سياسة عابرة، قائد مؤبد
لو أنه تأخر قليلاً لأخذ معه قرناً كاملاً من الزمن. مثلما، من المؤكد
أنه قد أخذ معه، فيما يذهب، ما يقارب قرنا من الشعر العربي. فليس الجواهري
تجربة من الحياة العربية فحسب، لكنه، وهو الأهم، تجربة من الكتابة
الشعرية التي لا تزال تمثل، في العمق، بنية متينة من المفاهيم الفنية
القائمة على التقليد والمحاكاة. ومن هنا تكتسب مغادرته الرمزية دلالة
حضارية. دلالة على أن التقليد، الذي لم تقدر قرابة ثلاثة أجيال من
شعر الحداثة (برغم الإدعاء) على تفاديه، هذا التقليد هو نسغ الحياة
العربية لا يزال. وهي دلالة، من المرجح أنها ستقنع الكثيرين بأن حداثة
الجديد ليس من وظائفها نفي القديم ومحوه أو حتى حجبه، ففي الحياة متسع
للأحياء، ما داموا كذلك.
بمحض الصدفة (الموحية) فحسب، كنت قد استحضرتُ الجواهري، فيما أجلس
في المسرح الروماني القديم في جرش،97 ضمن جمهور يتجاوز الثلاثة آلاف،
في ليلة محمود درويش الشعرية. وكنت أرقب الشاعر وهو يقود جمهوره ويتلاعب
به، بصورة تجبرنا على استعادة تجارب مثل الجواهري، الذي اشتهر بقدرته
على (قيادة) الجمهور بقصائده. كانت تلك الصدفة قبل وفاة الجواهري بيومين
على الأرجح. وكان محمود درويش ليلتها، فيما يتلو قصائده، يطلق خلالها
توجيهاته للجمهور، أن ينتبه لهذا المعنى هنا، وينفي المعنى الذي يذهب
إليه الحماس عند هذا المقطع أو ذاك. وكان الأمر بمثابة الحوار الصراعي
بين الشاعر وجمهوره. بين شاعر يحاول أن يصوغ مواقفه بمعزل عن الحماس
الذي جاء بذلك الجمهور ليسمع ما يريد. في حين يؤكد محمود درويش الشاعر
بأنه (يرى ما يريد) في آونته الأخيرة. ليلتها خالجني ذلك الشعور الذي
يقلق الشاعر المعاصر. كيف يستطيع الشعر أن يكون صوتاً لذاته الجديدة
ومعبرا، في نفس الوقت، عن لحظته الحضارية. وبصيغة أخرى، أن يكون (جماهيرياً)
بمعزل عن سلطة الجمهور. ليلتها شعرت بأن هذا القلق هو ذاته الذي يتحرك
في تجربة محمود درويش، وهو يعمل بجهد فني ملحوظ، الخلاص من وطأة الجمهور
الذي لا يزال يأخذه الحماس عند الجملة المباشرة، وهي جملةٌ، في لحظة
درويش الشعرية، تتفلّت من المعنى المسبق الذي ينتظره الجمهور نفسه.
لقد كنت ليلتها في حضرة جمهور (متوقع) يحتدم مع شعر يقترح (غير المتوقع).
وفي تلك الأمسية تأكدت، مجدداً، أن المسافة الإبداعية بين تجربة محمود
درويش الشعرية ووعي جمهوره هي مسافة لا يمكن تفاديها، خصوصاً عندما
نشهد الهاجس السياسي يتحكم في التجاوبات الحماسية عند بعض المقاطع،
في حين يعبر الجمهور على أجمل المقاطع وأكثرها خطورة (والتي غالباً
ما تكون نقيضاً لذهابات الجمهور وهواجسه).
لذلك، عندما سمعت خبر وفاة الجواهري، رددت بداخلي تعبير (لكنها تدور).
فبالرغم من بنية التقليد التي لا تزال حاضرة في الثقافية الشعرية العربية،
فإن شاعراً مثل محمود درويش لا يزال يعمل على تجاوز تلك البنية، بالصعوبات
ذاتها التي تحتم على المبدع أن يثق في تجربته وقوانينها الذاتية، أكثر
من ثقته في جمهور ممتثل للشرط العابر الذي تشكل السياسة عذابه اليومي.
ودون أن يظل الشاعر مسؤولاً (وضحية) عن شرط يفسد عليه الشعر والسياسة
في نفس اللحظة. وعندما يقال بأن وفاة الجواهري تشير إلى فقد آخر أعمدة
الشعر العربي التقليدية، فإننا لا نريد أن نصدق ذلك، لسبب جوهري واضح،
هو أن التقليد لا يزول بذهاب الشاعر، خصوصاً إذا كان شاعراً بحجم تجربة
الجواهري. لكننا نميل إلى الظنّ بأن المجرة الشعرية العربية لا تزال
مقذوفة في سديم من التقليد بما لا يقاس من التجليات الفنية، إن كان
في المفاهيم والقيم النقدية، أو في المناخ الشامل الذي لا يزال يرى
في الشعر نصاً مقدسا يكتسب كينونته من رؤيته للشاعر بوصفه (قائداً)
لا يختلف عن القائد السياسي إلا في الدرجة وفي الأداة والدور. في هذه
الكينونة يكمن ما ينبغي البحث في ضوئه ظاهرة محمود درويش كعلاقة قائمة
بين الشاعر والجمهور. وعلى الذين يقفون في البرزخ الجهنمي بين التقليد
والحداثة، أن يقيسوا المسافة الفنية المنجزة بين الجواهري ومحمود درويش،
ويقدروا، بناء على ذلك، المسافة الزمنية التي سوف يستغرقها التقليد
(الجديد) هذه المرة، ليتجاوز تخوماً يساهم في تكريسها.
إذن، فإنها تدور، والحوار الصراعي الذي رأيته في ليلة محمود درويش
في جرش،97 يؤكد بأن ثمة تجربة شعرية عربية تتقدم بصعوبات واضحة، نحو
تلقين الجمهور درساً في طريقة مختلفة من التلقي. وإذا كان شاعراً كدرويش،
قامت جماهيريته (في جانب منها) بروافع سياسية، يصطدم الآن بعبء هذه
الجماهيرية، ويشعر بالضرورة الكونية لتفادي سلطتها، من أجل الذهاب
الجمالي بها نحو الآفاق الأرحب، لابد لنا أن نتأكد، يوماً بعد يوم،
بأن أمام الشاعر الجديد مهمات كثيرة، لتخليص الشعر من أوهام الجماهيرية،
بالصورة التي لا تجعله يفقد بوصلته الخاصة ودون أن يقع في النظرة الدونية
لهذا الجمهور أيضاً. فليس عيباً أن يكون للشاعر جمهور(شعري)، لكن الخطر
أن تكون مفاهيم هذا الجمهور صادرة من الماضي وليس من المستقبل، الذي
هو هاجس المبدع دائما. والأخطر هو امتثال الشاعر لجمهور مثل هذا.
لذلك، أعتقد بأن الزمن الشعري الذي يمثله الجواهري، لن يذهب معه.
والمتوقع أكثر من هذا أن تجربته ستظل متحكمة في الذهن العربي بعض الوقت،
ما دامت البنى قائمة على هذه المفاهيم. غير أن دورة الحياة قادرة،
مع (وبرغم) الزمن، أن تمنح الشاعر العربي عناصر الخلق النقيض لتفادي
الخضوع والامتثال لجمهور يتجرع التقليد من مصادر غاية في التنوع كل
يوم. ولن يكون بعيداً ذلك اليوم الذي نشهد فيه شاعرا مثل محمود درويش
يتعرض للتحولات الجوهرية في جمهور يتقلّص، كلما توغل الشاعر في تجربته
الذاتية بالحريات التي تشير إليها نزوعاته الفنية. ليس لأن محمود درويش
سيخذل جمهوره سياسياً، ولكن من المؤكد أنه سوف يخذله فنياً. هذا الخذلان
الذي لن يقلل من أهمية تجربة درويش ولن يستهين بصدق جمهوره وعفويته
العاطفية. على العكس، ففي الشعر من الأسرار ما يجعل الشاعر قادرا،
مع الوقت، على اجتراح الوسائل التي تمنح الجمهور طاقة الرؤية والحساسية
الجديرة بمستقبلٍ أكثر رحابة من السياسة العابرة، وأكثر جمالاً من
القائد المؤبـد. *
|