العربي باطما
هل تذكرون (ناس الغيوان) ؟ تلك الفرقة الغنائية التي طلعت من المغرب
العربي واجتاحت العالم، بنوع مدهش من الغناء الشعبي. لقد كانت هدية
الثمانينيات إلى العالم. واحدة من أجمل التجارب الموسيقية الجديدة،
التي كانت تحاكي نزوع الشباب نحو الموسيقى والغناء المختلفين. هل تذكرونها
؟ لقد غابت أخبارها في السنوات الأخيرة ولم يعد يصلنا جديد منها. حسناً،
ليست لدي أخبار سارة عنها. وعلى من أحب هذه الفرقة أن يعذرني لاستعادة
غير سارة. وليعتبر الأمر نوعاً من الإخلاص لتجربة فنية وإنسانية تولعنا
بها كتجربة لافتة. لم تعد الفرقة، موجودة، بالمعنى الفني. صارت في
كتاب الذاكرة الجميل، ليصبح الأمر شيئاً من خسارات كثيرة، نصادفه في
تجارب مشابهة. غير أن الخسارة هذه المرة فادحة، للسبب الذي جعلني أعود
معكم لهذا الخبر. لقد استحضرت تجربة (ناس الغيوان) في الأيام الأخيرة.
بعد أن قرأت كتاباً جارحاً من تأليف )العربي باطما( قائد (ناس الغيوان).
لا. ليس كتاباً، أنه وصية شخص يحتضر ويكتب شهادته.
دفتر الذاكرة / 1 :
(أصيلة) المغربية. مساء ساحلي، في المسرح المفتوح على البحر. في حضن
الكتف الحجري الرحب، حيث ينتظر جمهور من قارات العالم فرقة ناس الغيوان
التي تشارك، للمرة الأولى، في مهرجان أصيلة. وقتها كانت الفرقة في
أوج شهرتها وانتشارها الفني. وعندما تدفق أعضاؤها على المسرح الشاسع،
كان الجمهور قد بلغ ذروة انتظاره. وضجّ الجمع لاستقبال الفتية المغاربة،
الذين أسرعوا مثل أطفال يبحثون عن آلاتهم المنثورة على مسرح الحجر،
الذي اختلط فيه النص بالمتن، الجمهور بالطبيعة بالبحر باللغات. طارت
أحداق الفتية المغاربة تحتضن الجمهور فيما يعانق كل منهم يختبر آلته
: السنتير / لوتار/الرباب/ الطبلة/ الهراز/ الهجهوج/ والبوزق. ساعتها
كنت أجلس (هل يمكن أن نسمي ذلك جلوساً ؟) فرحاً لأنني سأشاهد هذه الفرقة
للمرة الأولى. (وكانت الأخيرة). وبعد دقائق امتزج الحضور الكبير بالإيقاع.
وسرعان ما تسرب الإيقاع إلى أجساد جاءت من أصقاعها البعيدة. وبدأ الرقص.
لم أشهد عرضاً مثل ذلك الليلة على الإطلاق. فأنت لا تستطيع أن تمنع
حواسك وأعضاءك من الذهاب إلى ما تقودك إليه إيقاعات ناس الغيوان. فوجدت
نفسي ضائعاً في رقص جماعي غامض. أنا الذي لم أعهد رقصاً طوال حياتي.
في تلك الأمسية رأيت العربي باطما. وفي مساء اليوم التالي تعرفت عليه
شخصياً في مقهى الصيادين القريب من المسرح نفسه. وعندما أخبرته بما
حدث لي في حفلة الليلة الفائتة، صرخ بعمر السيد صديقه في الفرقة، الذي
كان على الطاولة : (اسمع يا عمر، سي قاسم كان يشطح معنا). كان العربي
شعلة من الضجيج الباهر. ولم يكن ذلك اللقاء الخاطف كافياً لأن أتعرف
عليه جيداً. فقد كانت الجلسة القصيرة، تتخطفنا بأطراف موضوعات محببة
إلينا.
دفتر الذاكرة / 2 :
باريس. ذات سهرة من عام 87. منزل الصديق الشاعر المغربي
عبداللطيف اللعبي. أيامها كانت فرقة ناس الغيوان قد فرغت توا من حفلاتها
في فرنسا، مستعدة لجولة أخرى في مكان آخر من أوربا. كان اللقاء من
مصادفات الأرواح الشريدة. كنا نسهر مع بعض الأصدقاء عند اللعبي، دق
جرس الباب. ودخل العربي باطما وعمر السيد. بعد دقائق تذكر العربي (أنت
الذي شطحت معنا في أصيلة؟) وفقع الحضور بالضحك. علّق أحدهم بأن العربي
يمكن أن يعرف جمهور حفلاته شخصياً. وعلق شخص آخر بأنه شاهد حجراً تدبّ
في حركة الرقص في إحدى حفلات ناس الغيوان. وفي تلك السهرة الشتائية
النادرة أتيح لي، أكثر من اللقاء الأول، أن أتعرف عن كثب وبحميمية
(يحسن الصديق اللعبي أن يهندسها لأصدقائه) على تجربة الفرقة فنياً
وفكرياً، وأقترب من الجانب الإنساني الذي يمنح الفرقة ملامحها الشعبية
من جهة والحضارية الملتزمة بالقضايا الإنسانية من جهة أخرى. وهي أسباب
جعلت ناس الغيوان تقترب من قلوب المساحة الواسعة من ناس العالم في
أشتات مختلفة من الشعوب واللغات والقارات. ليلتها طرح عبداللطيف اللعبي،
بوصفه صديقاً لتجربة الفرقة، بعض الملاحظات الفنية والفكرية، جعلت
السهرة جديرة بفضاء الروح، لفرط الروح الديمقراطي الذي تميز به الحوار،
حيث امتزج حب من كان يحضر السهرة برغبته في استمرار الفرقة بشكل أكثر
تطوراً وجمالاً. ولولا أننا كنا نميل إلى سهرة بعيدة عن ضغط الحياة
اليومية، لكنا توفرنا على ندوة فكرية نادرة. ليلتها، كان العربي متألقاً
كعادته يدير الفوضى الطفولية بصورة محببة. ليلتها، كان العربي يقود
السهرة بمهارته الإيقاعية، وكانت أشياء المكان عناصر للإيقاع. ليلتها،
تحدث لنا العربي عن أكثر المواقف طرافة وهو ينتقل في خريطة الناس.
ليلتها، فتح لنا العربي الشطح على آخره، وحين أوشكنا على الترنح، أهدى
لنا الأغنية. ليلتها، لن يكون بوسعنا أن نصدّق أن فتى مثله يمكن أن
يكتب كتاباً مثل (الرحيل ). ليلتها، كنا نستطيع أن نلمس الأفق الشاسع
الذي يذهب إليه العربي بأحلام لا تحصى. ليلتها، أخذنا العربي باطما
إلى ناس الغيوان ولم يعد.
فيما كنت أقرأ كتاب (الرحيل) تفاديتُ رغبة البكاء مرات كثيرة، وأجهشت
أكثر من مرة في بعض الصفحات، لئلا أكبت حباً جارفاً لا يمكن تفاديه
لهذا العربي. يبدأ العربي باطما سرد حياته منذ ولادته حتى إصابته بالمرض
الخبيث، مع استعادة مؤثرة لتجربته في تأسيس (ناس الغيوان)، بعد أن
اجتاز عدداً من التجارب الفنية في العمل المسرحي. كل ذلك بأسلوب غاية
في البساطة، حتى أنك يمكن أن ترقب طفلاً يحكي قصة يؤلفها ارتجالاً،
وهو في ثنايا السرد سوف يسوق بعض الشعر الشعبي من تأليفه. فهو غالباً
كان يضع نصوص الأغاني للفرقة. ولعل أبرز ما استوقفني واستثارني حديثه،
المشحون بالشجن والصدق، عن أصدقائه. فهو يعتني عناية ملفتة بالحديث
عن الأصدقاء، منذ طفولته حتى الأيام الأخيرة، مروراً بالتجربة المريرة
التي خاضها في عمله بفرقة (ناس الغيوان) التي تعرضت للكثير من الصعوبات
أثناء تأسيسها وطوال عملها.
(أنا لم يبق لي الحق في الأمل). هكذا يقول العربي باطما في كتابه.
وفيما أكتبُ هذه السطور، لا أعرف عن أخباره شيئاً. وعندما التقيت بالصديق
عبداللطيف اللعبي في القاهرة الشهر الماضي قاومت رغبة جارفة للسؤال
عن العربي، خشيت أن أكون أضعف من الموقف الذي سأذهب إليه مع اللعبي.
لكنني في غمرة انهماكات عائلية تتصل بالمستشفيات والعلاج وغير ذلك،
وفيما كنت أقضي عطلة رأس السنة في هذه الأجواء، تذكرت العربي باطما،
وعدت سريعاً أعيد قراءة كتاب (الرحيل )، (وهو كتاب لا أنصح أحداً بقراءته)
لكي أصل إلى هذا المقطع الذي سأختم به كلامي. ففي مثل هذه الأيام.
قبل عامين بالضبط، كتب العربي باطما هذه الكلمات: (أبدأ الآن كتابة
طي ضلوعي القبيح. لازالت بعض الدقائق القليلة لموت سنة 1994. أنا الآن
وحدي في البيت. بعض الناس من الجمهور يتمنون لي من خلال الهاتف سنة
سعيدة. يقولون : (آلو. أرد : آلو / شكون. /يجيب : أنا معجب بناس الغيوان،
وأتمنى لكم سنة سعيدة ) أتصور أنا سنتي القادمة. أي سنة 1995. صمّمت
على أن أبكي. عند إعلان الثانية عشرة ليلاً، فربما إن استقبلتها بالبكاء،
قد يكون فيها شيء من السعادة. هذا إن عشت، فمريض مثلي مصاب بمرض خبيث
لا يمكن له إلا أن يتصور ويتحدى الموت في كل دقيقة.فعندما كنت أنام
فيما مضي، أي في السنة الماضية. أقوم في الصباح أقول، بل أسأل نفسي
: هل أنا لا أزال حياً. إنها رأس السنة. في التلفزيون شباب يهنئ ويقدم
أغاني واسكتشات، في الشارع آخرون يتصايحون فرحين. الآن أبكي. وقد أعلنت
الساعة دخول السنة الجديدة 1995. كم من شخص الآن في العالم قبّل صديقته
أو حبيبته أو أخاه، مهنئاً إياه. أنا قبّلتني دموعي. كم من عشيق عانق
عشيقته. أنا عانقت دموعي. أنا. أنا الآن شيء ينتظر الموت. ويعلم بأن
الكل ينتظر قدومه، لكن الفرق بيني وبين الكل، هو أنني أعرف مرضي القاتل،
والآخرون لا يعرفون)..
تذكرت هذا المقطع خصوصاً، لكي أتخيل ما الذي حدث للعربي باطما في
رأس هذه السنة.. لا أعرف. وللحق لا أريد أن أعرف. فالأمر لم يعد يحتمل
التصور، فكيف يمكن تفادي الحقيقة. يا العربي باطما. يا صديقنا على
مبعدة. أياً كانت الحالة التي تعيشها، نبعث لك من عشاق ناس الغيوان
في هذه المنطقة من العالم، حباً، وتمنيات حميمة بألم أقل... في الحياة
والموت.*
|