له حصة في الولع
نثر مائل وشعر وشيك

مؤسسة الانتشار العربي
لوحة الغلاف : عبا يوسف - البحرين

 

8 - ذئب يتدرب على الموت

يحذف حذاء من نافذة مغلقة

رأيت قنديلا يؤرجح النوم ذي الأحلام. رأيت غيمة تمر على الشرفات، تطرق النوافذ، ولا أحد يفتح لهاو فتصاب بالبرد. كيف يمكن تخيل غيمة مصابة بالبرد، تظل الطريق وتتوغل في الطرق الموحشة. وحين أوشكت على التيه صادفت الضوء يلوح لها من بعيد. في ذلك الليل البهيم ثمة ضوء وحيد يدرك الغيمة الضائعة قبل اليأس و الضياع.
رأيت كتبا كثيرة مفتوحة على قارعة الطريق. وفي الأفق طابور يصطف في خيط طويل في هيئة كائنات معصوبة الأعين و الدم يسيل من الأنوف و الأذان. طابور يضع أوله عناصر الحواس في تراث الكتب و يقرأ النص المكتوب. يقرأ الأول فيستعيد معه الأخير في الطابور الطويل، مثل صلاة ممتدة في كائنات لا نهائية. وكلما تصاعد الصوت طفر الدم نافرا من أنف الكائن و أذنيه، وتدريجيا سوف تتفجر العينان بحمرة التحديق فينفر منها الدم مثل قنديل يلتهب فيه الزيت دفعة واحدة.
في الممر الضيق الموازي لجدار المسجد بالقرب من دارنا كنت أرى شبحا هائلا يعترض طريقي كلما عدت إلى الدار في الليل. شبح يتجاوز كتفاه حافة جدار المسجد ويسد وركاه الزقاق ويصدر عنه صوت هو بين النحيب و العواء و الفحيح و فيما يتصاعد من جسده رائحة فجة عطنة تفسد البصر لفرط سلطتها على المكان. صادفت ذلك الشبح كثيرا، ولكنني لا أذكر تماما ما الذي يحدث لي بعد ذلك. كلما أذكره أنني أصحو في الصباح و الحمى تنتاب جسدي والعائلة تتناوب على ممارضتي من داء لا يجرى الكلام عنه أبدا. رأيت ذلك الشبح مرات بعدد الليالي التي مررت بها في ذلك الممر. حتى أن والدي نصحني ذات مرة بأن أستخدم الطريق البعيدة للوصول للدار تفاديا لذلك اللقاء. ولا أعرف حتى الآن ما إذا كان الآخرون يصدقون ما أرويه لهم عن الشبح أن أنهم يقبلون كلامي من باب هذيان الأطفال. غير أنني عين سألت جدتي مرة عن الأمر هزت كتفيها محاولة افتعال عدم الاهتمام قائلة : (هذا يحدث كثيرا، جميعنا يعرف ذلك الطريق، الظلام الدامس في زقاق المسجد من شأنه أن يخيف الرجال، أبوك نفسه لا يجرؤ على المرور في ذلك الطرق بعد منتصف الليل، ولا تنسى أن للمساجد من يحميها). رأيت ذلك الشبح مرات جعلت منه قرينا جديرا بالحب حتى أصبح صديقا لي. أجد نفسي منجذبا للمرور من ذلك الزقاق برغم التحذير الغامض. فوقف لي ذات ليلة، فرأيت فيه كائنا أكثر شفافية من الأول. وضع يده على جدار المسجد وفتح لي كوة طلب مني أن أنظر منها. فنظرت، فإذا ببشر لا يحصون يعج بهم المكان وهم يتحدثون جميعا في آن واحد دون أن يسمح بعضهم لما يقوله البعض الآخر. ولا يكترث أحدهم للآخرين، ودون أن يفهم أحد مما يقال شيئا. فعدت ببصري إلى الشبح الماثل، فإذا به يسند ظهره إلى الجدار الآخر وعلى وجهه (الذي ألمحه للمرة الأولى بهذا الوضوح) مسحة حزن وحيرة غريبان. وقبل أن أنطق بكلمة قال لي : (هذا هو الحال هناك. أنني لا أجد كائنا يتبادل معي الحديث أو يصغي إلى. لذلك أخرج كل ليلة ابحث عن بشر يسمعونني و أسمع منهم. وكلما صادفت شخصا هرب مني في اغمائة تضعني في مأزق لا أعرف كيف أتصرف فيه. ها أنت رأيت ما الذي أهرب منه، فهل لك أن تتريث قليلا قبل أن تسقط مغشيا عليك مثل كل مرة؟
رأيته يحاول حذف الحذاء من نافذة مغلقة. وحين أحاول تنبيهه أن ثمة خللا في المشهد. يكون الحذاء قد طار من يده المشرعة واصطدم بخشب متين يحب الداخل عن الخارج. حذاء حمل صاحبي سنوات العمر الطويل عبر طرق ومفازات وتجارب لا تحصى وليس لاسمها مثيل. حذاء كاد، لفرط صلته بصاحبي، أن يصبح جزءا من قدميه. وصاحبي يحاول منذ سنوات التخلص من هذا الحذاء مثل شخص يعمل على بتر أصابع يديه إصبعا بعد الآخر، لمجرد أنه قرر أن يستبدل آلة عزف جديدة. والآلة الجديدة هنا هي بمثابة الطريق الجديدة التي يذهب إليها صاحبي متوهما أنه قادر، بالتخلص من الحذاء القديم، على الاستعداد للمذهب الجديد. في غرفة محكمة المداخل و المخارج، لا نور فيها ولا هواء، كيف يتسنى لك أن تحذف الحذاء، وأنت تلبسه في قدميك. كل صباح، ما إن أمر على داره أراه متوترا يواصل المحاولة. حذف الحذاء من نافذة مغلقة.*

 
 
السيرة الذاتية
الأعمال الأدبية
عن الشاعر والتجربة
سيرة النص
مالم ينشر في كتاب
لقاءات
الشاعر بصوته
فعاليات
لغات آخرى