخلا لقراءة تحولات وتطورات التجربة الإبداعية عند قاسم حداد فإن القراءة ا لآنية التزامنية يمكن أن تكشف لنا عن أهم الأبعاد والقيم الجمالية والدلالية للتنويعات الشكلية المنبثقة عن ذلك الوعي والممثلة له في مستوى الإنجاز النصي.ونظرا لكثرة الآثار الدالة على الطاقات الكامنة في لعبة تشكيل الحروف والكلمات والجمل والمقاطع والنصوص فإننا مضطرون للتركيز على ما نعتبره ا لأهم من هذه الآثار وذلك في مستويات ثلاثة تتجه بنا من الجزئي إلى الكلي ومن الأكثر خصوصية و محدودية إلى الأكثر عمومية وإطلاقا
في مستوى أولي ستركز المقاربة على الوحدات الخطية الصغرى، كالحروف والكلمات، حيث يمكن أن تحلل ظواهر محددة كإبراز الوحدة وتكرارها لمحاولة تحويلها إلى أثر جزئي لافت للانتباه
ورغم أن البحث في هذا المستوى قد يبدو محدود المدى والعمق نظرا لأننا أمام كتابة طباعية- آلية لا أثر قويا فيها لحضور الكاتب إلا أن البدء من هنا يؤسس لما بعده إذ يكشف عن بعض مظاهر ما يسميه هنري ميشونيك ب الطباعة الشعرية حيث لا يمكن محو آثار الكتابة الأصلية-بيد الشاعر- كليا 16
في المستوى الثاني يتجه التحليل إلى الوحدات الجملية - المقطعية وتناقش فيه عمليات توزيع الجملة على السطر أو في الفضاءات اللاحقة والمجاورة بحيث ينتج عنها سلسلة من الأشكال الهندسية المجردة كالمربع والمستطيل والدائرة أو المشخصة كالخيمة والقلادة والسلم
فهذه التقنيات هي جزء من عمليات موضعة النص بحيث يتحول مجال الكتابة، في جزئيات منه، إلى فضاء نصي- تشكيلي تتحول فيه الجمل والمقاطع إلى علامات جمالية- سيميائية متعددة المظاهر وغنية الدلالات والإيحاءات، وخصوصا من منظور سيميائية ش. ص. بيرس كما سنلاحظه لاحقا أما في المستوى الثالث والأخير فسيتم تحليل نماذج من الوحدات النصية الكبرى وهي نماذج تحيل إلى نصوص قصيرة مختزلة في عدد بسيط من الكلمات أو الجمل مثلما تحيل إلى نصوص طويلة تمتد على مدى الصفحات في المجموعة الشعرية بأكملها
هنا سيتم التركيز على مظاهر التقلص والتمدد والانتظام والتشتت، أو الفوضى، وغير ذلك من مظاهر هندسة النص وتشكيله في صفحة أو صفحات حولت إلى فضاء صوري بصيغة ما وفي هذه المستويات وحرصا على انسجام القراءة في هذه الفقرة مع ما سبقها ستبدأ عمليات التحليل من البسيط إلى المركب، ومن التشكيل الافتراضي إلى التشكيل القابل للإدراك بالمعاينة الحسية، ذلك لأن كل النماذج المنطوية على قيم ودلالات أجلى وأعمق تنتمي إلى المرحلتين الثانية والثالثة من تجربة الشاعر التي رسمنا خطاطتها العامة في الفقرة السابقة
3-2-4
يظهر الاهتمام بالحرف، كأصغر وحدة خطية في العديد من كتابات قاسم من كل المراحل لكنه يأخذ اتجاها عاما يشي بذلك التحول من القولية - التعبيرية- الغنائية إلى الكتابية التشكيلية- القرائية أو البصرية فالحروف في " البشارة تحضر في نصين، عنوانا ومتنا، متخذة منحي تاويليأ 17
يتعامل مع الحروف باعتبارها علامات لغوية في المقام الأول
في النموذج الأول
نقرأ
لأن حروفنا نار
لأن جميع من وقفوا ومن ساروا
ومن قتلوا بعين الشمس
أحسوا النبض طوفانا واعصارا
لأن حروفنا الخضراء والحمراء
ملء مخاضها ثورة
وفي نموذج آخر
ألف
الأمر يختلف
فالأبجدية التي نعيشها جديدة
حاء
والحرب في فيتنام
خاء
تمزقت خيامنا
تمزقت أقنعة الورق
دال
ويصرخ الأطفال في أوال
جيم
وعالم الحريم
وما بعدها
فالحرف هنا لا قيمة له إلا باعتباره جزئية من كلمات وجمل ونصوص موجهة ومحكومة بمرجعية ذلك الخطاب ا لنضالي الذي ينتمي إليه ويلتزم به الشاعر ويشارك في التعبير عن انتمائه إليه والالتزام به شعرا مثلما يعبر غيره عن ذات الرؤية والموقف بمقالة أو خطبة أو رسالة أو غير ذلك من الوسائل التي تكمن قيمها وغاياتها في ما يقح خارجها وخارج الذات الفردية المنتجة لهذا الشكل أو ذاك من أشكال الخطاب ومن هنا محدودية حضور الحرف كرمز أو شكل شعري فالحروف تستحضر بشكل عادي في النموذج الأول وإن لونها الشاعر بالأخضر والأحمر واستعار لها خصائص النار التي تحرق وتغير مثلها مثل الفعل الثوري الذي يدعو إليه ويبشر به وذات الحروف تستحضر في النموذج الثاني بشكل مبسط سواء كان الحرف يعين بداية الكلمة المركزية في المقطع أو منتصفها أو نهايتها، أو حتى إذ يحاول الشاعر استثمار الحرف صوتيا فقط جيم : وعالم الحريم/ دال ويصرخ الأطفال في أوال لا تفضي المحاولة إلى ابتكار شعري جديد وإن توهم وتخيل انه يشارك في تأسيس أبجدية جديدة للقرن العشرين كما يوحي به العنوان. في نماذج أخرى سيتطور هذا المنحى التأويلي يتعمق لأن الشاعر سيتفاعل مع مرجعية تراثية جمالية وفكرية، غنية في مظاهر احتفائها بالحروف، وهنا تحديدا تظهر عمليات تجاوز البعد الدلالي- الترميزي للحرف إلى أبعاده التشكيلية التجردية تحديدا
لنقرأ هذه النماذج
1
أقف عاريا في ثلج الريح
وحيدا كحرف الألف
ولا أنحني
أتمرد على كل الآلهة
ولا أنحني
أخرج من نار وأدخل في نار
ولا أنحني
امتزج بالرماد
ولا أنحني لسواك
قلب الحب
2
أنا حين أرسم كلمات مثل
حنين ، حارس
حلم ، حجر
ليل ، لهفة
لذة ، لبن
أكون قد لوثتها بك
قلب الحب ص 19
3
الحروف كلها مرضى إلا الألف
أما ترى كل حرف مائل
أما ترى الألف غير مائل
إنما المرض الميل
وإنما الميل للسقام فلا تمل
نص للنفري يرد بين أقواس في مقطع بعنوان حالات الحروف والأسماء من مجموعة
النهروان ص 61- 62
4
أدخلت الحروف في فوضاي
فوضتها أموي
من يعدل الكون ويهندس المجرة ميم
ميم
سين
ألف ياء
ويكسر الخيط ويكسوني
65
5
الجسد/ حديد طري تستفرد به دماثة المليكة
الجسد/ حنين يأخذ شكل الحرف
قبر قاسم، ص 93
ففي النموذج الأول والخامس يتحول حرف الألف إلي مولد أساسي لصورة افتراضية أو تخيلية يضاهي ويماهي فيها الشاعر بين كينونته الجثمانية والروحية وبين حرف الألف الذي اكتسب بفضل استقامته أو تساميه إلي الأعلى قيمة رمزية خاصة في المرجعية الشعرية النص فيه المعلنة في النموذج الثالث
ومع حضور هذه المرجعية في هذه النماذج وفي جل كتابات قاسم في المرحلتين الفانية والثالثة إلا أن الأمر يتعلق هنا بنوع من أنواع "التناص الاستلهامي " الذي يشيح للنص الجديد إمكانية الخلاص من أي قيمة سلطوية مرجعية للنص القديم وهذا تحديدا، في اعتقادنا، ما يبرر الإشارة إلي أن حدوث " الانحناء " للحرف- الرمز أو للجسد الكائن يكتسب قيمة دلالية إيجابية تحرفه عن دلالة الميل والمرض " إلي دلالة الحب والحنين إلى الآخر المحبوب. وفي سياق هذا المنحي التأويلي ذاته لا يمكن أن نستبعد أن الشاعر "الحديث " أصبح يعي ويدرك أن للشكل المنحني جمالية توحي بالمرونة والحيوية لا نجدها في الشكل الخطي المستقيم الموحي بالصرامة والجفاف واليبوسة وهذا ما جعل القدماء يسمون الخم
الكوفي باليابس لغلبة الخطوط الهندسية الصارمة عليه ولذا ألح على الدلالة الأولي في النموذجين وفي كل الأحوال فإن الوعي بالقيم الجمالية والدلالية للحروف يتجلى بشكل أقوى وأعمق في النموذجين الثاني والرابع حيث يجتمع البعدان التأويلي والتشكيلي في الكتابة، وفي القراءة بالضرورة. فحرفا الحاء واللام في النموذج الثاني يتكرران في بدايات الكلمات ليولدان سلسلة من التشاكلات البصرية والصوتية التي تنضاف إلي التشاكل المعنوي في المقطع فتعززه وتطور مظاهره وأبعاده الجمالية والدلالية خاصة وأن لعبة التكرار تبدأ من الحاء في أول " حين " واللام في نهاية " مثل في الجملة الشعرية الأولى كما يلاحظ 18
أما في النموذج الرابع فإن المنحى الق ويلي يكاد يمحي ويختفي لصالح البعد التشكيلي للحرف كوحدة خطية- كتابية ذات قيمة مجوده وقابلة بالتالي لق ويلات تف!ض عن أي مرجعية محددة
فالشاعر هنا يستثمر حرف " الضاد "، الذي تنسب إليه اللغة العربية بأكملها فيقال " لغة الضاد "، لتوليد تلك التشاكلات المشار إليها أعلاه ثم لا يلبث أن يكسر أي تشاكل ويمحوه من خلال كتابة حروف الميم والسين والألف والياء واللام دونما أي رابط واضح، شكلي أو صوتي أو دلالي، فيما بينها!. فالمنطق الذي تعلنه الكتابة وتمثله هو منطق " الفوضى " التي تحيل هنا إلى رؤية جمالية- فلسفية لاترى في الكون من منطق وبالتالي فإن إضافة فوضى الحرف إلي فوضى الذات المتكلمة أو الكاتبة لابد وأن يفضي إلى مثل هذا الفضاء النصي الفوضوي بامتياز لأنه صورة من كون أو من مجرة يتعذر تعديلهما وهندستها كما يوحي به ويومئ إليه السؤال المعلق في الجملة الفاصلة/ الواصلة بين شقي المقطع من يعدل الكون ويهندس المجرة
وإذا كنا قد تجاوزنا الحديث عن الوحدات الخطية الصغرى- الحروف والمقاطع والكلمات إلى " الفضاء النصي " فما ذلك إلا لأن هذه الوحدات تتدخل بقوة في تشكيله و هندسته كما رأيناه من قبل. من هذا المنظور ذاته يمكن للقراءة أن تتوقف عند الكثير من المقاطع التي تنهض فيها لعبة التشكيل على استثمار حروف الجر والوصل والنداء والأسماء الموصولة وضمائر الملكية والمخاطبة وغيرها من الوحدات المماثلة لتوليد سلسلة من التشاكلات الشكلية والصوتية والمعنوية ومجموعة من التشكيلات الفضائية ذات المظهر المتسق والمنتظم أو المشتت والفوضوي مما لا يسع المقام للوقوف عنده في مقاربة كهذه ونشير إليه فحسب للتذكير بأهمية البدء من هذا المستوى من النص في أصغر وحداته ومكوناته وتمظهراته ... وقد نعود إلي بعض هذه المظاهر في الفقرة التالية نظرأ لتعالق المستوى السابق بالمستوى التالي
وقبل الانتقال هذا يحسن أن نشير إلى تلك ال " آه " التي ترد عنوانا، ربما !، لخمسة مقاطع من سورة التل " في " قبر قاسم " وتكتب في كل مرة بخط أكثر ضخامة وبروزا بصريا من المرة السابقة ولا يدرى بالضبط إن كانت هذه الوحدة شكلا مجردا أو كلمة أو عنوانا، أو إن كانت حرفا للتأوه المتصاعد الملذوذ أو المؤلم أو أنها مجرد إشارة تجمع بين الأبجدي والرياضي، أو أنها كل هذا ولا شيء منه بالتحديد لأنها علامة لغوية- بصرية حرة الدلالات 19
3-3-4
لاشك أن تكرار الوحدات النصية الصغرى يمكن أن يقارب من حيث علاقاته بالبنى الجملية- المقطعية إذ انه يساهم في تماسكها وانسجامها في المستويات المعجمية والتركيبية والدلالية للخطاب كما يفصل القول فيه باحث مثل محمد الخطابي 20 وبما أن مقاربتنا الراهنة تقتصر على الوظائف والقيم الجمالية والدلالية المتعلقة تحديدا بالشكل العام فإننا لن نعرض لهذا الجانب إلا في نهايات هذه الفقرة وبشكل موجز لأنه لايعنينا كثيرا هنا ففي هذا المستوى سنركز على ثلاثة مظاهر لتشكيل الجملة، أو المقطع، من خلال التمييز بين، التوزيع الحر أو الفوضوي و التوزيع الهندسي المجرد وأخيرا ذلك التوزيع الهندسي المشخص أو الأيقوني الذي يحيل إلى مرجعية خارجية محددة تلعب دورا ما في مقروئية النص وتداوليته سواء من منظور القراءة الاستمتاعية الحرة أو القراءة النقدية التحليلية- التعليلية
نركز على هذه المظاهر الشكلية باعتبارها نتاج لعبة- تقنية تشكيل الشكل للنص في جزء منه بحيث لا يظهر في فضاء الصفحة حتى يمثل إنزياحا واضحا بالنسبة لفضائه النصي العام. كم إن تجربة قاسم الشعرية لا تشذ عن إحدى هذه المظاهر، مثلها مثل غيرها لأن الفروق والخصوصيات هنا لا تتجاوز مدى تكرار وشيوع شكل ما في تجربة ما فحسب كما سيتبين لنا لاحقا 20 لنقرأ هذه النماذج التي حاولنا إعادة إنتاجها هنا بصورة قريبة جدا لما هي عليه في الأصل
1- أ
أجلس في لغة الماء
واستصرخ من يحاور
هذه المدينة ذات الآبار المسمومة
مسنونة الأسنان تفتح الأحضان
تعال
وأنا / لا
من يحاور
لغة الماء في وحشة المدينة
من يحاور ؟
شظايا، ص 41
1- ب
مشي في وحشة التهويم
لن يصل الكلام إليه
يمضي شاهقا لجنته التي أشهى
يوالف أم يخالف
أم يؤدي طاعة للطقس في ردهات هذا الكهف
لا تسأل
فقد أضحى بعيدا نحو جنته
وحيدا صار في حل من التنظيم
الوردة الرصاصية \النهروان ، ص 15
إنجاز
قاسم حداد نموذجا
د معجب سعيد الزهراني
|