له حصة في الولع
نثر مائل وشعر وشيك

مؤسسة الانتشار العربي
لوحة الغلاف : عبا يوسف - البحرين

 

1 - أنشودة الأسود الضاحكة

قراءة التاريخ الثقافي
في ضوء الظلام الجديد

يفترض أنها محض مصادفة.

في البحرين يستحضرون (احتفاء به) سيرة عبدالله الزايد، الصحافي الشاعر، الذي أسس للصحافة الحديثة، أوائل هذا القرن، بوصفه واحدا من عناصر التنوير الاجتماعي و الثقافي في البحرين. ومؤسسة البابطين تكرس دورتها الخامسة، في أبوظبي، لدراسة تجربة أحمد مشاري العدواني ( احتفاء) بوصفه داعية التنوير الاجتماعي و الثقافي في الكويت، في منتصف هذا القرن، حتى وفاته بداية التسعينات. احتفالان يحدثان في مسافة شهر واحد في بلدين متجاورين من منطقة الخليج، ويفترض أن ذلك لم يكن سوي صدفة محضة. ترى هل يتوجب علينا أن نعتبر ذلك مصادفة لا تخلو من دلالة؟

لماذا كان هاجس التنوير حاضرا، بكل هذا الوضوح والالحاح في الاحتفالين، في مكانين مختلفين ؟ حسنا، ربما كانت تلك صدفة محضة حقا، (وهي كذلك في الواقع) ولكننا نستطيع اعتبار هذه المصادفة نموذجا فذا وصريحا للمصادفات الموضوعية التي تفرضها طبيعة اللحظة التاريخية التي يجتازها (بمخاضات حمل كاذب) المجتمع العربي عموما في الهزيع الأخير من القرن العشرين، وهو يعيش المجابهات (المتفاوتة العنف) مع الاندفاعات الظلامية التي تصدر عن شرط الماضي (بقوانينه وقيمه وفتاويه)، وهو يأخذ حياتنا العربية متقهقرا بها نحو الماضي السحيق، ناظرا إلى ذلك الماضي بوصفه البديل اللازم للحضارة (الفاسدة / العدوة في المطلق)، مصادرا ما تحقق من المكتسبات الحضارية وخطوات التقدم الاجتماعي، التي استدعت الكثير من النضالات والتضحيات بذلتها وخاضتها الحركة الاجتماعية (وطنيا وقوميا) طوال مائة السنة الأخيرة، منذ التململ الإصلاحي المبكر حتى التفجرات البالغة العنف الذي لا نزال ضحية لانهيار مكوناته الأولى.

ربما كان من شأن هاجس للتنوير الذي انحازت إليه الاحتفاءات بعبدالله الزايد وأحمد العدواني، كنماذج لمثيلات لها في مناطق عربية أخرى، أن يسفر للمتأمل عن صورة مشوشة مضطربة لما يعتور مجابهاتنا من قصور وعجز ذاتيين، وفقر واضح في الأدوات. الأمر الذي يجعلنا نلجأ (لا شعوريا) لاستحضار تجارب قديمة نحارب بها في معركة ( هي معركتنا نحن) لا نجد بين أيدينا من الوسائل ما يسعفنا سوى أمواتنا، نحارب بهم، في هذه المعارك، الأموات الذين يتماثلون أمامنا، في اندفاعات الظلام الجديد، منقضين على حياتنا بهدف نقضها و مصادرة روح الحضارة و الحداثة فيها.

ثمة حلقة تحاصر أحلامنا ورؤانا، تضيق و تستضيق على حياتنا وتضع مستقبلنا في المحنة. فمن جهة، دعاة الظلامية تطبق هجوماتها على مكتسبات حياتنا و أحلام مستقبلنا، في اللحظات الحرجة من الانحسارات التي انتابت روحنا النضالية ومكونات رؤيتنا التقدمية، وجعلتنا ضحية الهزائم الشاملة نتخبط في براثنها، زاعمة (هذه الاندفاعات الظلامية) أنها الوريثة (وحدها) لقيادة المبادرات في حياتنا العربية. ومن جهة أخرى، يحكم علينا النظام العربي المتفاقم ( بشتى تجلياته)، بما لا يقاس من المصادرات لأبسط الحريات، وتجريدنا ( كأننا كنا نتمتع بشيء.. ) من الحقوق الإنسانية الأولية (والبديهية في مناطق كثيرة من العالم)، ضاغطا على أعضاء التفكير و الخيال و الفعل في طبيعتنا البشرية. وهو أمر غاية في التركيب و التعقيد ( لا يستحيل معالجته) يجعل هذه الحلقة بمثابة المتاهة الجهنمية التي تدفعنا إلى يأس يتضاعف كلما تعاظمت علينا اندفاعات الظلام الجديد، واحتشدت ضدنا مبتكراتها الفجة، مقتحمة أصغر تفاصيل حياتنا، لنبدو مثل كائنات تفقد طبيعتها في معركة غير متكافئة، مع أعداء يحسنون تزيين جهنم لنا كما لو أنها الفردوس.

ليس في استحضار تاريخنا الثقافي ما يستدعي القلق، إذا نظرنا إليه باعتباره تجربة تستحق التأمل النشط لمكونات ثقافتنا الراهنة. فقراءة تاريخنا حق يتوجب إشاعة مشروعيته وتكريسه كتقليد يؤسس لقراءة تاريخنا الحديث برمته في عموم هذه المنطقة، ففي ذلك فوائد جمة، من بين أهمها أن (يتدرب) الجميع على القراءات الجادة و الحرة والنقدية لهذا التاريخ، بعيدا عن الحساسيات السلبية التي لا تزال تحول دون اتصالنا بهذا التاريخ (وهو لا يزال ماثلا يتراوح بين الحلم والكابوس)، وهو تاريخ لا يملك أحد أن يمنع تحليله و إعادة تحليله واستيضاح دروسه ونقدها. لكننا في الوقت نفسه لابد أن نرى إلى دلالات (غائبة) لبعض تلك الاستحضارات والاستعارات التي لم تزل في شكل الاحتفاءات المهرجانية لصقل الحاضر أكثر من كشفه ونقده واستجوابه. نقول، لابد من طرح الأسئلة على مثل هذه الاستحضارات، لئلا نجد أنفسنا في الموقف الذي لا يستحقه جيلنا ولا تستجيب له الأجيال اللاحقة بنا، وهو موقف التبجيل العاطفي لتلك الاستعارات، كما لو أنها النموذج، وبالتالي الشرط و القانون أو القيم ومن ثم الحدود، التي يراد لنا أن نضعها ميزانا لحياتنا الراهنة والمستقبلة. ففي مثل هذا الموقف استجابة رديئة لشروط المعارك المفروضة علينا من أصحاب الظلام الجديد. لأننا سنكون كمن يتخذ الخصم قدوة له ومثالا، ويلجأ إلى استخدام الوسائل و الأدوات ذاتها التي يحاربنا بها الآخرون.، فيصبح الماضي (الماضي بصورته الكاملة / المكتملة / المنتهية) هو مثالنا الذي نذهب إليه، في حين يتوجب أن نذهب عنه. و بالتالي فإننا نتساوى (ماضويا) مع غيرنا، فيما نزعم أننا غير غيرنا. ترى هل يمكن أن نتميز، بالنظرة النقدية الجريئة، ونحن نقرأ تاريخنا الثقافي، ونستحضره بوصفه تجربة تقبل النقد ونقده، ليس أكثر ولا اقل ؟

بقي أن نقول أيضا أن في مثل تلك الاستحضارات محذور أن يمارس البعض (بحسن النية وسوئها) تغييبا متعسفا لمعطيات واقعنا الراهن وطاقاته الماثلة، هذه الطاقات المكتنزة بانجازات وتجارب ورؤى، لا تقل أهمية حضارية، إن لم تفق قراءتها في ذلك التاريخ المستعاد. وهو تغييب تستهدفه أجهزة النظام العربي التي ستظل ترى في التجارب والطاقات الجديدة عدوا ينبغي تفاديه بوضع الماضي في طريق أحلامه. وإذا لم نلتفت لهذا الضرب من تغييب رؤانا للمشكلات الراهنة، فسوف تكون تربة هذا الواقع أكثر خصوبة لاندفاعات الظلام الجديد لتخريب البقية الباقية من أحلامنا.

دون أن يخالج أحدا منا ظن أن في ذلك ضرب من المصادفات المحضة.

 
 
السيرة الذاتية
الأعمال الأدبية
عن الشاعر والتجربة
سيرة النص
مالم ينشر في كتاب
لقاءات
الشاعر بصوته
فعاليات
لغات آخرى