له حصة في الولع
نثر مائل وشعر وشيك

مؤسسة الانتشار العربي
لوحة الغلاف : عبا يوسف - البحرين

 

1 - أنشودة الأسود الضاحكة

يستديرون إلينا

قلت هذا قبل سنوات عشر (1991). وها هي محاكم التفتيش تسفر عن وجهها بالصلافة ذاتها التي تميز عدو الثقافة عن وحش الغابة بالدرجة وليس بالنوع. ففي خريطة العرب ما يكفي ليمنحنا الثقة بأن المستقبل الذي يذهبون بنا إليه ليس سوى الليل القديم الذي أوشك العالم على نسيانه، أو وضعه في المتاحف، لكي يعتبر به الأحفاد. لكأننا أحفاد مرشحون دوماً على تقمّص أسلافنا واستحضارهم يحكمون حتى في مخيلتنا.

في هذه المنطقة من العالم، ظلت الثقافة طوال الوقت في هامش المشهد. وكان الجميع منشغلون بالشأن المتصل بكل ما هو ضد الثقافة والفكر. يديرون الأمور بمعزل عن هذا الوعي المكبوت المكتنز بأحلام التقدم والمستقبل. ولم تكن الثقافة والفكر في برامج التنمية التي (يعلنونها) علينا، وإذا حدث وأشاروا إلي شيء من ذلك، فإنما في ذيل الكلام، أو بمثابة الزينة التي يمكن الاستعاضة عنها بالأزهار الاصطناعية، دون الالتفات للحدائق البهية التي تزدهر في أكثر الظروف قسوة وضراوة، مثل وردة تنبت في صخور الصحارى وصقيع الجليد. وانشغال المؤسسات الرسمية في السنوات الماضية عن الثقافة لم يكن غفلة عنها، ولكنه سلوك يتصل باحتقار كل ما يتصل بالإنسان، وهي استهانة فادحة بأحلام البشر في هذه المنطقة من العالم، كما لو أنهم يستطيعون بناء المجتمعات فارغة من الروح الإنساني الذي يمنح الحياة طبيعتها الحقيقية. وما إن بدأت المؤسسات تأخذ (شكلها) المدني، بما لا يقاس من القصورات والعورات، حتى بدأت تستشعر خطراً أجلتْ الالتفات إليه، وهو خطر الثقافة. وعندما أخذت تطرح الصوت عالياً عن الاهتمام بالأدب والفكر والفن، صورتْ الأمر كما لو أنه رغبة حضارية لتشجيع الثقافة وتطويرها بالدعم المادي. وربما اعتقد الكثيرون منا بأن في هذه الإلتفاتة عودة (وإن كانت متأخرة) إلى الطاقة الروحية في هذه المجتمعات، ووضعها في الموقع المناسب من مشاريع التنمية. وكنت أخشى دوماً من خطورة هذا الاعتقاد القائم على حسن النية التي يتميز بها المثقفون وأصحاب الفكر والفن والأدب، لكونهم يصدرون عن المشاعر والعواطف، في عالم لم يعد يكترث بمثل هذه الأشياء. في غير إقليم من هذه المنطقة، استدارت الأجهزة لتستفرد، هذه المرة، بالشأن الثقافي، بالحجة الباهرة ذاتها، (دعم الثقافة). ولأمرٍ لا يخلو من التجربة، ما إن أسمع عن مسألة الدعم هذه حتى أتحسس جسدي كاملاً لأتأكد من حواس الفكر فيه. ففي الظروف الكثيفة التي نعيشها، وصدوراً من تاريخ المؤسسات الرسمية وطبيعة بنيتها، لا أستطيع الثقة في ما يعلن في هذا المجال. ليس هذا مبالغة في التشاؤم، ولكنه ميل لا شعوري للمقارنة بين ما يقال وما يحدث.

فالمسافة بين هذين القطبين سوف تفضح دوماً المهرجانات الإعلامية التي تتعثر بها الأجهزة الرسمية في هذه المنطقة، معلنة دعمها وتشجيعها للشأن الثقافي. في حين أن الأمر لا يجب أن نواصل قبوله بالمعميات البائسة التي يتبعها القائمون على هذه الأجهزة. فنحن لا نستطع الثقة في أجهزة تصدر عن تصور إداري متخلف، لكي نصدّق أنها قادرة على التعاطي مع الثقافة، فيما هي تغرق في طبقات كثيفة من الجهل. كما إننا لا نستطيع أن نفصل الشأن الثقافي عن الأمر الجوهري الذي يتصل بالحاجات الضرورية في الحياة والمجتمع. فكيف يمكن الكلام عن الثقافة والفكر في مناخ من الكبح وغياب الحريات. وكيف يمكن القول عن تشجيع ودعم الثقافة في ظل إدارات ومؤسسات لا ترى في الثقافة سوى ذلك العدو الذي يتوجب مجابهته والحجر عليه وتقنين حركة العمل فيه.

من جهة أخرى، سوف تتفاقم المسألة إذا عرفنا حجم الخلل الذي تنغمس فيه هذه الأجهزة، فهي تصدر عن الوهم الخطير الذي يفترض (حتماً) بأن على الثقافة أن تخضع للحدود التي تضعها الإدارة، أية إدارة كانت. بمعنى أن دور الثقافة هو أن تكون تابعة للمشروع السياسي الذي تنضوي تحته تلك الإدارة بقضها وقضيضها، وأن تكون، الثقافة، معجبة دائماً بكل ما يصدر عن الأجهزة وتصير بوقاً لها. وسوف يعلن الكثير من تلك الأجهزة، بجهر تحسد عليه، بأن الخضوع لذلك التصور شرط واجب أمام الثقافة للحصول على الدعم. وعند هذا الحد سوف تسقط، إلى الحضيض، كل الادعاءات الفارغة التي تزخر بها المهرجانات.

بعد ذلك علينا أن نعرف، لماذا تتفاقم مشكلة علاقة المثقفين والكتاب بالمؤسسات العربية على امتداد الماء واليابسة .

 
 
السيرة الذاتية
الأعمال الأدبية
عن الشاعر والتجربة
سيرة النص
مالم ينشر في كتاب
لقاءات
الشاعر بصوته
فعاليات
لغات آخرى