له حصة في الولع
نثر مائل وشعر وشيك

مؤسسة الانتشار العربي
لوحة الغلاف : عبا يوسف - البحرين

 

7 - أطفئ قناديلك يا مجنون

تنصير شمه، صاحب العود
البساطة المستحيلة

يقف في ضوء صغير على خشبة المسرح. بزته البيضاء الناصعة تقدمه لنا بوصفه قرنفلة مقطوفة تواً. نظن أنه يستعد لحفل زواج. ينحني في تحية مثل الأطفال وهم يتظاهرون بعدم الخجل في حضرة الناس. الصالة ليلتها لم تكن مكتظة بالناس، كانت كائنات مأخوذة لمجهول جديد تتعرف عليه للمرة الأولى. يتواصل تصفيق الترحيب به بعض الوقت، فلا يكف عن الوقوف والانحناء. نظن أننا سنقضي الليلة في تبادل التصفيق والانحناء. يلتفت ناظراً إلى خلفية الخشبة المشحونة بسواد مبالغ فيه. يهم بالجلوس، لكنه يعود ثانية واقفاً، يتقدم بعيداً عن لاقط الصوت قريباً من الصالة، كأنه يريد أن يسرّ لنا شيئاً خاصاً. وبصوت شبه ساحر، شبه مسحور، يدعونا لدقيقة من الوقوف الجماعي الحزين على روح أستاذه منير بشير الذي غادر العالم في اليوم الفائت. تأكدنا أن نصير شمّه كان يمعن في الحزن بارتدائه بياضاً ناصعاً إلى هذا الحد(اليابانيون يعتمدون الأبيض للحداد أيضاً). يريد أن يعبّر عن إخلاصه لأستاذه الفذّ على طريقته. والحق أنها طريقة راقت لمشاعرنا المختلطة، حزننا العميق على الموسيقي العراقي الذي ترك بصماته وأصابعه وكفيه كاملتين على طاولة الموسيقى العربية وذهب. وفرحنا بنصير شمهّ الذي يتناول كل هذه الأدوات والأعضاء والمشاريع من الطاولة ويواصل الطريق. ليلتها، شعرنا أنه قد فعل ذلك حقاً.

هذا شخصٌ يعزف على العود، فتخال أنه يضع قطعاً نادرة من عود البخور على النار ليشيع العطر في المكان. وربما كانت هذه النار هي نار القلب خصوصاً. كأنه يمتزج بالآلة، كأنه الآلة، كمن يمنح الخشبة حياة هي حياته خصوصاً. فلا تكاد تميز حدود جسده من حدود آلة العود، بل أنك لا تستطيع الزعم بأن الموسيقى صادرة من الخشبة فقط دون الجسد. بهذا الشكل يتوجب علينا أن نتعرف على نصير شمّه وهو يداعب عوده الفاتن، وبهذا الشكل فقط يتاح لك أن تبرأ من مسؤولية وصف ما لا يوصف. فقد تلاعب بأرواحنا على هواه في تلك الصالة التي كانت تصغي بقدر كبير من الحنين، خلتُ أن الحضور يستمع للعود بصورة لم يعهدها من قبل، أوكأن عليه أن يجتاز مسافات طويلة أبعدته عن هذه الآلة طوال السنوات الماضية، لفرط التشويش الموسيقي السائد الذي يفتك بالعود كما لو أنه طبل قديم يجري استخدامه، وليس الاحتفاء به ومداعبته. نصر شمّه في البحرين اتصلَ بالأرواح النادرة التي استحوذ العود على موهبتها، فتصاعد معها وتألق من جهة، ومن جهة أخرى ساعد على صقل ذاكرة القطاع الأكبر من الجمهور بأن ثمة آلة شرقية غاية في الجمال تدعى العود، كان قد بالغ الكثيرون في إهمالها وركنها في أطراف التخت.

كل المقطوعات التي قدمها لنا تلك الليلة من تأليفه. وهو أخذنا إلى عوالم زاخرة بالفرح والألم و الحزن والقتل والطفولة والتوق إلى الحرية والكرامة دون أن يعلن ذلك شعاريا. فالموسيقى كانت من السمو بحيث تذهب مباشرة إلى الشغاف بلا استئذان وبخفة العشيق مأخوذاً بعشقه. لقد كان نصر شمّه ليلتها مصرا على الإخلاص لكل العناصر الحيوية التي مسّها، الحياة والفن خصوصاً. وليس سهلاً في مثل هذا الواقع المشوّه أن يحافظ فنان على هذا الشرط دون أن يتميز بالموهبة والوعي والمعرفة في آن واحد. وما يجعل المشروع الذي يتصدى له نصير شمّه مشوقاً وجديراً بالثقة والاحترام، أن الفنان لم يزل في ريعان شبابه وانطلاقته الفتية. وهذا ما جعلني شخصياً أرى في خشوع نصير شمّه أثناء صلاته على روح أستاذه منير بشير دلالة عميقة وجميلة في آن واحد. فليس مثل احترام درس التراث في الجوهر دليل يمكن أن يمنح الثقة في التلميذ الموهوب إلى هذا الحد. وإذا علمنا أن نصير شمّه هو أحد أحدث أساتذة العود في غير جامعة عربية، سنتأكد من المعنى الحقيقي والفعال لتواضع المبدع في حضرة الفن. وإذا علمنا أيضاً أن نصير شمّه أمضى أربعة أيام من الأسبوع الذي أمضاه في البحرين، عاكفاً على إدارة ورشة مكثفة لتدريس جانب من الموهوبين في عزف آلة العود من شباب البحرين، سنعرف أنه يشير إلى الرغبة التي تصدر عن الناسك الذي يريد أن ينقل معرفته إلى مريديه حتى في أضيق الأوقات وأندرها، ربما لأنه يدرك بأن الفن الأصيل هو الذي يقدر على الانتقال إلى الأجيال الأخرى لكي يظل متألقاً ومتصلاً مثل نار القرابين.

لقد تعرفنا في ليلة نصير شمّه على الأفق الجديد الذي يفتحه أمام أقرانه من الموهوبين في الأرض العربية. وهو، فيما كان يعزف، كان يمتزج بالحضور بصورة رائعة، بحيث نكاد نسمع دقات الأوتار في الأصداء المتصاعدة ومتخللة الأجساد والأرواح في الصالة. وعندما وضع يداً وحيدة لمداعبة العود، خلنا أنه يشرع في لعبة البهلوان مستعرضاً علينا، لكننا سرعان ما أدركنا أنه يقترح طريقة مبتكرة من العزف قابلة للنقاش الجاد من قبل الذين يتصلون بهذا الفن خصوصاً. فليس في الأمر حذلقة ولا بهلوانية، إنما هي رغبة في اكتشاف الطاقات اللامحدودة التي تتيحها هذه الآلة أمام المبدع، مادام قادراً على الدرس مسلحاً بالموهبة.

شكرا لنصير شمّه لأنه منحنا المتعة التي نحب ونحتاج، وشكرا له أضعافاً لأنه جاء لنا في اللحظة المناسبة، حيث يتماثل جيلٌ بشهوة المستقبل، وهو يكاد أن يضيع في أدغال غابة من الانحدار (لكي لا أقول الاندحار) الفني الذي تروّجه لنا وسائل إعلام لا ترى في الفن سوى تدمير التراث وتشويه المستقبل. شكرا لنصير شمّه لأنه كان معنا بهذه الدرجة من الحب والفن والأمل.*

 
 
السيرة الذاتية
الأعمال الأدبية
عن الشاعر والتجربة
سيرة النص
مالم ينشر في كتاب
لقاءات
الشاعر بصوته
فعاليات
لغات آخرى