النار الحلوة
1
كتب طبيب في نهاية القرن الثامن عشر عن النار قائلاً : (أعني بالنار،
لا تلك الحرارة العنيفة، المضطرمة، المثيرة، المضادة للطبيعة، الحارقة
- بدل أن تكون المنضجة للأمزجة والأغذية - بل تلك النار الحلوة، المعتدلة،
البلسمية، التي تسري في الأمزجة المتباينة، برطوبة معينة تمت بنسب
إلى رطوبة الدم، سريان النسغ المغذي، فتقسمها، وتلطفها، وتهذّب من
خشونتها، وتخفف من حدة أجزائها، ثم تفضي بها إلى درجة من العذوبة والصفاء
حتى لتجد نفسها متناسبة مع طبيعتها).
2
يضع الشاعر نفسه في نار عذبة على هذه الشاكلة، ويزعم أنه في عذاب
التجربة. وحسب أحد السيميائيين فإن (الحرارة تعزل ما تنافر من الأشياء
وتطهو ما تجانس منها). و إذا ما تيسر للشاعر أن يشعل ناره الحلوة بالطاقة
الغامضة التي فيه، سوف نحصل على المعطيات النادرة لتجربته. فهذه الطاقة
السماوية هي التي تصنع الحياة. ثمة عذاب حلو برسم الشاعر. قليلون يمكنهم
أن يتذوقوا نار التجربة مع الشاعر، والأقل هم الذين سوف يعيدون صياغة
الحياة في نورانية هذه النار. والشاعر هو من يأخذ بيد الآخرين نحو
هذا الدفء الحميم.
3
وللشتاء نار أخرى. نار تطالها إذا وضعت لك النص على القلب. فالدفء
الذي تناله ( بقلبك) من النص لا يأتي من نار الفيزياء، إنه دفء غامض
يتسرب لمسامّك كما لو أنه النسغ غير المنظور في الشجرة. دفٌ يتصاعد
على إيقاع الروح. فلا البرد هو الشتاء هنا ولا الجمر هي النار هناك.
كأن حنان العالم يتماهى في تجليات تصدر من كتابة القلب لكي تذهب إلى
قراءة القلب.
4
ثمة شخص يتقمص طبيعة الشجرة ويقف في الحقل، ثلج هاطل، ريح تعصف مثل
اصطفاق نسر غاضب، وزمهرير كثيف يسوّر المكان، والشخص / الشجرة واقف
في الحقل، مشحوناً بدفٌ لا تسطو عليه تحولات الفصول. فالنص على القلب،
والقلب تنور حميم يمنح الجسد والروح طاقة تضيء. ولا تكاد تعرف حدود
الشخص من حدود الشجرة. كأن الطبيعة تحنو على كائناتها بغض النظر عن
الأصل والسلالة والأشكال والذرائع.
5
أمامك ما يشبه الباب في هيئة الكلام. يقول السيميائي عن النار، ويقول
النص عن النار، وتدرك بأن الكلام يصدر عن القلب ذاته والروح ذاتها،
غير أن كل صوت يحمل طبيعة تختلف عن الأخرى. هل هو باب النار الحلوة
أم باب النص الجميل. هل أنت ضحية برد الشتاء ( لكي تلجأ إلى المدفأة
)، أم أنك ضحية وحشة العالم ( لكي تذهب إلى النص ).أعرف شخصاً لا يحلو
له النوم (لكي ينال الأحلام) إلا وهو يضع أعضاءه في جوهرة المخيلة،
حيث : عيناه في زرقة السماء، يداه في المحابر، رأسه في ريش السديم،
قدماه في مجهول الطرق، وجمر كثير على صدره المفتوح مثل كتاب اليقظة.
شخص ينام كأنه ذاهب إلى موعد العشق. حيث : أمامه ما يشبه الباب في
هيئة الكلام. يكتب كمن يقرأ نصاً تسرده عليه الأساطير. ساعتها تندلع
النيران كلها في جسده، فلا يكاد يعرف حدود أعضائه من حدود أحلامه.
وسرعان ما تتفتح له الحياة مثل وردة في حديقة.
6
سبحان المزاج الرائق الذي جعل تلك النار الحلوة رسولة القناديل لنا.
سبحان بيتنا المرسوم (مثل أسطورة) على حدود الشتاء الصديق. افتح قميصك
أيها الشخص لكي تغسل النار منك الجسد والروح وتدعك لك الشغاف بعشبة
الولع. افتح أخطاءك على صواب واحد يشمل اليقظة والصحو. افتح النص وادخل
إليه مثلما يدخل الزوج زوجته من أبوابها كلها، فالنار الحلوة التي
تأتي من زرقة السماء لك، والدفء الدفين المؤجل منذ الأساطير لك، والقلب
لك، ولك الكيمياء وشهوة الكتب، ولك ما يجعل النوم بستانك والغيم قفطانك.
7
ناري عليك و أنت في ملكوت أحلامك
ناري
قراءةُ خارجٍ من نصّهِ
مستوحش، قلق على ماء الغريب،
وناره مجنونةٌ،
ناري بأقلامك.
عينان شاخصتان في ليلٍ
و أنت تحضنين النار
يا نار الوحيدة عمّديني عاشقاً
يبكي إلى النار الجميلة علّها...،
ويؤجل الباقي لأيامك.*
|