له حصة في الولع
نثر مائل وشعر وشيك

مؤسسة الانتشار العربي
لوحة الغلاف : عبا يوسف - البحرين

 

1 - أنشودة الأسود الضاحكة

مساءلة العولمة

غالباً ما ينتابني القلق إزاء المصطلحات التي يجري تداولها في حقول الخطاب العربي. خصوصاً حين تؤخذ هذه المصطلحات، بوصفها تفصيلاً من سياق حضاري آخر، مفصولة عن ذلك السياق، بحيث تبدو، ضمن تداولنا، كما لو أنها حقيقة ناجزة واضحة المعالم مكتملة الحضور في الثقافة العربية. وهذا ما جعلني، طوال الوقت، حذراً مع مصطلح مثل (الحداثة)، الذي يجري تداوله في الحقول الأدبية والفكرية منذ سنوات، بالرغم من اتصاله المباشر بالحقل الذي أشتغل به أدبياً، ليس رفضاً جوهرياً لطبيعته الحضارية، ولكن تفادياً للزعم بإدراكي الواضح له، في سياق العربي خصوصاً، وهو سياقٌ يصدر عن مجتمع هو النقيض الجوهري (في بنيته المهيمنة) لكل ما يتصل بالحداثة حسب المعنى الغربي كممارسة وطريقة تفكير وحياة.. إذن، فإنني أقف موقف الشك في طريقة الاستعمال الإتباعي التي يجري بها تداولنا لمثل هذه المصطلحات.

من هنا أرى إلى مصطلح (العولمة) نظرة مترددة وغير واثقة بكونه متصلاً بطبيعة التجربة الاجتماعية للأسرة العربية، التي يجري الحديث عنها في هذه المناسبة. وربما شعرت (بقدر لا بأس به من الشك) بأن القفز بالأسرة العربية وقضاياها نحو مفهوم (العولمة) هو ضرب من القفز على القضايا الحيوية التي لا تزال الأسرة العربية تعاني منها، دون أن تجد لها حلولاً حضارية تليق بكونها عناصر إنسانية تستحق التمتع بالحقوق المسكوت عنها في الواقع العربي، حقوق يجري تفادي التعرض لها بالجرأة والصراحة والحرية التي تحقق إنسانيتها. فليس من المعقول أن نتوقع من الأسرة العربية أن تتصل بمفهوم (العولمة) الاقتصادية خصوصاً، وهي لم تزل ضحية حرمان صريح من مناقشة هذه الحقوق التي تتصل بواقعها الاقتصادي في المحيط العربي. وإلا فكيف يمكننا النظر إلى الشأن الاقتصادي بمعزل عن الشأن الاجتماعي.

وهذا ما يدفعني لطرح الأسئلة (بإيمان ضعيف)، مع الذين اقترحوا مثل هذا العنوان موضوعاً للاحتفال باليوم العربي للأسرة العربية. فهل نالت الأسرة العربية حقوقاً (حضارية) تضعها في مجابهة حالة (العولمة) الاقتصادية ؟ أليست (العولمة الاقتصادية) هي مفهوم يصدر عن الاستجابة الرسمية لمنظورات النظام العالمي (الجديد)، الذي يقترح علينا في السنوات الأخيرة منظومات اقتصادية تكرس تبعية التنمية العربية للآفاق الغامضة التي تخدم مشروع (غربنة) العالم، ومن بين هذه المنظومات (اتفاقية الجات) التي تجعل المجتمع العربي في ذيل العربة الرأسمالية، بدون التمتع بالمكتسبات الجوهرية التي نالها المجتمع الغربي (حضارياً) ؟ مع الملاحظة بأن الغرب (على الصعيد الحضاري) ليس غرباً واحداً. بمعنى أن الموقف النقدي من حضارة الآخر يتوجب أن تضعنا في مواجهة التعدد (الغائب في الواقع العربي) الذي يجعل من الغرب درجات مختلفة تتطلب النظر إليه بوصفه مشهداً لا يُـقبل كله ولا يُـرفض جميعه. فكيف نرى الأسرة العربية في ضوء هذا المشهد الحضاري الشاسع ؟

بالطبع هذا ليس سؤالاً بريئاً. ولكنني بالفعل لا أشعر بأن الأسرة العربية في حالة تجعلها تتعامل مع (العولمة) بوصفها شرطاً اقتصاديا، مادامت الشروط الذاتية والموضوعية مصادرة في المشهد العربي. ولكي لا تتحول مثل هذه المناسبات أسلوباً لترويج الخطابات الفضفاضة، وبالتالي تكرّيس التغييب العنيف لمتطلباتنا الإنسانية الأولية، عن طريق القفز بنا إلى مصطلحات عمومية، توحي بتحضّرها، في حين إنها تعمل (بوعي أو بغير وعي) على تفادي مواجهة القضايا الجوهرية لحياتنا العربية. ألا تحتاج الأسرة العربية إلى أشياء كثيرة قبل الكلام عن (العولمة) ؟ أقول، لكي لا نبالغ في التورط بهذا المأزق، أقترح أن لا نقبل مثل هذه المقترحات (العربية والعالمية) دون التريث لمعرفة ما إذا كنا مؤهلين حقاً للتصدي لأبعد قضايا الكون، قبل أن نجرؤ على التصدي لأبسط الحقوق الإنسانية التي تعاني من غيابها الأسرة العربية، بوصفها الخلية الأولى للمجتمع العربي.

ثمة ما يدعو إلى التأمل في الأمر. فلكأن هناك من يريد منا الخضوع لمشروع غربنة العالم، بعد أن كان الغرب يحتلنا ويستثمرنا عسكرياً ومادياً. والغربنة (ضمن خطاب النظام الغربي) تعني جعل العالم تابعاً لآلة الإنتاج الاستهلاكي(بشتى تجلياته). دون الاكتراث لحاجتنا للشروط الأولية التي تجعلنا قادرين على معالجة واقعنا بالآلية الحديثة القائمة على حريات النظر والعمل والحياة والإنتاج. فحين يقال (عولمة) يتوجب أن تتوفر لدينا إرادة تحقيق هذه (العولمة) بروافع وشروط إنتاجية وتنموية (فكراً وحياة) تصدر عن وعي وممارسة حديثين بالمعنى الحضاري للكلمة. لئلا نصاب بصدمة تؤكد لنا بأن الأسرة العربية هي، في نهاية التحليل، ضحية مسبقة لهذه (العولمة).

ليس في الوارد تصديق إمكانية اتصالنا بالحداثة وكافة تجلياتها (بما فيها العولمة) ونحن نعيش تحت وطأة أكثر الأنظمة الاجتماعية والسياسية تخلفاً ورفضاً للحداثة. فكيف يمكن تحقيق (عولمة) أسرة في مجتمع متخلف، وربطها بمنظومة تفارقها (حضارياً) بمسافات شاسعة من آلية الإنتاج، حيث ارتباط التنمية بدمقرطة المجتمع وحريات مؤسساته، واتصالها حياتياً بنشوء التقنية وممارساتها اليومية. كيف يمكن أن نفهم (العولمة) مفصولة عن كل تلك الشروط، إلا إذا كنا مستعدين للخضوع للأوهام ذاتها، التي تريدنا (حكومات الشركات العابرة للقارات) أن نصدقها كبوابات مفتوحة مثل أشداق الوحش، نذهب إليها، مستخدمين مصطلحات لا علاقة لها بواقع حياتنا، لتتحول (هذه المصطلحات) مادة غامضة للاستخدام الإعلامي، نستهلكها لكي نشعر بأننا (مثل الآخرين)، غير أنهم يستخدمونها باعتبارها عنصراً بنيوياً لحرياتهم، في حين نستخدمها (وبالأصح تستخدمنا) كعبيد. . أليس من الأجدى، قبل كل شيء، أن نضع هذه المصطلحات التي نتداولها أمام سؤال حياتنا اليومي، ونحاول معرفة مدى اتصال الأسرة العربية، بالمعنى الحياتي والعملي بـ (العولمة). فبدون هذا الاختبار، سوف نصادف فجوة هائلة بيننا وبين الواقع، كأننا نستخدم خطاباً لواقع آخر متوهمين بأننا نعالج قضايانا، في حين أننا نستجيب لشروط خضوعنا لمنظومات لا ترى فينا غير مادة خام قابلة للاستثمار. فالذهاب الكاسح نحو اقتصاديات السوق الرأسمالي (بمعزل عن الحريات) بات يشكل تهديداً ماثلاً لبنية الأسرة العربية، حيث منظورات مثل (الخصخصة) تصبح تشريعاً يبرر تخلي المؤسسات الحكومية عن مهماتها الاجتماعية، تاركة الاحتياجات الحيوية (التي كانت من مهماتها التقليدية) في مهب التنافس الاقتصادي الحر، تتعامل (لئلا نقول تتلاعب) بها المؤسسات الاقتصادية كمشروعات رأسمالية وليست كمهمات اجتماعية تتطلبها التنمية الحضارية. الأمر الذي يجعل الأسرة العربية معرضة لفقد مكتساباتها التقليدية، فحقول مثل التعليم والتربية والصحة والثقافة والضمانات الأخرى، أضحت مشاريع تجارية خالصة ينزع القائمون على (خصخصتها) نحو تحويلها إلى ضرب من الاستهلاك، يتحكم بها القطاع الخاص، لتتضاءل نوعية هذه الخدمات في القطاع العام، ويجري التقنين النوعي للخدمات ذاتها في المشروع الخاص، فتتحول هذه الخدمات من حاجات ضرورية متاحة للجميع إلى مظهر استهلاكي عرضة للمزايدات التجارية. وبالتالي لا تناله إلا شرائح اجتماعية محددة، لا نستطيع الجزم بأن الأسرة العربية، في مجتمع فقير في معظمه، قادرة على التمتع به. وبطبيعة الحال فإن هذه (الخصخصة) سوف تقوم على منظومة إعلامية (تمتلك هي الأخرى آلة هائلة) تروّج وتكرس ذهنية استهلاكية تفرغ المشاريع التنموية من جوهرها الإنساني، لتصبح مظهراً اجتماعيا يرتبط بالتجيهل الثقافي في المجتمع وهو يفقد مقوماته. من هنا سوف تتعرض الأسرة العربية دائماً لفقد دورها كوحدة اجتماعية، تحت وطأة المنظورات الاقتصادية التي تتعامل مع أشياء الحياة بوصفها تجارة تقوم على الربح والخسارة المادية، مستجيبة لتطورات الوضع العالمي. وشيئاً فشيئاً سوف يغيب عنا البعد الإنساني، حيث كل عناصر حياتنا تتحول إلى مشاريع اقتصادية. والذي يضاعف خطورة هذا الوضع أننا نلاحظ إلى أي حد يجري الكلام دوماً عن الحريات الاقتصادية، في حين تحاصَر نزوعاتنا للكلام عن الحريات الأخرى بمحاذير مركبة تبررها أطروحات الأمن الاقتصادي، دون الاعتبار للأخطار التي تحدق بشروط الأمن الاجتماعي الذي سوف تفقده الأسرة العربية دفعة واحدة، لنتأكد أننا نعود بالفعل إلى مجتمع الرقيق تحت مظلة عريضة من الخطاب العالمي عن اقتصاد لا إنساني.

ثمة مشروع ثقافي غربي، يمتلك شروطه الكونية، تقصر عن مجاراة أساليبه ثقافتنا السائدة، لكونها ثقافة إعلام وحيدة النظر، مفصولة عن جوهرها الإبداعي الحر للبشر في هذه المنطقة من العالم. الأمر الذي يتيح المجال لحالة من الامتثال والاستقبال السلبي، يجبر الإنسان العربي للغياب والنفي المضاعف عن الدور الفعال الذي يتوق إليه. لنرى كيف يحقق المشروع الثقافي الغربي (بعنصره الاستغلالي) غربنته لحياتنا بخطاب عنيف، زاخر بالمصطلحات التي نتلقاها كأيقونات مقدسة نحاول تزيين مظاهرنا بها، مغفلين شروطها الحضارية المفقودة في يومياتنا البائسة. ومن جهة أخرى، سوف تتخذ المنظومات العربية الرسمية من هذا المشروع الثقافي الغربي، خطاباً بديلاً لمشروع ثقافي عربي (مغيب / مصادر)، عاجز، يؤدي إلى تبعية المواطن العربي (أسرة ومجتمعاً) للنظام العالمي (الجديد). وتظل تلك المصطلحات (البريئة للوهلة الأولى) زينةً، من شأنها أن تشبع شهوة الاستهلاك الثقافي في مجتمع موغل في التخلف والعسف. لا يسمح له بإنتاج حياته، ويُدفع به لاستهلاك كل شيء، مجانياً، وبقشور كثيفة من الكلام. من هذه الشرفة، كيف لي أن أتفادى النظر إلى الأسرة العربية، بوصفها الخلية الهشة، المحرومة من أبسط شروط الحياة الكريمة والحرة والآمنة، وبالتالي المنتجة في تنمية تتصل بحياتها الكونية. وكيف يمكنني أن أصدق بأن (العولمة الاقتصادية) يمكن أن تعني، لمثل هذه الأسرة، مصطلحاً يتصل (عمقيا) بحياتها. وكيف يتسنى (خصوصاً) للأسرة العربية إدراك وممارسة دورها في العالم، قبل أن تنال حريتها في ممارسة دورها الحضاري في بلادها، مجتمعها، حياتها، بيتها ؟ إنني أشعر حقاً أن الكلام عن (العولمة) في مثل واقعنا، هو ضرب من السخرية الكونية، لا تليق بنا، ولا ينبغي الخضوع لمعطياتها دون الموقف النقدي الجوهري للملابسات العربية والعالمية التي باتت تروّج المصطلحات الغامضة لتغييب حاجتنا لحرية البحث في قضايانا الأولية. فالإنسان المحروم من حريات البحث والعمل والإنتاج، لا يستطيع أن يكون متصلاً بالعالم الحديث، إلا بوصفه عبداً.

 
 
السيرة الذاتية
الأعمال الأدبية
عن الشاعر والتجربة
سيرة النص
مالم ينشر في كتاب
لقاءات
الشاعر بصوته
فعاليات
لغات آخرى