نزار قباني
البساطة المستحيلة
تعرف أنك ستموت، لكن حين يحدث ذلك يكون مفاجئاً، ولحسن الحظ إنك ساعتها
لا تكون موجوداً. وحين يحدث ذلك، خصوصاً، لشخص تحبه، يكون الحدث بمثابة
الصاعقة، لكونك موجوداً خارج الحدث، ومتلقياً هشاً له. لذلك أشعر بأن
الموت هو قدر غير عادل، خصوصاً إذا وقع على الشعراء. يمكننا تفهم الموت
حين يحدث للبشر العاديين، لكن أن ينال شاعراً، فهذا ضرب من العبث الذي
يتوجب... عدم تأمله. وفي هذا ما يدفعنا إلى الشك في ما يقال عن خلود
الشعراء، فماذا يعني أن يبقى الشعر ويموت الشاعر؟ ثم، لماذا يبدو الشاعر
قوياً أمام كل شيء فيما عدا الموت؟ لماذا يكون الموت باباً يمرّ فيه
الجميع، أليست هناك استثناءات يخصّ بها الله مخلوقاته من الشعراء ؟
ثم، ماذا يعني الشاعر قبل الموت وبعده؟ تنتابني مثل هذه الأسئلة كلما
فقدت شاعراً. أي شاعر في العالم، كأنهم أًصدقائي أو جيراني الذين أتبادل
معهم التحية كل صباح لكي يكتمل وجودي في العالم. وعندما يكون الشاعر
قريباً إلى درجة نزار قباني فإن التأمل المقلق سيبلغ مداه وتطرفه.
ساعتها أتذكر فيلسوفاً قال ذات مرة أنه (ليس من الحكمة التأمل في الموت،
بل في الحياة)، وكأن في مقدورنا حقاً تمييز الحدود (في كياننا) بين
الموت و الحياة. دعونا إذن لا نعترف بموت الشاعر.
أعرف أنه كان يجتاز مرحلته الحرجة بعد الذبحة الأخيرة. (لماذا سماها
الناس ذبحة لولا كونها إشارة إلى قتل). ترى هل أستطيع أن أسمي موت
الشاعر قتلاً ؟ أقول كنت أعرف أنه يجتاز ذبحته بصعوبة المقاتل. لكنني
عندما سمعت الخبر ارتبكت لدرجة أنني أوشكت على التدهور في الضحك المذعور،
كمن لا يريد أن يقبل الفكرة. وأقسى ما في الأمر أن الذي نقل لي الخبر
كان قد اتصل لكي يأخذ مني كلمة (بهذه المناسبة)، وكأن موت الشاعر مناسبة
لا يجوز تفويتها لإطلاق التصريحات. لحظتها شعرت أن ثمة استهتار بالموتى
والأحياء معاً. لوسائل الإعلام أسلوبها الفذّ في التنكيل بنا، لكنني
وجدت في ذلك الأسلوب (احتفاء) مبالغاً فيه بشاعر يموت توا. وضعت سماعة
الهاتف ووقعت في حزن كثيف سلبَ مني القدرة على الكلام طوال اليوم.
كأن حدثاً غامضاً عجزتُ عن تفسيره حدث لي. اليوم الأول كان يوم الحزن.
وفي صباح اليوم الثاني بدأ شعور بالوحشة يسيطر عليّ، كمن يكتشف فراغا
هائلاً في الكون، فثمة شاعر محدد قد غاب عن الحياة. شاعر خاص لم يعد
موجوداً معي. شعور الوحشة هذا يجعل من الحياة قاصرة عن إقناعنا بأن
لا فرق بين الشاعر وغيره من البشر. فأنت تشعر بالوحشة عندما تفقد صديقاً
أو قريباً، لكن حين تفقد شاعراً فإن المسألة تتجاوز الشخص لتنال الكيان
كله. الشاعر هو الطبيعة التي تضفي على الحياة إنسانيتها وأسطوريتها
في آن واحد. وأسطورية نزار قباني لا تكمن في شعره ولكنها تتجلى في
قدرته على الحضور المتناهي في البساطة المستحيلة، تلك البساطة التي
لا يفسرها سوى كائن شعري مثل نزار قباني شخصياً.
لن أزيده مجداً إذا قلت أنه علمني الدرس الأول في الشعر، لكنها حقيقة
تعنيني بدرجة أشعر بحيويتها في تجربتي، وأدرك وحدي خطورتها في تكويني
الشعري. وربما نلتُ مجداً مضاعفاً إذا صرحت بها في هذا السياق الحزين.
فأنا جزء صغير من جيل شاسع أخذ من نزار قباني الدرس الشعري مبكرا.
وربما كان نزار قباني قد أتاح للغة التعبير الشعري درساً في الحب لم
يعرفه من قبل. وعندما كنت أنسخ كتبه وأحفظها عن ظهر قلب (مثل الملايين
غيري) لم أكن أشعر بأنه درسي الأول، ربما لأن المعنى الفني يأتي لاحقاً،
ويعنيني هنا المعنى الإنساني الغامض (لحظتها)، والمتصل بشهوة الحرية
المكبوتة التي كانت ستينات هذا القرن تدخرها لجيلنا، وهو يجدّ في البحث
عن آفاق ينطلق بها بعناصر مختلفة تسعفه للتعبير عن ذاته. نزار قباني
كان مكوناً جوهرياً لذواتنا الإنسانية والفنية بعد تفتح وعي الذات
لذاتها. فالذين وجدوا في نزار قباني شخصاً يمسّ شغافهم العاطفية، تيسر
لهم لاحقاً أن يرقبوه بوله وهو يمسّ الشغاف الأخرى بطريقته الغير قابلة
للتقليد (دون فضيحة).
أقول دون فضيحة، لكي أشير إلى الفضيحة الرائعة التي قادني إليها تقليدي
المبكر لكتابته. ففي تجاربي الأولى كنت مقلداً لبعض نصوصه بصورة جعلتني
أعلن أنني كنت قادراً على تقليد شاعر كبير مثل نزار قباني. ولم يكن
ذلك دون فضيحة. أذكر أن الأستاذ محمود المردي (رئيس تحرير جريدة الأضواء
البحرينية أوائل الستينات) كان يقرأ كل المحاولات الشعرية التي ترد
إلى الجريدة آنذاك ويرد عليها شخصياً في باب القراء. أذكر أنه كتب
لي ذات مرة جوابا على (قصيدة بعنوان : الأسطورة الصفراء) أرسلتها للجريدة
قائلاً : " إن هذه القصيدة صورة مهزوزة من نزار قباني".
يومها اعتبرت تلك الفضيحة شهادة اعتراف بأنني يمكن أن أفشل في تقليد
نزار قباني، لكنني أيضاً بدأت أكتشف كيف يمكن أصنع من هذا الفشل وتلك
الفضيحة الرائعة مستقبلاً جديراً بالمحاولة. أذكر هذه الحادثة الآن،
لكي أشير إلى عدة أمور : منها أننا كنا نتلقى الدرس الشعري على أيدي
شعراء كبار ونعترف بفشلنا في تقليدهم. ومنها أيضاً أن ذلك الاعتراف
كان (معترفاً به) من قبل رؤساء تحرير يتحملون مسؤولية الجانب الثقافي
والأدبي في صحفهم، بصورة تدفعهم إلى قراءة تلك المحاولات والرد عليها
بصراحة وصرامة تكبحان أي إدعاء فارغ يمكن أن يمارسه شخصٌ يزعم أنه
شاعر لمجرد أنه قلّد شاعراً آخر. ومنها، خصوصاً، أن ما يحدث الآن في
الساحة الأدبية أن الذين يكتبون محاولاتهم الأولى (وهم يقلدون الشعراء)
يحصلون على الفرصة كاملة لأن يعلنوا (شعريتهم) بدون أي اعتراف بالفشل،
بل وبتشجيع مريب من قبل أشخاص لا يفقهون شيئاً في الأدب، لكي يختلط
على الجميع (إلا قليلاً) بأن هؤلاء هم الشعراء الذين يصرّون على التعامل
معهم على هذا الأساس.
الآن، يمكن القول أن غياب شاعر مثل نزار قباني، من شأنه أن يجعلنا
نتأكد من الوسائل المعتمدة في تقييم الشعر والشعراء الذين يروّجون
ويروّج لهم، فيما هم (صوّر مهزوزة) من عشرات الشعراء الحقيقيين، دون
أن يرفّ لهم جفن، ودون أن يردعهم رأي رصين وصارم. ولعل التكريم الحقيقي
لتجربة خطيرة مثل نزار قباني هو أن يكفّ المقلدون عن تقليد مستمر يستغرق
حياتهم كلها، وليس مجرد بواكير محاولاتهم الأولى. الآن سوف أشعر بالحزن
والوحشة بصورة مضاعفة، عندما أرقب النسخ المكررة لنزار قباني وغيره
من التجارب، في ساحة واسعة من الكتابة دون الاعتراف بأن الفرق بين
الموهبة وبين التقليد كبير بشكل فاجع، ويتوجب عدم المجاملة بشأنه.
وإلا فإننا سوف نبالغ في التنكيل بنزار قباني إذا خلطنا بين التجليات
الفنية والإبداعية لمدرسة نزار قباني، ومئات (الصور المهزوزة) لقصائده
التي يجري تداولها بوصفها تجارب شعرية متميزة.
سوف يتضاعف الآن المعجبون بنزار قباني لكونه أصبح تجربة مكتملة الحياة
والشعر. فهذا شاعر لا يمكن العبور عليه دون اتخاذه درساً لنوع خاص
وشخصي من الكتابة. وعلينا أن نكتشف الفرق بين الأسطورة والواقع في
هذه التجربة. فأحياناً تكون المبالغة في الحب ضرباً من الإساءة، تماماً
مثل المبالغة في الموت.. لكي يبدو كما لو أنه نوع من القتل. أعني أن
ثمة من سيمارس قتلاً لنزار قباني عندما يعتبره (آخر الأنبياء)، أو
أنه الشاعر الذي يجبُّ ما قبله وما بعده. لأن هذا الضرب من المديح
من شأنه أن يحوّل التجربة الحية إلى تمثال من الرخام يتوجب صقله، خصوصاً
إذا عرفنا أن من يحاول أن يصقل القمر سوف يعمل على تكديره وتشويه طاقة
الضوء فيه. ويقيني أن أجمل تكريمٍ لشاعرٍ يموت سوف يتجلى دائماً في
صورة احترام الشاعر الذي يولد.
لماذا أذهب في هذه التداعيات بعيداً عن الرثاء المتوقع في مثل هذا
الموقف؟ الحقيقة أنني لا أعرف تماماً السبب المباشر لهذا النزوع، لكنني
أشعر بأن ثمة أسلوب مختلف أتوق للتعبير عنه وأنا أقول عن حزني الخاص
تجاه فقدٍ فادحٍ على هذه الشاكلة. ربما لأنني أذهب إلى مقاومة شعور
الوحشة الذي ينتابني جراء هذا الفقد. ولو أنني أطلقت لنفسي الحرية
أكثر للمزيد من التداعيات، فإن لدي من البوح الكثير مما يمسّ صميم
تجربتي الشعرية بوصفها تجربة تعلمت في مدرسة نزار قباني، ليس على الصعيد
الشعري فحسب، ولكن في المجال الإنساني خصوصاً. وحين أقول هذا إنما
أحب أن أشير بأن الشاعر الذي لا يعترف (أمام نفسه) بالأساتذة الذين
تلقى على تجاربهم دروسه الأولى سيكون أقل جدارة من المسؤولية الإبداعية
التي تستدعي الوضوح أمام الذات. ومن جهة أخرى فإن تلقي الخبرة وصقل
الموهبة لا ينشأ من فراغ متوهم، ولكنه ينهض من حقيقة كونية مفادها
أن الإبداع هو ضرب من الشبكة المتصلة بالعديد من الخبرات الفنية والإنسانية
المتراكمة، هذه الخبرات التي لا تصبح هواءً لقلب الشاعر وروح النص
إلا بحرية الاعتراف بها وتمثلها وتقديم الشكر العظيم لها.*
|