محمود درويش
ريشة في مهب أرواحنا
ربما نكون قد اكتشفنا فلسطين (مثل منجم أحلام لتأثيث مشروعنا الإنساني)
من خلال شعره، أكثر مما عرفناها من خلال أدبيات السياسة والعمل النضالي.
هذه هي اللحظة الحاسمة التي وضعت محمود درويش في مهب أرواحنا. نحن
الجيل الذي ولد مع ولادة فلسطين لكي تشكل مكوناً أساسياً من جغرافية
الروح العربية. هذا الجيل الذي (في معظمه) لم يكن قادراً على معرفة
التخوم الواضحة بين تجربته السياسية وعمله الإبداعي. وفيما كنت في
الاحتدام نفسه الذي تفرضه علينا طبيعة التجربة ذاتها التي يصدر منه
محمود درويش (بالمعنى الانهماك في العمل السياسي المباشر)، علمتنا
التجربة أن ثمة دورا يتوجب على الشاعر أن لا يتنازل عنه، وهو دور السؤال
الإبداعي. و كنت أرقب محمود درويش عن كثب لكي أرى إلى أي حد يستطيع
أن يساعدني (من حيث لا يقصد على مجابهة شهوة النضال في امتلاك الشاعر
ومصادرته أحيانا. أظن أن واحدة من أهم إسهامات شعر محمود درويش تتمثل
في اقتحامه المشهد الأدبي بالنص الشعري المتصل بفلسطين بوصفها الحلم
العربي بامتياز. وكان هذا يتقاطع (عمقيا) مع مجمل التجارب الفردية
للعديد من الشعراء العرب من جيله. وظل محمود درويش، عبر مراحل حياته،
يجسد الصراع غير المعلن بين السياسي والثقافي الذي لم يكن وقتها مقبولا
الكلام عن مجرد التمييز بينهما. وحين كان درويش المرشح العلني لأن
يكون ضحية السياسة إنسانياً، ويوشك دائماً أن يكون ضحيتها شعرياً،
سوف يقدر، بموهبة الميزان، أن ينقذ النص أولاً من براثن السياسي، كذريعة
(لا رادّ لها) ليلحق به الشخص مستغرقاً بحريات الشاعر التي لا تضاهى.
كنتُ سميتُ محمود درويش ذات مناسبة (ميزان الذهب)، عندما شعرت به يتقدم
برشاقة (غزالة المقاومة) -وهذا التعبير لمحمود- مجتازاً الأشراك المنصوبة
لخطواته. ودائما كان درويش يخرج من الامتحان منتصراً (كشاعر) على السياسي.
في سياق التجارب الشعرية العربية المعاصرة، تقدم تجربة درويش نموذجاً
صادقاً لإخلاص الشاعر وقدرته على الانتصار دائماً على ملابسات الواقع
السياسي الذي يتورط فيه معرضاً لضغوطات مركبة ليست على صعيد علاقته
الموضوعية بالمؤسسة الفلسطينية الرسمية فحسب، ولكن خصوصاً (وهو الأخطر)
على صعيد القراء (وفي حالة درويش يمكن وصفهم بالجماهير) الذين أدمنوا
على تعاطي محمود درويش بوصفه الصوت (السياسي) للثورة الفلسطينية وليس
باعتباره الجوهر (الشعري) للحلم الإنساني. حتى لكأن ثمة نوعا من التماهي
السلبي أحياناً يبالغ في تغييب حرية المخيلة عند الشاعر في سبيل خضوعه
للشرط السياسي اليومي والطارئ. وعندما كان درويش يبدو متقمصاً هذا
الدور فانه كان صادقاً في تلك اللحظة، غير أن يقظته المتحفزة سرعان
ما تستعيده لكي يخرج من وطأة تلك الضغوطات ويخرج عليها، حتى وإن تطلب
ذلك شيئاً من الاحتدام الحميم مع جمهور القاعة (كما حدث غير مرة) مرسلاً
إشارة واضحة بأن ثمة حرية الشاعر التي يتوجب على القارئ أن يعبأ بها
ويكترث، لئلا نقول بأن على القارئ أن يدرك حقاً بأن الشاعر ليس موظفاً
في مؤسسة القارئ. من هذه الشرفة، ستبدو تجربة درويش منسجمة مع ذاتها،
وتتأكد قدرته على اجتياز المراحل متشبثاً بذاته الإنسانية وشخصيته
التي تميزه عن شخصية المؤسسة السياسية الرسمية. والذين يتابعون التحولات
الجمالية التي تحدث في قصيدة درويش في السنوات الأخيرة، سيدركون أن
هذا الشاعر يتقن تصعيد حالته الإنسانية بصورة تتيح له حقاً وضع تجربته
الذاتية في سياق أكثر رحابة من حدود الخطاب الصارخ، صادراً من جذوته
الأولى المتصلة بالحب. الحب الذي ظل متوارياً يتفلت في نصوص متفرقة
في مجمل أعماله السابقة. فمحمود (لمن يتذكره جيداً) بدأ في نصوصه المبكرة
يعبر عن درجة صريحة من شفافية العاشق، (حتى أنه قدم نفسه لنا مبكراً
بوصفه (عاشقا من فلسطين)، سرعان ما غيب انهماكه المباشر في المسؤولية
السياسية ذلك الشغف والنزق العاطفيين الذين يمكن أن يدفعاه للتصريح
بحب فتاة في معسكر العدو في صيغة متماهية من هجاء السلاح، وهذه إشارة
مبكرة للنزوع الفطري عند الشاعر، إشارة لم يتوقف عندها أحد كما أعتقد.
حيث الشاعر أساساً هو رسالة حب عميقة إلى العالم، وليس آلة قتل كما
يحاول الكثيرون أن يختصروا الشاعر في حدود الدور الذي يمكن أن يقوم
به الآلاف من المقاتلين في ميدانهم. وإذا كنا قد أدركنا ذلك متأخرين
فإننا غير نادمين على شيء قدر حسرتنا على فشلنا في إقناع القارئ بالنص
وليس رشوة القارئ به، ولعل التجربة الشعرية الكثيفة التي اختبرها محمود
درويش منحته كل هذا الغنى والتنوع الذي جعله قادراً على تكوين لغته
الخاصة المتميزة في الكتابة العربية (شعراً ونثرا)، وسلحته أيضاً بشجاعة
القادر على مقاومة سلطة القارئ، والتصرف بحرية عندما يتعلق الأمر بالشعر.
فبعد (لماذا تركت الحصان وحيداً) صار على القارئ أن يتهيأ لمحمود درويش
الآخر، المكبوت والأكثر جمالاً، محمود شاعر الحب المؤجل طوال الوقت.
وإذا كان الشاعر العربي عموماً قد ظل يعاني الحرمان من البوح بالمشاعر
الإنسانية الحرة كالحب والعشق (بسبب الأوهام الأيديولوجية)، فإن الأمر
في حالة درويش يتفاقم للدرجة التي تجعل تحوله إلى تجربة (سرير الغريبة)
تعبيراً مهماً عن الإخلاص الطبيعي لجذوة الشعر في الشخص الإنساني.
وإذا كان البعض لا يزالون يتشبثون بشاعر القضية (كخطاب سياسي)، فانهم
يحرمون أنفسهم (بدورهم) من اكتشاف الجمالات اللامتناهية التي يصعد
إليها الشاعر دون أن يتخلى عن حلمه الإنساني، ودون أن يفرط (هذه المرة)
في ذاته بوصفها جوهرة المراصد التي ترى إلى الأفق الرحب ولا تقف في
حدود الأفق الحديدي الذي تقترحه المشاريع السياسية. في (سرير الغريبة)
يعلن درويش ثورته الجميلة هذه المرة. ويتوج تجربته الشعرية التي تأسست
بما لا يقاس من المعاناة (على كل صعيد) بالكتابة التي تمنح الإنسان
حريته الأجمل. وعطفاً على ما أشرت إليه في البداية، فإن علاقتي بتجربة
محمود درويش، بوصفه ريشة في مهب أرواحنا، تدفعني إلى الشعور بأنه الآن
يجعل هذه الريشة أكثر زهواً و رأفة بحبنا العميق له، كشخص (شهقنا له
بالقلب عندما تعرض لمحنة المرض)، وكشاعر اقترحَ على القصيدة العربية
نكهته الخاصة الزاخرة بالمكتشفات. لقد تحققت تجربة درويش في المشهد
الشعري بصورة لا تتعرض للالتباس. لأنها واحدة من التجارب الشعرية العربية
التي لا يستطيع أحد تقليدها دون فضيحة.
(نص كلمة نشرت في ملف خاص عن محمود درويش في مجلة (الشعراء) برام
الله.
|