الثقافة بين عجلة الإدارة
وفضاء الحرية
أحب أن أصدق بأن ثمة نتيجة مرجوة من وراء الاجتماع الوشيك، لمسئولي
الثقافة في دول مجلس التعاون العربية، الذي سيعقد بالكويت هذه الأيام.
بالطبع لست متشائما في هذا الموقف، ولكنني يائس إلى الحد الذي لم أعد
أعثر فيه على سبب واحد يجعل مثل هذه الاجتماعات يمكن أن تحقق شيئا
يمس الواقع الثقافي في هذه المنطقة من العالم. وليس بين التشاؤم واليأس
سوى فرق (عميق) في الدرجة، فالمتشائم يصدر من معرفته بتجارب الواقع
الراهن المعاش، أما اليائس فانه يصدر عن شعور فضيع بالخسارة الفادحة
لكون فرص المستقبل المتاحة أمامنا، منذ أكثر من خمسين عاما، لا تزال
ضائعة بامتياز ودون أن يخالجنا شعور بالأسى لما يحدث. وثمة من يقترح
علينا تصديق الأكاذيب مثل حقائق لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا
من خلفها. نصغي، نتبادل أدوار الفريسة. منحتنا التجربة قناديل منطفئة
تضاعف في تعتيم الطريق أمام أولادنا. لست مولعا بتصديق الأوهام. لقد
وقعت ضحية أحلام أكثر جمالا مما يحدث هذه الأيام، ونالني من ويل الأمل
ما يكفي مدينة كاملة اليأس. لذلك أرفق بالذين يتجرعون معطيات المشاريع
التي لا تنتهي في هذا الحقل من النشاط الإنساني. ولا يجوز لنا أن نصدق
كل ما يقال إذا لم نعثر على سبب واحد يحرمنا من يأس ناضج.
أخشى أننا نواجه إشكالية مستفحلة عندما يتعلق الأمر بالوضع الثقافي
في هذه المنطقة. أشعر دائما أننا لا نحسن طرح الأسئلة بشكل سليم، مما
يؤدي بنا إلى تلقي الأجوبة المصاغة لأسئلة لا تمت لموضوعنا بصلة. طوال
التجارب السابقة كنت ميالا إلى تفادي الوقوع ضحية الأوهام الشائعة،
مثل تقديم مطالب الدعم والتشجيع من الجهات المعنية بالثقافة، تجنبا
لحقيقة أزلية يصدر عنها القائمون الرسميون على هذا الشأن، وهي حقيقة
ذات وجهين، يتناوب أصحاب الشأن على طرحها بصوت مشروخ لا يخلو من المزاعم
: الوجه الأول:احتجاجهم الرشيق (مثل فيل أعرج) بالميزانية (التي ستبدأ
في النضوب كلما تعلق الأمر بالثقافة). الوجه الثاني : إذا صدف وتكرموا
بتقديم الدعم، فانه سوف يكون مشفوعا بقائمة من الشروط الخرافية التي
تجعل من الثقافة شحاذا يتوجب عليه أن يؤدي (نوم العازب) و (عجين الفلاحة)،
وبعد ذلك كله ينبغي أن يعتبر ذلك جميلا مشروطا بالخضوع لمنظور الجهات
الرسمية لمعنى الثقافة. كلامي لا يزال عن الخليج كله. ولكن هذا ليس
كل شيء.
كأن السؤال بحاجة دائما لأن يطرح بشكل آخر. فالمشكل المالي ليس هو
جوهر الأمر في مثل حالتنا (كما يزعم الزاعمون). الخلل يكمن في التالي
: لماذا يصر القائمون الرسميون في الشأن الثقافي على الخلط الفادح
بين الاعلام والثقافة؟ لماذا لا يريدون تصديق أن ثمة فرقا جوهريا (وبنيويا)
بين الثقافي (الذي لا يتوقف عن النقد والحرية والانعتاق والحلم) وبين
الإعلامي (الموظف الفظ / الإداري الفج / المتحذلق الفذ/ العمل المرتبط
بالسياسة والإدارة التابعتين لغيرهما دائما) ؟ أطرح هذه الأسئلة لمعرفتي
بأن المتصلين بالشأن الثقافي (المبدعين منهم خصوصا) لم يعد لديهم مطالب
يجرون بها وراء الجهات الرسمية، خصوصا بعد تاريخ طويل من التجارب التي
تثبت بأن أحدا في الضفة الرسمية لا يريد أن يكترث بما يحاول المثقفون
والمبدعون التعبير عنه بالشكل الحضاري اللائق ببشر يرتجفون بردا ووحشة
على حافة القرن الواحد والعشرين. مبدعون ليسوا أبواقا ولا تغريهم بهارج
المهرجانات ويصيبهم (الكلام) الرائج بالتخمة ولديهم من الوعي ما يسعفهم
لمعرفة الفرق بين الدعاية والفن. لا يريدون شيئا من جهة على الإطلاق،
خصوصا إذا كانت هذه الجهة لا تزال متشبثة بالخلط (الفاضح) بين الأعلام
والثقافة بصورة تدفع المشاريع إلى مزيد من الفشل الرسمي والإحباط الشعبي.
أطرح هذه الأسئلة، لأنني أكاد أسمع ذلك الصوت المسكوت عنه (كأنه نحن)
ممتزجا بالتوق الشاهق للمستقبل بمعزل عن الأوهام : لا نريد شيئا منهم
سوى أن يتركونا في حالنا عندما يتعلق الأمر بالثقافة والإبداع والفن.
يتركونا في حالنا، بمعنى أن يتأكدوا كل صباح من أن مسؤولا صغيرا لم
يرتكب حماقة إضافية لمضاعفة جرعة اليأس التي يحسن الموظفون المخلصون
في عملهم تحقيقها.
أريد أن اصدق أن ثمة أمل في هذا الاجتماع أو ذاك. لكنهم لم يوفروا
لنا سببا واحدا، منذ أكثر من ثلاثين عاما، لكي يبدو تصديقنا لهم صادقا.
يضعون برامجهم التنموية في كل مجال، وما إن يأتي ذكر الثقافة حتى يضعون
أيديهم على جيوبهم. (أعرف شخصا اشتهر بتحسس شئ آخر عند ذكر الثقافة)
كما لو أن الأزمات المالية ستطال الشأن الثقافي دائما. أكثر من هذا،
فان سلوكا مستمرا كهذا سوف يكرس منظور (التسليع) البائس الذي يصدرون
عنه، فيما يتعاملون مع الثقافة والمبدعين. بمعنى أن المدفوع على قدر
المردود. وعندهم، المردود يتمثل في استعداد هذه (الثقافة) للخضوع لمنظور
سلطة الإدارة (كما سلطة السوق)، وإطاعة إشارات المرور في شوارع ليست
مرصوفة ولا ضوء فيها ولا تؤدي سوي للجحيم. ففي مثل هذه النظرة ابتذال
وإهانة لكل ما يتصل بالثقافة، وكلما بالغوا في قياس الثقافة بميزان
المال والطاعة، تعرض الواقع الثقافي للمزيد من الخراب الموضوعي والفساد
الذاتي، وحصلنا بالتالي على مسوخ مشوهة لا تصلح سوى أن تكون خيال مآته
في حقل مهجور. وإذا كنا حتى الآن قادرين على تفادي تفاقم هذا المشهد،
فان الإمعان في تكريس منظورات وضائفية الإعلام في مواقف ومواقع تتطلب
الحس الحضاري بالثقافة، سوف يضمن لنا الذهاب المبكر للقرن القادم،
ليس كمستقبل ولكن كهاوية.
ولو كنت متشائما لكان كلامي أقل أملا. لكنني يائس، وليس ثمة أمل يفقده
اليائس. لقد تمكنوا من وضعنا في اليأس بصورة أكثر ثقة ممن يروجون للأمل
الكاذب. وإذا تميزنا ببعض الاكتراث إزاء ما يحدث حولنا، منذ أكثر من
ثلاثين عاما، سنحتاج لفرصة واحدة (واحدة على الأقل) للتمتع بمقترحات
ذاكرة متوهجة يحتفظ بها بعضنا، لاستحضار عدد لا بأس به من المحاولات
الجادة لمناقشة الواقع الثقافي في هذه المنطقة. ولحسن الحظ أن الذين
شاركوا في أبرز وأهم المراجعات النقدية للواقع الثقافي لا يزالون أحياء
(يرزقون) على أحسن وجه. ويمكنهم أن يشهدوا على ذلك الجهد الجميل الذي
بذله نخبة من مثقفي خليج منتصف الثمانينات، في سبيل تحليل واقعي للمشهد
الثقافي، وبالتالي تقديم برنامج مقترحات مستقبلية للعمل الثقافي على
مستوي المنطقة. كان ذلك يحدث بدعوة من الأمانة العامة لدول مجلس التعاون،
وقتها صدقنا (بسذاجة المثقفين الأبرياء) أن ثمة توجه حضاري لاستدراك
مستقبلنا الثقافي. غير أن النتيجة كانت محبطة بصورة مثالية لا تليق
إلا بمن يريد أن يتفادى التشاؤم فيقع في اليأس. ويمكن لمن شاركوا في
ذلك الحوار النادر أن يطرحوا علينا شهادتهم الآن، ويسألوا أصحاب الشأن
عن مصير ذلك الجهد الجميل الذي اجتمع عليه أبرز المتصلين بالثقافة
في تلك المرحلة … ولا يزالون. لكي نتأكد أننا نتقهقر بثقة لا تضاهى،
ونباهي بذلك أيضا.
لست مولعا بتسويغ اليأس. إنني فقط أطرح الأسئلة على يأس ماثل أمام
من يعنيه الأمر، لئلا يقال في مستقبل الأيام أن ثمة من يريد دائما
أن يبدأ من الصفر الأعظم، كما لو أنه فاتح الأساطير في حقله، ولئلا
يقال عنا في مستقبل الأيام، أننا غفلنا عن جهود من سبقوا، مفرطين ومقللين
من تلك المساهمات المبكرة. ولا تخلو من دلالة (وليست هي مصادفة أيضا)
أن يكون صاحبي الورقتين المقدمتين في لقاء مسؤولي الثقافة هذه الأيام
هما من أبرز المشاركين في لقائي (الكويت/ الرياض منتصف الثمانينات).
فالدكتور أحمد الربعي والدكتور إبراهيم عبد الله غلوم، كانا (ولا يزالان)
يبليان البلاء الأحسن والمتواصل في العمل الثقافي النقدي، ويساهمان
بشكل أو بآخر في معظم فعاليات الثقافة في هذه المنطقة (رسمية كانت
أو أهلية)، لكن دون أن يتحول هذا البلاء (ابتلاء) يجعل القائمين على
الشان الثقافي الالتفات إلى الأسئلة الجوهرية التي يطرحها هذا الأمل
قبل أن يصير يأسا. لذلك سوف أكون مستقر النفس إذا لم أصدق (حتى الآن)
بأن ثمة اجتماعا هنا أو اجتماعا هناك سوف يغير في المشهد الثقافي شيئا
مهما، ويزيح عنا شبح اليأس والإحباط اللذين يعتقلان قطاعا كبيرا من
المواهب والمبادرات الإبداعية على امتداد دول الخليج بلا استثناء.
أسمع الصوت كأنه نحن، يمتزج بأسئلة الحرية. وإذا كنا سنصغي للكلام
الذي سيقال هذه الأيام، فإنما نحن نخلص لنجم بعيد في ليلنا الكثيف
والطويل، ليل يتجاوز الشعر والأدب، لكي نصدق أن ثمة من يريد الاكتراث
بالفرق الشاسع بين الأعلام والثقافة، فيضع الأول في عجلة الإدارة ويطلق
الثانية في فضاء الحرية.
|