من منظور وصفي استقرائي سنحاول تتبع تجربة قاسم الشعرية في تحولاتها الزمنية التعاقبية وذلك بهدف الكشف عن أهم وأبرز الآثار الدالة على تطور وعي الشاعر بأهمية الشكل في الكتابة الشعرية الحديثة وعن كيفية تمثل ذلك الوعي واختبار تمثيله في إنجازه الشعري الخاص وهو ينتقل ويتطور من مرحلة لأخرى من هذا المنظور، واعتمادا على ما سبق وأن المحنا إليه في قراءات سابقة، يمكننا التمييز بين ثلاث مراحل شعرية في تجربة قاسم لا ندعي أنها متمايزة كليا لكن المؤكد انها قابلة للتمييز المبرر نظريا وإجرائيا، في مثل هذه المقاربة. ففي المرحلة الأولي، مرحلة البدايات، تهيمن الغنائية- الإنشادية على جل النصوص التي نجدها في مجموعات مثل البشارة 1975
خروج رأس الحسين 1975 الدم الثاني 1976
ولا يظهر أثر الوعي أعلاه إلا في أضيق الحدود كما سنرى. ففي هذه المرحلة كان الشاعر يصرف جهده وطاقته الإبداعية- الفكرية نحو تلك الشعرية النضالية الفعالة التي تعبر عن وعي ملتزم يحاول أن يعين مظاهر الشر والقبح والظلم والإغواء برفضها ومقاومتها وتجاوزها إلى مظاهر الخير والجمال والعدل وغير ذلك من المقولات إننا هنا أمام لغة شعرية تحيل مباشرة إلى ذلك الخطاب الثوري المتمركز/ حول الذات الإنسانية، وبالأصح حول ذات إنسانية بعينها الذي هيمن عربيا وعالميا إلى السبعينات، وانتشرت مقولاته وأفكاره ومبادئه في الخطاب الشعري كما في غيره من الأشكال الخطابية الأدبية والمعرفية والأيديولوجية فالذات الشاعرة هنا تنتمي إلى خطاب عام له جماعاته المختلفة المتعددة ووعيها بوجاهة وضرورة انتمائها هو ما يبرر تعاملها مع المنجز الشعري كمادة، أو كوسيط، في سياق مشروع التغيير للعالم والمجتمع كما تراهما الذات الشاعرة وجماعتها المرجعية
فالنص الشعري من هذا المنظور يتحدد بما هو خارجه أكثر مما هو داخله وقيمته الأساسية تكمن في قدرته على مجابهة الخلل في الواقع الآني والتاريخي وتجاوزه أو على الأقل التبشير بإمكانية ذلك في هذه المرحلة يظهر أثر محدود للوعي بأهمية لعبة تشكيل الشكل البصري للنص لكنه يظل ثانويا ومبسطا لأن عنف الدال اللغوي ودلالاته المباشرة تطغى على الأثر كما نقرأه في نماذج مثل
1
..هل تشعر ما يحدث في الطين
..حين يهان
..يجن... ويقتل.. يحرق في قلب التنور
..وبعد سنين
..تزرع في أعماق الطين نار من آثار النور تصحو
..تلمع
..تبرق كالأفكار
..تثور
(البشارة، ص 105- 104)
2
وكل من كانوا لنا- يا قلب- أصدقاء
توقفوا
وانفجر البكاء
تراجعوا
وانهارت الأشياء
يا أيها الإنسان
نحن أمام صفحة جديدة
من دفتر الأحزان
فلنكتب التاريخ من ضميرنا
وليسقط الجبان
(البشارة، ص 66- 55)
ففي مثل هذه النماذج، على قلتها في المجموعات السابقة، تظهر لعبة الكتابة المائلة للكلمات بما يولد نوعا من أنواع التدرج وضمنه بعض مظاهر التوازي الأفقي والرأسي اللافتة للانتباه لكن اللعبة الشكلية تظل غير وظفيه جماليا ودلاليا إلا في أضيق الحدود وبما لا يمكن مقارنته مع النموذج السابق لسعدي يوسف، وهو مكتوب في الخمسينات كما رأينا!. فالمركز الجاذب في المقطعين لا يتمثل في الشكل التفعيلي، الذي أصبح معتادا وسائدا من قبل، ولا في هذه اللغة الشعرية العادية لفرط منطقيتها وقلقها الأسلوبي الواضح، و إنما في هذه النبرة الوثوقية العالية التي تمجد فعل وفكر البطولة رغم حدة الانكسارات التي تعانيها الذات كما يعبر عنها المقطع الثاني بوضوح ومباشرة. كذلك حرف الألف الذي سيكون موضوع تأمل عميق وتشكيل متطور في مرحلة لاحقة لن يكون في هذه المرحلة أكثر من حرف أبجدي يعين ويحدد بداية الكلمة المركزية في المقطع ومن ذات المنظور أو
الرؤية الوثوقية- البطولية أعلاه
ألف الأمر يختلف
فنحن لا نكتب فوق الماء
لكننا نخط بالدماء في مقاطع القصيدة
فالشاعر الشجاع يعترف
ويغمس الريشة في الجراح
ويصرع الرياح
والأمر يا رفاق يختلف
الأمر يا رفاق يختلف
(البشارة، ص 162- 161)
في مرحلة لاحقة تتحدد ببداية الثمانينات، سيطرأ تحول عميق على رؤية الشاعر لذاته وللغة والعالم حيث سيتجه الشاعر إلى كتابة شعرية جديدة تماما وفي المستويين الجمالي الشكلي والدلالي الفكري كما نجده في مجموعتي قلب الحب و القيامة اللتين صدرتا متزامنتين 1975 ففي " قلب الحب " يغامر الشاعر للمرة الأولى باتجاه قصيدة النثر كشكل شعري يختلف كثيرا، أو كليا ربما، عن قصيدة التفعيلة إذ يعتمد على الاختزال والتكثيف من جهة كما يعتمد علي إيقاعية داخلية تجعله يمثل انحرافا حادا عن المدونة الشعرية العربية القديمة والحديثة في مجملها
أما في " القيامة " فيظل نص التفعيلة حاضرا لكن التيمات المركزية في هذا النص الطويل الذي تتشكل منه المجموعة كلها توحي بأن قاسم حداد يقارب عالما داخليا غير العالم " الخارجي " الذي كان يتموضع فيه من قبل ذاتا ونصا. فكما أشرت إليه في دراسة سابقة تجاوز الشاعر في هاتين المجموعتين شعرية الشعار إلى شعرية الرؤية والكشف لاقانيم الذات/ العالم التي لم تكن الرؤى والخطابات السابقة لتفضي إليها. والأهم من ذلك أن مجموعة " القيامة " لا تنتمي إلى نموذج التفعيلة إلا لتخلخله بفضل سلسلة من العمليات الشكلية/ التشكيلية التي تدل على تبلور الوعي بأهمية الانحراف الشكلي من موقع آخر غير موقع الكتابة الشعرية المنثورة التي ساهم قاسم حداد في تكريسها في عموم المنطقة 15
فهذا النص التفعيلي المطول يمكن أن يتمظهر بصريا في عدة أشكال وصور يحفز كل منها سيرورة قراءة خاصة، كما يمكن الجمع بين كل الأشكال و سيرورات القراءة في مقاربة
واحدة كما سنفصل القول فيه لاحقا ويبلغ وعي الشاعر بأهمية الشكل أو المظهر البصري في تجربته الشعرية الخاصة ذروة أخرى في مجموعة " شظايا " (1983) حيث نجد أن آثار هذا الوعي مبثوثة في كل
نصوص هذه المجموعة المكتوبة هي أيضا بصيغة الشعر المنثور ففي المستوى العام يتجلى أثر هذا الوعي في اختيار عنوانات مثل هندسة الجسد 11- النص الأول، ص 7، منحوتات 11- النص الثاني، ص 8، تكوين عنوان يتكرر مرتين، ص 45- 84، وغير ذلك من العنوانات الدالة بحد ذاتها على قوة حضور الوعي أعلاه
لكن الأهم من هذا المظهر العام هو تحقق هذا الوعي بصورة مادية قابلة للمعاينة والإدراك والتحليل في جل النصوص حيث تشكل الوحدات الجملية والمقطعية وفق تقنيات تشكيلية عمادها الأساس اللعب على علاقات السواد والبياض بطريقة غير مألوفة في كتابات قاسم السابقة
فبعض النصوص تختزل في جملة أو جملتين قصيرتين تكتبان في أعلى الصفحة وتترك بقيتها بيضاء كما في النصوص بعنوان الفتح، ص 9، المسيح الثاني بعد الميلاد، ص 2 1، تاريخ، ص 29، الشاعر، ص 37
في نصوص أخرى تتمظهر اللعبة الشكلية/ التشكيلية في صيغة مختلفة حيث يتكون النص من جملة قصيرة مختزلة تكتب في أعلى الصفحة وأخرى مثلها تتموضع في نهايتها مفصولة عن الأولى ببياض يلفت الانتباه ويغري بالكثير من التأويلات، إذ انه أثر لم يترك سدى بالتأكيد، كما نجده في نماذج مثل 11 سطوه ص 12 و الشاعر 37 تكوين 45ص إغواء ص 57 ويبلغ الاختزال ذو البعد التشكيلي مداه في نصوص مكونة من كلمتين متعاقبتين عموديا أو في خط مائل وتتكرر فيهما جل الوحدات الصوتية والمعجمية كما في نص تكوين ص 45، أو من ثلاث كلمات موزعة على مجمل الصفحة في شكل مثلث كما في النص بعنوان سيرة الألف المألوف الذي يكتب هكذا بدأت وحيدا ولم أزل 46
سنعود لاحقا إلى هذه النماذج لاستكشاف أبعادها الجمالية والدلالية الأهم، ونشير إليها هنا للتأكيد مجددا على أن قاسم حداد في هذه المرحلة غيره في المرحلة السابقة. ففترة العزلة والانطواء على الذات، سواء كانت دوافعهما ذاتية داخلية تخص الشاعر أو غيريه خارجية فرضت عليه من الخارج (11)، تمثل هي ذاتها تجربة بحث وتأمل اضفت إلى مثل هذا الوعي الجديد المتطور بالذات والعالم واللغة والنص ولا معنى بالتالي للحديث عن " الانعكاس السلبي " للانكسارات الاجتماعية الوطنية والقومية على الكتابة الشعرية عنده أو عند غيره من الشعراء الجادين في بحثهم عن تلك النحوية الشعرية المحلومة والممكنة
فالأمر لا يتعلق هنا بالتنكر للمبادئ والقيم والمواقف الإنسانية السابقة ولا بعملية هروب في متاهات الرؤى الصوفية التقليدية وإنما بمحاولة جادة لتطوير أدوات الكتابة وتعميق مجالات الإبداع الشعري وتنويع أفق الإدراك والتفاعل مع كتابة شعرية لم تعد تتمركز حول الدال اللغوي وتختفي منها صورة ذلك الإنسان- الشاعر البطل أو النبي الذي يثق في دعواه وفي قدرته على تحقيقها كل الثقة
لقد تحول الشاعر من قول التغيير الخارجي إلى " فعل " التغيير في المجال الذي يخصه أكثر من سواه في الداخل وتحول النص من وسيلة تبشيرية تحريضية إلى مجال اشتغال على كل ما يمكن الذات والآخر من تكثير المعاني والدلالات بعيدا عن سلطة أي مرجعية معطاة ومحددة سلفا وتحولت الكتابة من تدوين ونقل لكلام مسبق إلى عملية رسم وتشكيل للكلمات وبالكلمات، وبالمعنيين المجازي والحقيقي الملموس المحسوس كما رأينا وسنرى. التحول الثالث في سياق هذه التجربة المتميزة يمكن تحديده بانفتاح الشاعر على الآخر المبدع باعتباره قرين الذات وامتدادها المختلف عنها المتشاكل معها في آن واحد
سيتحقق هذا الانفتاح الدال على جماعية مشروع البحث عن تلك النحوية الجديدة، في صيغ متعددة لكل منها أهميتها الخاصة من منظور هذه القراءة. ففي مجموعته الشعرية "النهر وان" سنجد ملحقا ينضاف إلى المتن الشعري ويتمثل في تلك " الرؤية التشكيلية " التي أنجزها الفنان جمال هاشم انطلاقا من قراءته الخاصة لبعض نصوص هذه المجموعة التي صدرت عام 1988 م
فالنص الشعري هنا يخضع لعمليات إعادة صوغ وتشكيل تجمع بين جماليات فن الخط الكاليغرافي والرسم التجريدي إذ تتعاضد أحيانا في العمل ذاته الوظائف الدلاليةالسيمانطيقية- للكلمة مع الوظائف الجمالية المجردة للحروف، وأحيانا تمحى الأولى لتبرز الثانية فقط مما يدل على غلبة القيمة التشكيلية للحرف على كل دلالة للكلمات مباشرة أو إيحائية
ورغم أن هذا الملحق يمكن اعتباره إنجازا جماليا مستقلا بذاته إلا أن جرد حضوره، وترقيم صفحاته كجزء من المجموعة يدل على أن لعبة التشكيل الكاليغرافي- التجريدي هذه تمثل امتدادا ما للعبة الكتابة الشعرية التي استهوت وأغوت الآخر المبدع باعتباره القرين الآخر للذات الشاعرة كما أسلفنا
هذا التوجه سيدعم في وقت لاحق بصيغة أخرى تتمثل في نص "الجواشن" الذي أنجزه قاسم وأمين صالح وحرصا على محو أي أثر يفصل بين جهد الذاتين المبدعتين مما يجعل انتماءه ملتبسا في هذا المستوى، فضلا عن أن هذا النص المشترك يمحو الحد ود بين الشعري والنثري، والجمالي والفكري كما أشرنا إليه في قراءة سابقة 12
ما يهمنا في سياق المقاربة الحالية أن عمليات موضعة وهندسة النص في كل مقاطعة، تتخذ هنا مظاهر متعددة هي أول وأقوى ما يثير انتباه القارئ- الناقد
فنسبة كبيره من مقاطعة الأولى موزعة في فضاء الصفحة بطريقة هندسية صارمة تهيمن عليها الأشكال الرباعية المختلفة المواقع والأحجام، كما تحضر أشكال هندسية- رياضية في مقاطع أخرى كالخط المستقيم الذي يأخذ شكل السهم والمربعات الصغيرة التي تستهل سلسلة من الجمل الإخبارية وتظهر بالتالي متعاقبة عموديا من أعلي الصفحة إلي أسفلها
بالإضافة إلى هذا نجد عبارات لغوية- شعرية حولت إلى أشكال هندسية ذات بعد أيقوني واضح كالخيمة والقلادة والسلم أو الدرج 3 70.62.5
كما يلعب الكاتبان على علاقات المتن بالهامش بحيث يبدو الثاني أبرز وأكثر أهمية من الأول، وعلى علامات الإحالة التي تأخذ شكل نقطة نجمية لا يقابلها شيء في نهاية الصفحة أو في نهاية المقطع. وتستمر اللعبة التشكيلية- الكتابية من خلال تكرار وحدات خطية- دلالية في بعض المقاطع بشكل لافت للانتباه كياء النداء أو التعجب ص 3 9/ 92 وضمائر الإشارة والملكية ص 15 أ-159 وغيرها من الوحدات الفعلية أو الاسمية التي تولد سلسلة من مظاهر التشاكل الشكلي والدلالي في سياق هذه الكتابة التجريبية المشتركة، الجديدة والمجددة شكلا ومضمونا، إن جاز الحديث عن مضمون هنا أصلا
أيهما كتب
أجلسني أمام الورقة
قال لي
الفتنة نائمة، أيقظها
وكنت شغوفا بالأبيض الماكر
أكاد أن أسأل
من منا سيغوي الآخر
لا ندري بالضبط ولا أهمية لدراية من هذا النوع في مثل هذا المقام لأن أثر تلك الفتنة عليهما وعلينا هو الأهم، وهو أثر ماثل في النص ممثل به وفيه أوضح تمثيل أما في " أخبار مجنون ليلى " فتتجلى لعبة الكتابة- التشكيل المشترك بين الذاتين المبدعتين في اتفاق قاسم حداد وضياء العزاوي على إعادة قراءة- وكتابة وتشكيل حكاية مجنون " كل الشعراء والعشاق ". وبما أن التمايز بين الجهدين هنا لا يحتاج إلى تحديد لأنه واضح فإن لعبة تشكيل الكتابة الشعرية الخاصة بقاسم حداد هي ما يهمنا،لا لأنها تنفصل كليا عن هاجس البحث المشترك عن تلك النحوية الإبداعية الجديدة وإنما لأنها تكشف عن جهد الشاعر الخاص في هذا السياق حيث يتجلى وعيه بأهمية الشكل في ذروته في هذا المتن الخاص. فالنص المكتوب، وكما بيناه في قراءة سابقة، يتكون من متون شعرية ومتون سردية، المتون الشعرية هي لقيس أو لقاسم، وما ينسب لقيس يعاد تشكيله في الهامش الجانبي للصفحة بحيث لا يعود بيتا أو مقطعا شعريا منتظما في إطاره التقليدي، وما هو لقاسم تفعيلي أو نثري، و التفعيلي يكتب بطرائق تنبه إلى أهمية اللا مكتوب الذي يتخايل في الفضاء الأبيض الفتان، والنثري يصاغ بلغة شعرية كثيفة الإيحاءات أو أنه يرد كمجرد خبر يخلخله الكاتب- الشاعر بإقحام مجموعة من العلامات اللغوية وغير اللغوية في مواضع منه بحيث تعمل على تفكيكه وتقويضه شكلا ونثره وتشتيته دلالة كما بيناها في مقاربة خاصة بهذا المنجز الإبداعي المشترك والخاص في آن واحد 13
فإذا كانت لعبة تشكيل الشكل في " الجواشن " موجهة بمقصديه تجريبية غير قابلة للتحديد الدقيق فإن اللعبة هنا من طبيعة مماثلة لكن وظائفها الجمالية والفكرية والإيديولوجية أكثر قابلية للتحديد. فالكتابة تنطوي على/ وتمثل احتفالية ما برموز الإبداع والحب في المدونة التراثية وفي نفس الوقت تحاول كشف وفضح نزعات العنف وآليات الاستبداد والاستبعاد الرسمي في التراث، الخطابي والمؤسسي ، باعتبارها مصدر القمع والكبت لأسمى ما في الكائن من طاقات قديما وحديثا 14 فإذا كان الشاعر ذاته قد ابتدأ مسيرته الحياتية والكتابية بالنضال جسدا وخطابا ضد امتدادات ذلك التراث في الحاضر فإنه تحول في فترات لاحقة، وتحت وطأة العنف ذاته، عن بعض الأساليب وبعض المواقف دون أن يتخلى عن الرؤية العامة والهدف العام، أي انه ظل ذلك الشاعر العاشق الباحث أبدا عن الحرية المطلقة والحب المطلق والجمال المطلق
هكذا لا يمكن للقراءة النقدية أن تتعامل مع مظاهر تعددية الشكل في هذه التجربة الثرية والمتجددة باستمرار بمعزل عن مركزية هذا البحث لأن الكتابة الإبداعية عند قاسم تجربة جمالية- وجودية أساسية. إنها مجال حضور الكائن المحدد في الزمن والمكان المحدودين ودليل نزوعه الدائم إلى المطلق حيث تتداخل معاني الحضور والغياب، وقد تمحي ليبقى " الأثر " الذي هو البدء والخاتمة، تلك الفتنة الدائمة التي يوقظها كل مبدع خلاق بطريقته الخاصة خصوصية ذاته وأثره. من هنا لا غرابة أن يتجه قاسم في نهاية المرحلة الثالثة من تجربته الإبداعية- الانطولوجية إلى أفق كتابة تستعيد وتختزل وتستكشف وتستشرف مجمل حياة الكائن الدنيوية والأخروية وما بينهما من مسافة أو برزخ كما نجده في فهرس المكابدات " و " قبر قاسم " و " جنة الأخطاء " 15 ولا غرابة أن نجد في هذا الإنجاز مظاهر تعددية شكلية لا تضيف جديدا إلي ما رأيناه في المراحل السابقة بقدر ما تستعيدها لتختزلها وتكثفها كما سنبينه في الفقرة التالية من المقاربة
|