صحافة

بحث في تعددية الشكل في الكتابة الشعرية الحديثة

مداخـل

  1. نحاول في هذه المقاربة تنمية وتعميق بعض الملاحظات والقضايا التي سبق وأن طرحت، وبلور بعضها بشكل أولي، في سياق قراءات سابقة لنماذج من التجارب الشعرية الحديثة في منطقة الخليج
  2. وإذا كنا قد اخترنا التركيز هنا، وفي بعض تلك القراءات، على تجربة قاسم حداد فذلك لسببين الأول أن هذه التجربة تنطوي على تنوع وثراء لافت للنظر في المستويين الكمي والنوعي؛ إذ أنجز الشاعر منذ السبعينات إلى اليوم أكثر من عشر مجموعات شعرية، فضلا عن كتابات نقدية وفكرية واجتماعية عززت من الحضور المتميز لكائن- كاتب يبدو أن الكتابة تشكل محور الارتكاز في حياته ووجوده كما أشرنا إليه من قبل أما السبب الثاني فإن هذه التجربة، ورغم تميزها، لم يكرس لها بعد ما تستحقه من الدراسات النقدية المعمقة التي تحاور فيها سمات تفردها وخصوصيتها في المستويات الشكلية والإيقاعية والدلالية وتكشف عن مظاهر ديناميتها وانفتاحها على أفاق شعرية وفكرية بشكل خلاق هو ما أهلها لكسر كل توقع وتجاوز كل موقع وهي تغامر وتبحث وتستكشف باستمرار خلال ثلاثة عقود تقريبا
    وكما يشير إليه العنوان أعلاه لن نستطيع في مقام كهذا تجاوز البحث في جزئية أو مظهر من مظاهر تميز وتطور هذه التجربة وذلك في مستوى ما سميناه في قراءة سابقة ب " لعبة تشكيل الشكل " أكثر من ذلك لابد أن نوضح منذ البدايات أننا لن نستطيع التعمق في تحليل كل السمات والآثار المتعلقة بهذا المستوى من القراءة فالمقام لن يسمح بأكثر من تحديد وتحليل أبرز مظاهر تعددية وتنوع الشكل والحوار مع ما نعتقد أنه يمثل ويولد أهم أبعادها الجمالية والدلالية من موقعي الإنجاز والتلقي
    1-2- 3 إذا كانت هذه التجربة المتميزة بأكثر من معنى لم تلق ما تستحقه من اهتمام النقاد، في المنطقة وخارجها، فإن دراسة المظهر البصري- التشكيلي فيها وفي الكتابات الشعرية العربية الحديثة، تكاد تكون مهملة تماما في سياقنا النقدي العربي الحديث هذا مع العلم بأن بصرية النص- Visibilite du texte - هي أول وأهم مظاهر مقروئيته لا لمجرد أن الانطباعات البصرية أقوى وأبقى في ذاكرة المتلقي أو لأن الإدراك الإنساني عموما يتجه أولا إلى الكليات لا إلى الجزئيات، كما تؤكده النظرية الجشتالطية
  3. وإنما أيضا، وهو الأهم هنا، لأن وراء هذا المظهر مقصديات يمكن إجتلاؤها في آثارها الماثلة في النص " كما هو عليه " وبالتالي فإن بحثها قد يفضي إلى قضايا جمالية وفكرية تمس جوهر الإبداع الشعري، والفني، الحديث عموما كما نأمل بيانه لاحقا فبإلقاء نظرة إرجاعية على مجمل الحركة الشعرية الحديثة يمكن التأكيد أنها تتجه باستمرار، وخاصة منذ مالارميه وبودلير، من الغنائية- الإنشادية- السمعية إلى التشكيلية- القرائية- البصرية وكأنها تبحث عن/ في " نحوية شعرية جديدة " تتغير معها وفيها معاني الكتابة والقراءة التقليدية لا أعني هنا مجرد تلك النزعة للتفاعل مع تفاصيل الحياة اليومية في مدن حديثة يبدو أن بينها وبين الشعراء علاقة رفض متبادل
  4. وإنما التوجه إلى المشاهد والمشهدي في وضعيات تهيمن فيها تقنيات الاتصال والتواصل التي تولد من " الصور " والمشاهد الواقعية والمتخيلة ما يفتت ويعيد تشكيل المخيال الجماعي باستمرار
  5. فالكتابة هنا لم تعد مجرد عملية تحويل للمنطوق الشفهي إلى مكتوب بصري ولم تعد وظيفتها تدوين وحفظ المكتوب لنقله بأمانة إلى المتلقي المفترض لأنها أصبحت تنطوي بالضرورة على معان ووظائف تشمل كل عمليات استنفار الشاعر/ الكاتب للطاقة التشكيلية الكامنة في الحروف والكلمات والعبارات وهنا فإن العلامات والدوال غير اللغوية، كعلامات الوصل والفصل والتوزيع في مساحات البياض فضلا عن الأرقام والأشكال الهندسية المجردة أو المشخصةأصبحت موضوع أو مجال لعبة الكتابة مثلها مثل الدال اللغوي
    فحينما يكتب سعدي يوسف في نهاية الخمسينات هكذا
    أصدقائي
    إنما آه لأقمار الطفولة
    عندما تنهمر العتمة في بيتي ويأتي المطر
    وتهز الريح شباكي، أراه
    وفي مقطع آخر
    كان يبكي في دموع الأغنية
    أريد اشرد
    من البصرة ولا عود
    وأنا في خطوة المحكوم بالموت
    في ظلامي ... في ظلام لا يسير
    وأغني و أغني وأغني ..... والخ
  6. أو قاسم حداد في الثمانينات نماذجه الواردة في " شظايا " وتلك التي سنراها لاحقا نتيقن أننا أمام لعبة كتابه شعرية تحول فضاء الصفحة إلى فضاء لغوي تشكيلي يخضع لعمليات إبداعية معقدة، جديدة، ومثيرة للغرابة والدهشة ينتج عنها هذا الأثر الشعري الذي أكثر ما يلفت ويستقطب انتباهنا فيه مظهره البصري الذي يغير حتى مفهوم " الصفحة " في أذهاننا هكذا، ومن موقع التلقي والتداول، لابد للقراءة أن يصيبها تحول- تحويل عميق بحيث لا تعود عملية " كنس للكلمات " كما يقول عبد السلام بنعبدالعالي
  7. بل فعالية سيميائية يقظة جديدة ومتطورة تقرأ الكلام والنقاط والبياضات لأنها أمام نص صوري مترع بعلامات لم تعودنا القراءات التقليدية على " رؤيتها " وتفكيكها وتفهمها كشفرات نصيه لها مثلما، وربما أكثر مما للعلامة اللغوية من قيمة وأهمية جماليا ودلاليا فوظيفة القراءة هنا لا يمكن أن تقتصر على تخيل أو إدراك المعنى القريب أو البعيد للكلمات والعبارات بل مباشرة نوع من أنواع المشاركة في تكثير ونثر وتشتيت المعاني والدلالات في مثل هذا الفضاء النصي المترع بالفراغات الدالة والقابلة للعني والتدليل والتي ما تركها الشاعر شاغرة إلا لتحفيزنا على إيقاظ فتنتنا الخاصة فيها وبها بعيدا عن ذاكرة الكلمات كما تؤسسها سلطات الماضي فالصفحة لم تعد، بالنسبة لنا كما بالنسبة للكاتب والشاعر، مجرد مسند محايد للكتابة أو مجرد خلفية فارغة للمكتوب بل أصبحت هي ذاتها " صفحة شعرية " مترعة بآثار مغامرة جمالية- فكرية متطورة يبدأها الشاعر الخلاق ويتممها القارئ اليقظ والممتلك لأدوات معرفية لا تتوفر في المرجعيات التقليدية المدرسية القديم منها والحديث
  8. وباختصار فإن القراءة النقدية التي لا تتنبه إلى الأهمية القصوى للشكل في مثل هذه الكتابة الشعرية الجديدة لابد وأن تنطوي على مفارقة مزدوجة، أو مضعفة، تحد من قيمتها وفعاليتها فهي ستكون غير ملائمة للنص الشعري المقروء من جهة وستكون بالضرورة مباينة- بمعنى التراجع والتخلف، للقراءات النقدية الحديثة التي يفترض أن تفيد من اللسانيات مثلما تفيد من البلاغة الجديدة والسيميائيات وفلسفات الإدراك، لظاهراتية والوضعية، وعلوم الخطاب ومن فلسفة الكتابة بمعناها الشامل لكل أثر، أي كما تطرحها التفكيكية بشكل خاص

بناء عليه سنحاول في الفقرات التالية من هذه المقاربة أن تقرأ ونتفهم هذا المظهر أو البعد اللامرئي أو المهمل من كتابة شعرية نعتقد أن أميز مائزاتها ربما تتمثل في قدرتها الكبيرة على خلخلة مفاهيم الكتابة والقراءة والمعنى والنص وربما الشعر ذاته فإذا كان قاسم حداد مسكونا، كغيره من شعراء التجربة والتجريب، بهاجس البحث عن نحويته الشعرية الخاصة في سياق الكتابة الشعرية الحديثة فلا أقل من أن تغامر القراءة النقدية بتتبع آثار ذلك البحث الجمالي في النصوص والكتابات التي تعبر عنه بقدر ما تمثله في أكثر من مستوى ومن أكثر من منظور كما سنلاحظ

السيرة الذاتية
الأعمال الأدبية
عن الشاعر والتجربة
سيرة النص
مالم ينشر في كتاب
لقاءات
الشاعر بصوته
فعاليات
لغات آخرى