أصحاب الفجوة
عندما (في أوائل الثمانينات) جهر رهطٌ من المثقفين العرب، بمقولة
(تجسير الفجوة) بين أصحاب المعرفة وأصحاب الحكم، وبقدر ما انطوت عليه
تلك الدعوة من رغبة مشروعة في إصلاح ذات البين، فإنها كانت تشي برأفة
وشفقة على أصحاب الحكم بوصفهم أبرياء من اللوم لعدم (معرفتهم)، بمعنى
أنهم إلى الغفلة (لئلا نقول الجهل) أقرب منهم إلى المعرفة، ولذلك صار
على أصحاب المعرفة العطف على أصحاب الحكم وإسعافهم. أي أن على المثقفين
المبادرة في إنقاذ أصحاب الحكم من أزمة (لم يعترفوا بها أصلاً). وإذا
تفادينا الصورة الكاريكاتورية (غير البريئة) في هذا الوصف، لن نتمكن
من تفادي الوهم العظيم الذي يقترح (أصحاب الفجوة) الخضوع له، ذلك الوهم
المتمثل في كون أصحاب القرار (لا يعرفون)، في حين أن معطيات التجربة
كانت تدل على أنهم ربما كانوا (يعرفون) دورهم ويحسنونه أكثر مما (يعرفه)
أصحاب المعرفة ذاتهم، والدليل على ذلك أن العسف المنظم الذي تعرض له
أصحاب المعرفة العرب (بشتى تجلياتهم و ألوانهم) كان من الدقة والفعالية
بحيث تحولت تجربة المثقف العربي إلى ضرب من التراجيديا التي لا يضاهيها
سوى تراجيديا طيب الذكر فاوست.
إلى ذلك، فإن دعوة أصحاب الفجوة لا تخلو من دلالات. ففي اللحظة التي
طرح أصحاب الفجوة صوتهم علينا، أوائل الثمانينات، كانت السلطة العربية
تلتفت باهتمام محكم (لتنظيم) البيت العربي، مستفيدة من المتغيرات التي
كانت تحدث، أو هي قيد الحدوث، عربياً وعالمياً. ففي ذروة انحسار الحلم
النهضوي الذي عاشه العرب حتى نهايات السبعينات، تمكنت السلطة العربية
من (تنظيم) البيت على طريقة (إعادة الانتشار) السياسي لمنظومات الردة
ونظرياتها، وسحب ما يمكن تسميته بمكتسبات العمل التقدمي في المجتمع
العربي، في أشكال مختلفة، من بين أهمها إعادة تركيب اللعبة الديمقراطية،
بمصادرتها (اقتراح أشكال متخلفة) حيناً، وبإعلانها (بشكلانية موغلة
في التمثيل الفج) حيناً آخر. وفي كلا الحالين سوف تحتاج السلطة إلى
آلية (جديدة) تجعل من هذا الإنح/شار (الانحسار-الانتشار)، تحولاً (نوعياً)
في طبيعة السلطة العربية، شريطة أن يتناسب مع القيم العربية، التي
ليس لأحد التشكيك في مصداقيتها، لتتحول اللعبة الديمقراطية ضرباً من
الممارسة الأخلاقية التي يتوجب علينا أن نتجنب فيها القيم الغربية،
في اللحظة ذاتها التي كان المشهد العربي يذهب إلى الغرب بحماس منقطع
النظير. في ذروة الانحسار هذه، إذن، سوف تلتفت السلطة العربية (ما
غيرها) إلى أهمية دور المثقف في تزكية الآلية الجديدة. فما كان على
السلطة إلا أن تنشر حضنها لتلتقط ما لا يقاس من السَـقط الذي كان قد
بدأ يسفر عن مواهبه المؤجلة، في ضوء تداعيات متنوعة في التجربة العربية
والعالمية. السلطة العربية (ما غيرها) التي منحت المثقف العربي أقسى
تجاربه الإنسانية وأكثرها عسفا، استدارت لكي (تمنح) المثقف (ما غيره)
الفرص المتاحة لكي يحقق ذاته بطريقة تتناسب هذه المرة مع الشكل الجديد
للنظام العربي، بزواج شكلي بين المثقف / كثيف الخبرة والسلطة / قليلة
المعرفة (حسب أصحاب الفجوة). ولأن صورة المثقف من شأنها أن تضفي على
السلطة مظهرا حضارياً يتطلبه السياق الجديد، وبسبب من معطيات التجربة
العامة، وجدت هذه السلطة في نماذج المثقف عناصر من شأنها أن تنتظم
في البنية المقترحة بشكل من الأشكال، دون أن تخسر (هي) متراً من دست
حكمها، ودون أن يكسب ( هو) بحصة من حقوقه.
ولم يكن التفات السلطة العربية للمثقف من باب المصادفات التي تحدث
في تاريخ المجتمعات، فقد كان المثقف (في تلك الذروة ذاتها) يخرج من
تداعيات متقاطعة تتمثل في : خروجه من الانهيارات الأيديولوجية العالمية
الشاملة من جهة، وتخبطه في هزائمه الذاتية من جهة أخرى. الأمر الذي
جعل المثقف عرضة لتصدعات قاتلة، خصوصاً عندما يكون هذا المثقف قد فقد
الاستعداد الذاتي لتفادي السقوط في اليأس المنظم الذي يلتهم الروح
قبل الجسد. لذلك فإن الحضن الشاسع الذي نشرته السلطة العربية تمكن
من قطف ثمار كثيرة من جراء تلك الانهيارات العامة والهزائم الذاتية،
بحيث تسنى للسلطة أن تجد في دعوة أصحاب الفجوة مدخلاً موضوعياً يجعل
من الردة الحضارية مظهرا إنقاذيا على الصعيد الذاتي للمثقف. فإذا بالمثقف
الذي حرمته السلطة ذاتها من تحقيق (حلمه) يرى فرصته متاحة لتحقيق (وهمه).
سيقال هنا، بأن من حق المثقف أن يحدد خياراته بحرية، وإن كل الذين
نجدهم الآن ينزعون نحو إقليم السلطة (بمبررات لا تحصى) هم مثقفون قادرون
وأحرار في الاختيار. والحق أن هذا حقهم الصراح الذي لا ينازعهم فيه
أحد. ولكن هذا لا يعني أنه خيار ناجز لا يقبل الأخذ والرد، دون أن
نكون مجبرين على الإعجاب دوماً بهذه الخيارات. خصوصاً إذا تسنى لنا
طرح سؤال يتصل بطبيعة السلطة التي لم تتغير طوال الوقت. وخصوصاً أيضاً
إذا كانت هذه السلطة هي ذاتها (بكامل آلياتها وبنياتها) التي مارست
ضد المثقف بعينه عسفا ومصادرة لا زال أثرهما على جسد الشخص وروحه.
من حق الجميع أن يختار ما يريد، ومن حقنا أن نطرح على من يهمه الأمر
بضعة أسئلة.
|