تفاحة زرقاء جهة القلب
وضع الرجل عينيه على بياض الكتاب. لا ليقرأ، ليلثم الأفق الناصع بليل
العينين ويمنح دفئاً لبعض الكلمات التي تغرغر بها حلمه في الليلة الماضية.
سمع النحيب، سمع قهقهة أطفال يتصاعدون من نوم كثيف، سمع الحروف تقرأ
ذاتها وتهطل دمعاً. سمح للغيمة الشفيفة أن تمر بين صدغه وزغب الورق
الذي يجهش ومال بعنقه المتعبة لينال قسطاً من راحة القلب على أريكة
تتهدم تحت رأسه. عيناه مشرعتان مثل ذئب يتدرب على النوم في مشارف الغابة.
أيقظه ضوء قنديل شاحب يتأرجح كمن يضلل فتية يفرّون من جهة يبحثون عن
جهة أخرى. رفع رأسه المتعبة ليلمح تلك المرأة ذات الوشاح الأصفر تحمل
قنديلها وتهدي الظلام ليهجع باكراً. سمعها تهمس لكائن غير مرئي : لم
يتركوك لكي تنسى، لا ينسونك مادام أثر حديدهم على جسدك، اختبر قدرتك
على النسيان لكي يقفوا في ذاكرتك، خفف عن كاهلك، لن ينسوك، وعليك أن
تدرب ذاكرتك على المغفرة. وقبل أن يستدير الرجل لكي يستطلع الطرف الآخر،
طوى كتابه المطروح على أرض الحلم، وطفق يحنو بأصابعه على حرير الصفحات
ورقة بعد ورقة، لا على عجلةٍ، ماء ثقيل يتسرب في تلافيف أصابعه. استشعر
بأن ثمة أخبار تريد المرأة أن تقولها للمارة في ظلام المكان، غير أنها
لا تريد أن يكون ذلك عن طريق الكلام. للمرأة صمت فادح اعتادت أن تخاطب
به ناس المكان. (هل أنت سادن الليل) باغته سؤال المرأة. هذا ليس صمتاً.
إنها مبارزة غير متكافئة بين كائنين يشتركان في مهمة واحدة، وتتقاطع
بينهما طرق كثيرة. وها هي تنتظر جوابا على سؤال مكتنز بالمعنى. (قال
لي : لا تكلمهم إلا رمزاً، ففي ذلك نعمة لهم ورحمة لك) أدخلت المرأة
يدها بين ملابسها المنسابة مثل موج وصل الشاطئ تواً، ومن بين ثنايا
الثوب أخرج يدها تحمل تفاحة زرقاء ما إن بسطت أصابعها حتى شع المكان
بزرقة صدرت من اللازورد. وفي حركة تشبه طفل يسحب الغطاء لكي يواصل
النوم، وضع الرجل يده على الحقيبة المتدلية من كتفه، وسرعان ما استدرك
محدثاً نفسه بصوت سمعته الكائنات كلها (لكن هذه التفاحة زرقاء). (هل
أنت سادن الليل) . (أنا خادم الحلم يا سيدتي). هذا جواب يليق بيقظة
المخيلة. كيف تسنى له أن يضع خاتمة لحكايته الأخيرة، فيما كانت المرأة
ذات الشمسية تؤرجح ساقيها غبطة بالريح وهي تصعد بها. تلك العجوز، ما
كان لها أن تقفز مثل بطة من رصيف إلى آخر. كانت الريح ترصد حركتها.
انثنت المرأة بجذعها على الرجل لكي تسمع غرغرة الكلمات في كتابه المكتنز
بالحكايات مخبوءاً في الحقيبة. وكمن يصقل الحجر الكريم راحت تدعك التفاحة
الزرقاء على قميصها ناحية القلب. سمع الرجل صرير التفاحة على قميص
المرأة فظنه النداء لكي يبدأ في الغناء. لا أحد يعرف في هذه المدينة
من أين جاء الرجل ذو الحقيبة ذات الكتاب والتفاح، ولا أحد يعرف في
هذه المدينة من أين جاءت هذه المرأة ذات التفاحة الزرقاء. لم يجد أحدٌ
رغبة في الاستفسار عن الأمر. ثمة ألفة شاعت بين أهالي المدينة، حتى
أن بعضهم يوشك على يقين بأن ثمة بيتا في أحد الأحياء ربما كان بيتاً
للرجل، واحتارت النساء قليلاً في مبيت المرأة، ولولا طبيعة النساء
لكنَّ تسابقن لدعوتها للإقامة في دورهن، غير أن مشكلتهن أن الرجال
لا يؤتمنون على امرأة أخرى في الكون، فما بالك إذا كانت في الدار.
ولم تكد نساء المدينة تهجعن في أسرة الهدأة متوسلة للنوم حتى سمعن
وقع أقدام متوترة تطرق أحجار الطرقات. نفضن ألحفتهن وقذفن برؤوسهن
من النوافذ يستطلعن الأمر. كانت الطرقات مكتظة بأربعة فتية يشي مظهرهم
أنهم يفرون من درس العذاب. يرشح من أجسادهم الأنين وبقايا ملابسهم
الممزقة ممهورة ببقع دم لم يجف بعد، وطيف بكاء مكابر يصده صوت يشبه
الترتيل. لقد جاء الفتية الأربعة ليعلموا أن حصاراً مزخرفاً بالعنف
يطوق القرى المنسية المحجوبة بالجبل، والكائنات المحصورة هناك تبعث
بما يستنهض عاطفة المدينة لكي ترأف.*
|