له حصة في الولع
نثر مائل وشعر وشيك

مؤسسة الانتشار العربي
لوحة الغلاف : عبا يوسف - البحرين

 

7 - أطفئ قناديلك يا مجنون

أطفئ قناديلك يا مجنون

لقاء أول :
الزمان. شتاء 1970.

المكان، البهو المعتم في (فندق نابليون) - بيروت. الملتقى الشعري العربي الأول.
الشاعر بلند الحيدري ؟!
أنت قاسم من البحرين !؟
تمسك بيدي : إنك ترتعش، لم تتعود على هذا الطقس. تعال لنترك هذا المكان قليلاً، المطر الخفيف في الخارج يناسبنا أكثر، في المطر لن تشعر بالبرد. تسألني عن والجغرافيا والتاريخ. تحدثني عن أشياء كثيرة مختلفة ليس من بينها الشعر. في الطريق الذي ينعطف نحو مطعم (مروش) خلف الفندق، اختصرتَ لي طريقاً طويلاً إليك. (الصداقة أهم، الشعر يأتي فيما بعد).وأنا الذي كنت أتخيل أنه لا كلام لدي الشعراء غير الشعر. لقد كنتَ تصدر عن تجربة بالكاد كنتُ أضع فيها كلماتي الصغيرة. الآن، ها أنت تطوي كتابك كاملاً، ولم أزل في الصفحة الأولى.
دائماً، كان هناك شخص / صوت آخر في قصائده. يتحاجز معه، يتبادلان جذوة الروح والجسد. ونادر ما يخرج أحدهما منتصراً. فالشاعر لا ينتصر إلا على نفسه، والهزيمة هنا هي اختبار لشهوة السنبلة و طبيعة المشنقة. دائماً كان هناك صوت / شخص آخر يفضح اللعبة.
هذا وطن عربيّ عاق، يخسر أطفاله الشعراء واحداً بعد الآخر، ويؤثث بمراراتهم ذاكرة العالم. وعندما كنت تتعثّر بسدنة الخريطة العربية، تقول : (لا يهم، سيذهب هؤلاء يوماً ما، وتبقى لنا فسحة صغيرة، مثل رواق في الجنة. نجلس فيه نتبادل ذكريات يجب أن نخلقها الآن). ها نحن الآن، لدينا من الذكريات ما يكفي الجنة والجحيم، لكن أين ذلك الرواق.
ذات طريق بين القاهرة والإسكندرية، سألني : (لماذا تبدو البحرين بعيدة إلى هذا الحد، ألا تقيمون لقاءات شعرية وأدبية هناك، كيف يمكن للشخص أن يرى البحرين؟). كنتُ أريد أن أحتضن سؤاله بالشغاف. صوت مشحون بالغربة يستبطن سؤالاً زاخراً بالمنفى. ويكاد ذلك السؤال أن يكون ( لماذا تبدو العراق بعيدة إلى هذا الحد، كيف يمكن أن أرى بغداد؟). سأله أحدهم ذات جلسة : (كنتَ مع السياب والبياتي منذ البداية، لماذا لا يذكرونك في معتركات الريادة؟). يهزّ كتفيه ولا يدخل في شباك الجدل الدائر : (يصطفلوا. أنا هنا.. الآن، وهذا يكفي).
يبدو أن عزوفاً عفوياً عن سباقات الخيول الهرمة يحلو له أن يمارسه في حرية الهامش. برغم حضوره معظم المهرجانات، إلا أنه كان يحتفي بالحياة أكثر من موضوع المهرجان. وكان دوماً يذهب إلى خارج القاعة لكي يتنفس هواء يكفي القلب ويسع الأصدقاء. بالنسبة له الصداقة أهم، كل شيء يأتي فيما بعد، الشعر أيضاً.
عندما أعلن ذات نزوة اعتزاله الشعر، شعرتُ أنه يداعب أقداره. ربما فاض به مشهد الشعر، فاعتقد أن احتجاجاً من هذا النوع قد يحدث هزّة تعيد توازن المشهد. لكن سرعان ما استدرك الأمر. لابد أنه قرر أن يصدَّ الموت. الشاعر لا يعلن أنه ليس كذلك.
مشاغله بالفن التشكيلي هي المعادل الروحي لموهبة، كمن تنزع إلى الاكتمال في مكان آخر. يستغرق في المشاريع الفنية والأدبية مثل طفل يؤثث مكتبته الصغيرة بالأحلام الملونة والذكريات وأصدقاء لا يحصون. وعندما يلتفت للقصيدة يكتبها مثل لوحة لا تكتمل.
وعندما ينغمس في هاجس السياسي، سوف يأخذ الأمر برقة الشاعر الذي يؤمن بأن كل شيء يمكن أن يحدث بسلاسة القصيدة. وبما أنه ليس دبلوماسياً محترفاً، سيكون دوماً عرضة للخذلان، لكن دون ندم. بسط لي كفّه ذات لقاء، عندما حرّكتُ هاجسه السياسي، فرأيت أصابعه مشتعلة تحترق وتصدر عنها رائحة قلب مفدوح : (أنظرْ، هذا جزاء من يعتقد بأن السياسة مثل الشعر. لكنني لا أتوب يا قاسم).

إذا كنتَ قد مُـتَّ حقاً،
فكفكف كلامي إليك.

كم شخصاً، في مكانٍ ما، سوف يحمرّ خجلاً لوفاة بلند الحيدري في لندن، بعيداً عن بيته؟!. هذا هو المهم. لا نستطيع أن نقبل بأقل من ذلك، ولا نفكر في غيره. الخجل. الخجل على الأقل، لأنهم أجبروا شاعراً، لم يحتمل العيش في العسف، أن يموت بعيداً، غريباً، عن وطنه.

جلستَ في هدوء المكان، تحنو على اشتعالاتك، وتدير آلة منلوجاتك محتدماً في نارٍ هادئة. لعل الذين قالوا بأن النار الهادئة تنضج الأشياء، كانوا يقصدونك. حتى إذا ما متَّ يكون جسدك المتعب لم يقدر على جمرة الروح الفتيّة.
لقد كان مولعاً بشكلانية التقنية. مرة يصوغ تجربته بنزوع السينما. مرة بحواريات المسرح. مرة باللعب على رشاقة الألوان مثل رسام. مرة بالذهاب إلى الآخر في شريط الكاسيت. (وظني لو أن الوقت أمهله قليلاً سوف يكون أول شاعر عربي يخوض تجربة الشعر بطريقة الفيديو كلب). كان أحياناً يسأم تجارب المستقبل، فيلجأ إلى صقل القالب القديم. لكنه في كل الحالات لا يتخلى عن طفولته، كأنه يلعب مع نفسه لتسليتها. وكنت أرقب الحزن الشفيف يسيل على حواف تجاربه. فبرغم الأناقة المفرطة التي تطال شكل ملابسه، مثلما تهيمن على كتابته، فإن استعداده للفوضى المرحة في لحظاته اليومية كفيلة دوماً بنقله إلى الطفولة التي تنقض أناقته، دون أن يقدر على تفادي نزيفه المكتوم.

في البحرين، شكلتْ لنا تجربته المبكرة واحدة من المرجعيات الحميمة في كتابتنا الشعرية. وقت كنا لا نرى في الكتابة الشعرية سوى ذلك النزوع الساخن للانغماس في (طين الحياة). كنا نتناقل قصائده بوصفها واحدة من الاقتراحات الحديثة لخروجيات القصيدة عن سياقات القالب. فقد كانت تجربته إحدى النوافذ الرحبة التي تأخذنا إلى الشعر العراقي. وأذكر أن من بين الكتب التي نسختها كاملة بخط اليد كتاب (خفقة الطين) لعدم توفر النسخ آنذاك. لا أعرف لماذا ظلت كتابة بلند الحيدري تشكل، بالنسبة لي على الأقل، نصاً يسهل اختراقه بلا تهيّب، ربما لأنني شعرت بألفة من يقرأ شعرا يمكن دائماً أن يُكتب بأشكال أخرى. وهذا ما جعلني ذات مرة أضع أمامي قصيدة له لأكتب إحدى محاولاتي المبكرة على شاكلة تقارب النص وتغايره، في محاولة لكي أثبت لنفسي (ولصديق آخر وقتها) بأنني ليس أقل من بلند الحيدري، الأمر الذي دفع ذلك الصديق لأن يشرح لي بأن على الشاعر أن يكون حجراً كريماً مختلفاً عن سواه، موضحاً لي بأن كلمة (بلند) هي أحد أسماء الأحجار الكريمة، تعني، فيما تعني، الصلابة والجمال، وليس لي أن أحاول تقليد حجراً آخر. وأذكر أنني حملت هذا المعنى معي في كل مرة ألتقي بها الشاعر لكي أتأكد من هذه المعلومة، دون أن يتسنى لي ذلك.

ثمة شعور غامض كان يخالجني إزاء تجربة بلند الحيدري، بأنه يقترح دوماً عدم التعامل مع قصائده بوصفها سياقاً يتصل بالكتابة الشعرية العربية، بالمعنى الروحي للكتابة. وكأنه يصدر عن حساسية تختلف عن حساسية القصيدة العربية الحديثة، كما لو أنه، مثلاً، يكتب منذ قرون طويلة موغلة في تاريخ ما بين النهرين، منذ أيام الشعراء الذين كتبوا قلقامش. لا أعرف مصدر هذا الشعور، لكنه حقيقة لا يزال قادراً على وضع الكثير من نصوصه في خانة لا تقبل تفسيراً معاصراً، ليس بالقياس الزمني، ولكن بالقياس الروحي. والمشكل أنني كلما التقيت به شخصياً، وتأملت عميقاً سحنته ذات التقاطيع المميزة، حضرت أمامي تلك النقوش والتماثيل السومرية، الأمر الذي يكرّس ذلك الشعور الغامض، ويجعلني مطمئناً إليه.
لقاء أخير :

الزمان، شتاء 1995.
المكان، مهرجان المعتمد بن عبّاد - مراكش.

نفس الفتوة التي نسيت أن تعترف بالزمن. نفس الضحكة الجديدة، مثل طفل يستريح بين بهجتين. (تعال، سوف نخرج إلى المدينة. ثمة أمكنة حرة الهواء خارج القاعات، هل رأيت المكتبات في مراكش؟!) مع أصدقاء آخرين، ضعنا كثيراً نبحث عن تفسير الواحدي بطبعته الأصلية. لنعثر على نسخة واحدة ونخسرها لصالح صديق ثالث. تهتف: (لا بأس، عليك أن تعتمد على تفسيرك الخاص للمتنبي. تفسيرك سيكون أكثر جمالاً من تفسير الواحدي). وكلما انتهيت من ضحكة مجلجلة مع أصدقاء تلتقي بهم نادراً، قلت لي: لماذا لا تأتي إلى لندن، سيكون لدينا المزيد من الوقت هناك، وربما قرأنا بعض الشعر ). أنظر الآن، كيف أن الوقت لم يكن كافياً لأصدقاء أحلامك.
ثمة شخص يحرس لك الذكريات. ينتظرك هناك، ويتعب قليلاً قبل أن تصل. وعندما يدركك النوم، تغدر بك الأحلام، ( فاطفئ قناديلك يا مجنون).*

 

 
 
السيرة الذاتية
الأعمال الأدبية
عن الشاعر والتجربة
سيرة النص
مالم ينشر في كتاب
لقاءات
الشاعر بصوته
فعاليات
لغات آخرى