له حصة في الولع
نثر مائل وشعر وشيك

مؤسسة الانتشار العربي
لوحة الغلاف : عبا يوسف - البحرين

 

1 - أنشودة الأسود الضاحكة

جوهرة الراصد في مهابة الزاهد

ماذا يريد المبدع من الكتابة ؟ لو أننا واجهنا هذا السؤال صباح كل يوم، لما وجدنا جوابا أكثر إلحاحا من الحرية التي لا يستطيع المبدع أن يتنازل عنها لحظة الكتابة. حتى أن هذا الشرط سوف يجعل الضرورات الأخرى (التي لا أحد يقلل من أهميتها مثل لقمة العيش) تأتي في الدرجة التالية من الأهمية، هذا إذا كان المبدع يصدر من ذلك الجنون الذي يجعل من الذات (جوهرة المراصد) الأولى التي لا يمكن أن يفرّط فيها الإنسان العادي فما بالك بالمبدع. فالمبدع يشعر بكيانه الإنساني الحقيقي عندما يكون خارج سطوة كل السلطات المنظورة وغير المنظورة في الحياة والمجتمع، فالإبداع في جوهره هو فعل حرية، ولا يكون متحققا إلا إذا حافظ على هذا الفعل بالمعنى العميق للحرية.

في السياق العربي، سوف تكون حرية المبدع واحدة من بين أكثر القضايا تعقيدا وعرضة للشك دائما، خصوصا إذا نظرنا إلى المؤسسات المهيمنة بوصفها حامية حدود وليست فاتحة آفاق. وسوف تتفاقم هذه المشكلة لتصبح بمثابة المأزق الماثل أمام المبدع إذا هو توقف لحظة للتأكد من مشروعية حقه في تلك الحرية. فما إن تشعر المؤسسة العربية أن ثمة مبدعاً يقبل مجرد مراجعة حدود حريته، حتى تقفز عليه من أجل دفعه داخل غابة البيع والشراء، ليصبح بالتالي سلعة قابلة للمزايدة على ضوء ما تعرضه هذه المؤسسات من مغريات تتحول تلقائياً إلى مالا يحصى من الشراك والقيود والمصادرات، التي من المحتمل ألا يدرك المبدع (خصوصا إذا قبل مبدأ المساومة على شيء هو ضد البيع والشراء أصلاً) خطورة النظر إليها من هذه الشرفة. وسوف يكون الأمر قابلاً للمقامرة أكثر إذا لم تسعف المبدع التجربة ليعرف جيدا الجواب على سؤال : ماذا يريد المبدع من الكتابة.

بعد التحول الفادح الذي جعل من الحياة العربية عبارة عن سوق كبيرة، يصبح كل شيء فيها معروضاً للبيع والشراء، وبعد الانجراف الشاسع الذي بدا أنه يطال قطاعاً كبيراً من المشهد الثقافي والأدبي (برعاية كريمة من بعض المؤسسات الاجتماعية، ذات العنوان والخطاب الثقافيين، وبترويج مفضوح لأجهزة الصحافة والإعلام العربية)، صار على المبدعين أن يبالغوا في التأكد وتحسس رقابهم ورؤوسهم (ومواضع الضمير في أبدانهم) أمام المرآة كل صباح. فمن غير المستبعد أن يكون أحدهم قد تعرض للبيع والشراء حتى من غير أن يعرف هو بالأمر. ولكن لا ينبغي المبالغة في الزعم بأن المبدع سيكون ضحية (ساذجة) في معظم هذه الحالات، فالأكيد أن أية سلطة في العالم لا تستطيع تداول أي كاتب ( والمتاجرة به) بدون أن يكون هو راغباً في ذلك ومستسلما له وساعياً إليه أيضا، فلم تعد تلك المؤسسات (ذات المهمات المتعددة والعابرة للحقول) تكترث بكل من هب ودب، ولا هي معنية كثيراً بالعشرات من الذين يعرضون بضاعتهم وأنفسهم على قارعة المشاريع المبذولة، فقد أصبح أمام هذه المؤسسات مجالا واسعاً للاختيار لفرط اتساع العروض وتنوعها وابتذالها الفجّ. ولا ينبغي الزعم والتوهم أن ثمة مؤسسة أو مشروعاً تلاعب بالمبدع وتستوعبه وتفرض عليه شروطها وتصادره إنسانياً وإبداعيا لمجرد أنه شارك (أو عارض أحياناً) هذه الفكرة أو تلك، وغير مقبول الزعم أيضاً أن كل ذلك قد تم من غير علم المبدع أو بغير رضاه. لم تعد المؤسسات بحاجة للظهور بمظهر المحارب من أجل تجيير الثقافة لكي تصبح زينة في جوخة هذه السلطة أو تلك. الأمر سيكون دائما بمعرفة المبدع وإدراكه (لئلا نقول تمتعه و استغراقه وتمرغه) في دقيق الشياطين وجوخة فاوست الجهنمية.

بقي أن يعرف المبدع دائماً (ونعرف نحن معه) ما يريد من وراء الكتابة. وسوف يترتب على ذلك كل شيء بوضوح وبدون أية مواربة. لا أحد يمكنه أن يلوم الإنسان على تطلعه ورغبته في تحسين أوضاعه الحياتية والتمتع بمعطيات وخيرات الله في الأرض. ولا أحد يمكنه أن يعوض حرمان الإنسان بأية وسيلة تضاهي المال والوجاهة والمكانة الاجتماعية (لمن تلذّ له هذه المظاهر). وسيكون الأمر أكثر تعقيداً عندما يتعلق بالمبدع. فحين يصدر المبدع من نقطة الضعف الإنساني هذه (وهي نقطة ضعف مفهومة ومشروعة كما قلنا)، فحين يضع المبدع موهبته وعمله الفني ودوره في الحياة في مقابل كل تلك التطلعات والطموحات العابرة، فسوف يكون عرضة لبعض الشك في كونه يدرك المعنى الإنساني والتاريخي الذي يتصدى له. فليس أخطر من أن يرى المبدع ذاته وكيانه الإنساني في مرتبة أقل من دوره. وليس أقسى على الإنسان أن يرى نفسه في موقع الاختيار بين الموت جوعاً (حتى بالمعنى الحرفي للكلمة) والمحافظة على طبيعته الإبداعية لوجهة نظر مغايرة للمؤسسة والسلطة بشتى تجلياتهما في الحياة والمجتمع. المحافظة على ذلك الدور الأجمل بلا منازع، والاستسلام لكل التضحيات التي يتطلبها التمسك بهذا الدور، حيث طرح الأسئلة ضـد الأجوبة.

وأيضاً، في سياق الحياة الراهنة (حيث كل شيء سلعة في السوق)، سوف تتفنن المؤسسات في عرض المغريات التي لا تضاهى، في سبيل جعل المبدع أمام السبل الأصعب من الحفاظ على طبيعته بدون أن يموت جوعاً، (أو أن يموت تخمة بالضمير). وكلما تمكن المبدع من الإمساك بجمرته والتشبث بحريته مهما كانت التضحيات، تيسر لنا الإحساس الحضاري بأن ثمة من يستحق الأيمان به في هذه الحياة، في مواجهة السلطات التي تتناسل بأجهزة ومؤسسات تمعن في المبالغة في الخطاب الثقافي، فيما هي تدفع بالمزيد من المبدعين (في شتى الحقول) لكي يعرضوا أنفسهم للبيع في هذه السوق، بحجة حق الحياة حيناً، وحجة صعوبتها حيناً آخر. لابد من التخلص من ذلك الغرور الكاذب الذي يدفع بالمبدع لأن يرتكب أكثر الجرائم الأخلاقية في سبيل الاستجابة لغروره المستفحل أو للوصول إلى غاياته المادية، حتى لو كان ذلك على حساب الحقيقة الإنسانية والإبداعية وحساب زملائه من المبدعين، متجاوزاً الأخلاق والقيم والروح الحضاري الذي يتوجب على المبدع أن يكون نموذجاً فذاً لمن يذهب إليها بمهابة الزاهد. يجب أن نتعلم من غيرنا إذا كنا بحاجة لدرس من هذا النوع. فالإبداع سلوك أكثر سمواً وأعظم شأناً من الوجاهة الاجتماعية والمكاسب العابرة. في إحدى حواراته الأخيرة، قال الروائي الأسباني خوان غويتيسولو : (لقد ساعدني جان جينيه على التخلص من الغرور الأدبي الذي كان يلازمني منذ شبابي، وعلى التخلص من الحاجة لأكون في صدارة الحلبة الاجتماعية، من أجل الاهتمام والتركيز على ما هو أكثر أصالة).*

 
 
السيرة الذاتية
الأعمال الأدبية
عن الشاعر والتجربة
سيرة النص
مالم ينشر في كتاب
لقاءات
الشاعر بصوته
فعاليات
لغات آخرى