له حصة في الولع
نثر مائل وشعر وشيك

مؤسسة الانتشار العربي
لوحة الغلاف : عبا يوسف - البحرين

 

7 - أطفئ قناديلك يا مجنون

مارسيل خليفة ، يَزِنُ النَصَّ و ينثره

لم يكن حضوراً عابراً. فالحدث، بالمعنى الثقافي والفني، كان تجلياً استثنائياً ستحتفظ به ذاكرة الجمهور في البحرين، بوصفه نوعاً من حوار الأرواح الحميم بين الفن والناس. وحين نقول (الناس)، فإنما نضع كلمتنا على السر الغامض، الذي ظل يميّز تجربة مارسيل خليفة طوال عشرين عاماً تقريباً، وهو يصوغ فعله الموسيقي بدأب الوعي وجماليات الموهبة. وحسب وصف مارسيل نفسه، في مؤتمره الصحفي الذي عقده مساء وصوله البحرين، لزيارته البحرين المنتظرة منذ عشرين عاماً، فإنه يصف في ذات اللحظة انتظار الناس هنا لهذا اللقاء طوال هذه السنوات، دون يأس. الأمر الذي تأكد طوال أيامه في البحرين، وزاد حرارة في لقاء الجمهور، الذي حضر الحفلات الباهرة الثلاث، حيث سهر مارسيل مع رباعي الميادين، ليكتشف في تلك الليالي كم هي حاضرة وقريبة من الركن الحميم للناس هنا، تجربته الفنية.

جاء مارسيل خليفة لكي يقدم عمله الموسيقي (جدل) الذي طاف به مدناً كثيرة في العالم. ومثلما ينتاب القلق جميع المبدعين ساعة لقاء جمهور جديد عليه، كان مارسيل ورفاقه يضعون أيديهم على قلوبهم، منتظرين الطبيعة التي سيستقبل بها الناس ساعةً ونصف من الموسيقى الخالصة، بمعزلٍ صريح عن الغناء الذي اعتاده الجمهور. وما إن بدأتْ الدقائق الأولى للعزف، حتى شعر رباعي الميادين بمئات الأيدي الحميمة موضوعةً جميعها على قلوب الفنانين، مثل أجنحة حنونة تدفئ الروح والجسد. وامتلك القاعة صمتٌ، يضاهي الخشوع، سمّاهُ مارسيل، مصيباً، فيما بعد بالصمت الجميل. وقال )كأنني لم أغادر بيروت(. فيما عبّر الكثيرون بأنهم (فيما يعودون إلى ذواتهم) أعادوا اكتشافاً جميلاً للفن الذي اشتغل عليه مارسيل طوال السنوات، لكي يؤكد أنه لم يغادر موقفه العميق والواعي، إن كان فنياً أو فكرياً. واستطاع مارسيل أن يأخذ جمهوره إلى ذلك الصمت الجميل برشاقة الأب الذي يداعب رعاياه، حيث الصمت موهبة تتطلبها الأعمال الموسيقية المشغولة بموهبة الناسك، كما في صلاة. وهي قاعدة لم يعتدها عربٌ كثيرون. كان جمال الموقف والتفاعل الحميم يتصاعد في الليالي الثلاث بصورة أدهشتْ، ليس مارسيل ورفاقه، بل غمرتْ الوسط الثقافي في البحرين بشعور من افتقد هذه الأجواء منذ سنوات طويلة. ومَنْ كان يرقب جمهور الحفلات الثلاث، سيكون قد تعرّفَ على شرائح واضحة تصدر عن أجيالٍ ثقافية ثلاثة، جاءتْ لكي تستعيد ثقتها في الروح، تلك الثقة التي أرهقتها الانهيارات الشاملة والهزائم الصغيرة، الروح الذي حاول الركام الرديء والساذج من الموسيقى والغناء أن تصادرها وتشوه ذائقتها. ولولا بعض التماسك الداخلي الذي تميّزتْ به هذه الأرواح، لأوشكنا على القول بأن الانهيارات والهزائم قد أتتْ علينا. لقد بدا الكثيرون كمن يتشبث بالباقي من أحلامه، لئلا يقال إن ثمة شخصا جاء يمسْ منا الشغاف فلم يفلح. وتوافد المئات من الدول المجاورة لحضور الحفلات، الأمر الذي استدعى إضافة أعداد مضاعفة من المقاعد في الليلة الأخيرة، لكي تسع جمهوراً حاصر القاعة.

في (جدل) لا يتجاوز مارسيل خليفة التجربة الموسيقية التي حققها في أعماله السابقة فحسب، ولكنه، خصوصاً، يضع تجربة التأليف الموسيقي التي أنجزها غيره في هذا المجال، عند منعطف عميق، فنياً ورؤيويا. أعني التأليف الموسيقي كمفهوم يطمح إلى اختزال المسافة بين العلم والفن. وفي (جدل) سيتاح للمتأمل أن يعيد النظر في مفهوم التجريد الذي صار وصفاً كلاسيكياً للموسيقى البحتة. فأنت هنا لن تجد فكاكاً من حركة الحياة وحيويتها، ولن تستطيع تفادي عناصر الواقع الملموس في النص الموسيقي. ليس ثمة حدود بين الذاكرة والمخيلة. واللعب الذكي الذي حققه مارسيل، باستخدامه الثيمات المختلفة و المتنوعة (مراوحاً بين ذاتيته وموضوعيته)، كان لعباً واعياً على الحواس المسكوت عنها طوال الوقت. فليس كافياً القول بأن (جدل) قد استحضرَ نصوصاً موسيقية مألوفة من التراث العربي ليشغل بها قميصه الجديد، وليس كافيا،ً أيضاً، القول بأنه أحسنَ استعادة عدد معروف من أشهر أعماله السابقة لكي يجدد صياغتها بمنظوره الموسيقي المبتكر. ولن تحيطَ بالأمر إذا قلتَ بأنه كان يصفّي حساباً مدروساً ومتطوراً مع تاريخٍ شاسعٍ من الموسيقى العربية، تاريخ شكلتْ تجربة مارسيل نفسه جزءاً مهما منها، هذا الحساب العميق الذي أثبتَ قدرة الموهبة الفذّة على تأمل الواقع الإنساني بالعناصر الفنية ذاتها التي اتصلت بها تجربة مارسيل منذ توضح تجربته المبكرة. ولكنك ستكون مخلصاً، مع يقظة حواسك لحظة التلقي، حين تفصح عن هاجسٍ غامضٍ بأن (جدل) من شأنها أن تشير (عمقيا) إلى تجربة وشيكة من التحول نحو تأليف يمعن في الذهاب إلى الموسيقى، بالوسائط ذاتها التي أسَّسَ بها مارسيل طبيعته الفنية. بمعنى أننا سوف نتوقع تبلوراً جديداً تحققه الخبرة الواعية التي أعطتنا (جدل)، مصرّين على عنصر المفاجأة الجميل، الذي يميز عادة كل إبداع جديد وغريب. وكلما أخلصَ مارسيل لذاتيته، ويواصل تفادى الاستجابة الساذجة (التي يعيها جيداً) لما كرّسته الأعمال الغنائية السائدة، تسنى له أن يؤكد إخلاصه للأفق الذي يذهب إليه. وإذا كان عمله الذي سيتبع (جدل) سيكون بعنوان ( الجسد)، حسب ما أعلن، فسوف يطيب لنا الحلم بأن (الجنون) سيكون عمله اللاحق.

غير مرة، كان مارسيل يؤكد في أحاديثه، بأن الموسيقى كانت هدفه الرئيسي، وأن ولعه بالشعر وتأليفه الموسيقي للنصوص الشعرية التي ينتخبها، لم يكن كله إلا طريقاً خاصة للوصول إلى الموسيقى. وهذا بالضبط ما يقترحه علينا (جدل). وقد لمس مارسيل الاتصال الحميم بين (جدل) والجمهور، دون قلق لغياب الغناء. واطمأن مجددا إلى أنه كان طوال الوقت يذهب إلى العنوان الصحيح. وفي البحرين كان العنوان واضحاً منذ سنوات طويلة. وحين كان يعزف موسيقاه، كان يقود الجمهور، في مواقع كثيرة، إلي شفير الغناء دون أن يغني. وفي هذا ملمحٌ واضحٌ من قدرة (جدل) على الاتصال بالكوامن الخفية لذائقة الجمهور العربي المتذوق متسلحاً بالذاكرة، كما اشتغل، بناء على ذلك، من أجل تنشيط المخيلة. فليس صدفة أن يختار مارسيل خليفة ثيمات لأغنيات تراثية مرصودة ومطمئنة في ذائقة الجمهور، حتى أنك تستطيع أن ترقب الأجساد وهي تنداح عند تألق هذه الثيمات بتوزيعها الجديد، وتكاد تسمع وجيباً يصل إلى حدود البوح بالكلمات، ولكن سرعان ما ينتشلها مارسيل بشطحٍ مباغتٍ بعيداً عن الثيمة، كاسراً شهوة الطرب، ذاهباً بالأفئدة نحو الأفق المبتكر، فتنتفض الأرواح في الصالة أمام سواطع غير مألوفة من حوار الأعماق. وإذا كان التأليف لآلتي العود هو الأساس الذي يقوم عليه (جدل)، فإن المشهد الشامل للعمل يتجاوز ذلك، فتكاد تصدق بأن ثمة جوقة تضاهي الأوركسترا تنهض نشيطة بمرافقة الباص والرق. فيغيب عنك الوهم لتتأكد بأن الحلم أكثر جمالاً من الحياة. هل كان في ذلك لعبٌ ذكي على ذائقة التطريب السالفة؟ وهل في ذلك أيضاً تأكيد أراده الفنان لكي يذكّر المستمع أن النصَّ لم يغادر الموسيقى الشرقية كعناصر أولى قابلة للمزيد من المبتكرات اللانهائية؟ وهل كنا جميعاً برسم جنة موعودة لا نريد لها الفقد ثانية؟ أم أن إزالة الصدأ عن الروح وصقل أعضاء المخيلة مهمة مستحيلة؟ إنني أسأل فحسب، فلابد أن هناك مختصون يدركون ذلك أكثر مني، خصوصاً إذا توفر لنا من يتأمل العمل الموسيقي الحديث، بوصفه طريقة حياة جديدة تحسن صقل الجذوة المتألقة والكامنة في التراث، إن كان تراثاً حديثاً أن قديماً.


لم يكن الحوار (لماذا عنوان جدل يأخذنا دائما إلى فعل الحوار) بين آلتيّ العود استعراضاً لطاقات العزف بين عود مارسيل خليفة وعود شربل روحانا. وإذا سلَّمنا بوضوح المسافة الفنية التي يشطح بها عود مارسيل، فإن عود شربل روحانا لم يكن عوداً آخر، ولا رديفاً ولا ظلاً لغيره، لكنه كان روحاً عميقاً مضاعفاً يتصاعد، على طريقته، في المواقع التي تجعل الاشتعال متاحاً، لكي يضيع على المستمع التمييز بين العودين. من هنا أحبُ أن أرى في (جدل) حوار أعماق بين الأرواح كلها. ففي لحظات التفجرات الروحية سوف تفاجأ بالرق (مع علي الخطيب) يتناوب على الحضور، أحياناً مثل طَرقٍ خجولٍ على باب أبديةٍ متخيلة، وأحياناً يمكن أن نرى الرقَ فراشة نارية أو قمراً مرتعشاً، وحيناً تسمعه مثل جرس الأساطير، وغالباً هو العرس الذي يقود الموكب نحو الفرح والحزن معاً. وفي خلال ذلك كله عليك أن تصغي عميقاً لكي تلامس حواسَ الحارس الذهبي الذي مَثَّله (عبود السعدي) على الباص، حتى عندما يظنُّ البعضُ بأن صوت الباص كان بعيداً، فقد كان إيقاع الباص مثل قنديل يضيء خطوات الموكب الرباعي. في (جدل)، ثمة ذروات عديدة، تقربنا مما يشبه البناء السيمفوني دون إدعاء ذلك. فالنسيج والتقميش، بالآلات الأربع، لعناصر وثيمات (تتراوح بين الذاكرة والمخيلة) يتطلب منا أن ننتبه دائما إلى العزف القادر على الانتقال من حالة المرارة، حيث الواقع التراجيدي الذي يتجرعه العربيُّ في هذه اللحظة الطويلة، إلى حالة الأمل والفرح المتصلتين بأحلامنا المغدورة، وهي تحاول الخروج، بطاقاتها الذاتية المصادرة طوال الوقت، من مشهد الانهيارات الشامل. فالموسيقى هي حياتنا الخفية الغامضة في الأقاصي، حيث لا نكون صادقين إلا هناك.

وثمة تناوب مدروس، بين استقصاء العناصر المكنونة في ثيمات التراث من جهة، والحفر في تلافيف أعمال مارسيل المألوفة من جهة أخرى، وبين الخروج على تلك النصوص والشطح الحُر نحو الآفاق الجديدة والمبتكرة. وربما كان جوهر الجماليات التي ينشأ عليها (جدل) يتمثل في هذه المعادلة الفذّة بين جميع هذه العناصر. وإذا استعنا بالتوصيف الشعري الذي يسعف أحياناً، نستطيع القول بأن مارسيل خليفة، فيما يفجّر طاقات آلتيّ العود الموهوبتين، كان يَـزِنُ النصَّ أحيانا وأحياناً ينثره. وفي هاتين الخاصيتين (بوصفهما بُنىً إيقاعية غاية في الغنى والتنوع) يكمن المنجم الذي تنهل منه الشعرية المعاصرة. وظني أن التقاطع الحميم بين تجربة مارسيل الموسيقية وعشقه للشعر العربي، ساعد على جعل فعاليته الفنية مفتوحةً على الجماليات التعبيرية كلها. حتى لكأنك تشكّ أنه (يستغل) الشعر بسبيل الذهاب إلى الموسيقى. بهذه الصورة ربما نستطيع الاقتراب من الطبيعة الجمالية التي لابد للشعر الذي يتولع به مارسيل قد ساهم (بشكل ما) في صياغة المنظور الفني لبنية (جدل)، دون أن يتنازل الفنان عن طبيعة العمل الموسيقي.


كأن مارسيل في (جدل) يريد للآخر أن يذهب معه إلى التأمل، وأن يجرّب قول الأشياء بلغة غير الكلام. أن يقولها بالموسيقى والصمت في آن واحد. فالانهيارات (موضوعاً وذاتاً) التي اجتاحتْ، بجنون فذّ، حياتنا في الهزيع الأخير، استدعت (جوهرياً) إعادة إعراب الكلام كله. ذلك الكلام الذي توهمنا صياغتنا له، فإذا به كان يصوغنا على هواه. وفيما كنا نسمّي نجمةَ ذلك الكلام حلماً، تسنى (أو كاد) لغيرنا أن يجعلوه الوهم الشامل، ولفرط تشبثنا بأحلام روحنا، وجدنا في تجارب إبداعية نادرة، مارسيل خليفة في مقدمتها، تقترح علينا شرفة مفتوحة على الآفاق، وفسحة تقوم على آلية الجدل العميق، لكي لا نتيح لشهوة تلك الانهيارات جَرفنا معها. فعل الجدل هنا، هو إذن وضع الكلام كله في حضرة الصمت الفصيح، الصمت الفعال، لمعرفة أيهما يقدر على مجابهة المستقبل ومجاراة جمرة الحلم الدائمة (لكي لا أقول الثورة الدائمة). من هنا أحبُ أن أرى في (جدل) نزوعاً نحو بسالة أحلامنا، وأرى فيه أيضاً إشارة صريحة (رغم غياب الكلام) مفادها أننا لم نكن (في العمق) على خطأ في أحلامنا، وأن إعادة إعراب الكلام كله، لا يعني خطيئة النص. لذلك فإن المسافة الفنية التي يحققها مارسيل خليفة في (جدل)، هي فعل امتحان لنص أحلامنا خصوصاً، مقروءاً في ضوء تفجرات الروح الخارج من عذابات لا تخلو من عذوبة ما. فبعد تجربته الطويلة، التي استغرقت كلاماً كثيراً ونصوصاً زاحمت الموسيقى وكادت أحياناً أن تحضر قبلها، يعمل مارسيل خليفة الآن على وضع الموسيقى وحدها على الطاولة. والأرجح أن (جدلاً) على هذه الشاكلة، من شأنه أن يعلن عن تطلبات موغلة في التعقيد والتحدي، كأن على الموسيقى وحدها أن تقول أحياناً أكثر مما يقوله الكلام معها.

حتى عندما غنى مارسيل بعض أغنياته للجمهور الذي طال به العطش، يحق لنا الزعم بأننا استمعنا هذه الأغنيات، هذه المرة، كما لم نسمعها من قبل. فحين بدأ في أغنية (ريتا) و(أحنُّ إلى خبز أمي) مثلاً، تحولتْ القاعة إلى ما يشبه الكاتدرائية، حيث تحولتْ مشاركة الجمهور، بقيادة مارسيل، ضرباً من التراتيل الكنائسية المشغولة برهبة الصوت الجماعي وتنظيمه العفوي وخشوعه النابع من الأعماق. ولك أن تتخيل شعباً كاملاً يطلق كلمة ( آه ) عميقة تطفح حزناً شفيفا، كأنه يبوح عن جراحٍ تراكمتْ سنين طويلة، ليأتي مارسيل خليفة ويعمل على إطلاقها. يحقُّ لنا أن نقول شكراً لمارسيل لأنه جاء، ليس لكي نستمع إلى موسيقاه الجميلة فحسب، ولكن، خصوصاً، لكي يسمع نشيج قلوبنا ويطلق نحيب أرواحنا المكبوت. فقد كنتُ أسمع، بوضوحٍ كامل، شهقات بكاء مخنوق يشغل المقاعد من حولي. لقد كان البكاء حقاً دون أية مبالغات. وهذا ما يضيف شعوري بأن ثمة حوار أرواح كانت القاعة (طوال ثلاث ليال) تكتظ به وتفيض. جاء مارسيل ورفاقه إلى البحرين وزادوها بحاراً أخرى. فالموسيقى يمكن أن تؤثر على الفيزياء أحياناً. *


 
 
السيرة الذاتية
الأعمال الأدبية
عن الشاعر والتجربة
سيرة النص
مالم ينشر في كتاب
لقاءات
الشاعر بصوته
فعاليات
لغات آخرى