سعد الله ونوس،
شخصية النص
لم أعرف شخصاً سخر بالموت وتحداه (حرفياً) بالكتابة، مثل سعد الله
ونوس. ثمة غموض يصعب تفسيره في الطاقة الخفية التي كانت تجعل من ونوس
حصناً هشاً، يخترقه الموت دون أن ينال منه. وهذا ما يمنح طبيعته الإنسانية
كثافة تضفي على علاقته بمن حوله سحراً خاصاً يعكس المشهد، ليصبح الآخرون
بحاجة للإسناد المعنوي أكثر من سعد الله نفسه. فعندما كنت أقرأ ما
يكتبه ونوس عن لحظات تجربته مع المرض والعلاج وصعوده المعراجي، في
كل مرة يخرج من غفوة العلاج، مسرعاً إلى الكتابة، أشعر بأن ثمة مبدعا
يستطيع (بالفعل) أن يثبت قدرة الكتابة على حماية الإنسان من القوى
الأخرى، مهما كانت ضارية وعدوة وبغيضة، حتى الموت نفسه. وهذا ما ينفي
صفة الأعجوبة التي كان يحققها ونوس طوال سنواته الأخيرة، فالأساطير
ليست ما يخطر على بالنا، لكنه السر الحقيقي للإنسان، فيما يصدر من
جوهره الواضح والجميل والصلب. لقد كان يعرف الطريق القادم بنفس وضوح
معرفته للطريق المنصرم. ولم يكن يعمل طوال سنواته الأخيرة سوى وضع
قناديله الخاصة على ذلك الطريق. قناديل ترشد المبدع وتضلل الموت.
إن اشتباك سعد الله ونوس مع الموت بهذا الشكل، من شأنه أن يختصر تجربته
الحياتية والإبداعية التي نعرفها جميعاً. فهو من أكثر المبدعين العرب
اشتباكاً مع قضايا الحياة، وهو لم يتوقف لحظة عن هذا الاشتباك بشكل
ما. فقد كان في مركز الاحتدام اليومي (والجوهري معاً) مع قضايا الحياة
فكرياً وفنياً وسياسيا، وكان اشتباكه إشكاليا بصورة لا تدع مجالاً
لشك في وضوح مواقفه وصرامتها ونقديتها دائماً. وهذا ما ظل يميزه عن
أقرانه الذين استطاعت تحولات الحياة ومتغيراتها أن ترخي الروافع والمعادلات
بالنسبة لهم، لكي نصادف مهادنة هنا و مساومة هنا وصمتا هنالك، وفي
معظم الأحيان تنازلاً لا يليق بالمبدعين، الأمر الذي سوف يخدش صورة
بعضهم وانسحاب الخلل على مصداقية مواقفهم ورؤاهم لتلك القضايا التي
لم تكن تحتمل الالتباس. هذا الاشتباك الإشكالي هو الذي صاغ صورة ونوس
(الشخص والنص) في أذهاننا، وفي نسغ تجربتنا الإنسانية والثقافية. لذلك
فإن الشعور الذي ينتابني الآن وأنا أتجرع حقيقة غيابه، هو ذاته الشعور
الذي سينتاب شخص يصحو كل صباح ليكتشف أن عضواً منه أصبح مفقوداً. والمشكل
الأكثر تعقيداً وفجائعية، كون هذا الفقد لا يطال أعضاء الجسد فحسب،
ولكنه يطال أعضاء الفكر والثقافة والإبداع والحساسية الإنسانية خصوصاً،
كأنّْ يفقد المرء حساسية الضمير مثلاً، كيف يمكن توقع شخص يصحو ذات
صباح ليجد أنه بلا ضمير ؟! لعل سعد الله ونوس كان يشكل، بالنسبة لعدد
لا يحصى من المثقفين والمبدعين العرب الضمير المعلن والقادر على الجهر،
في مشهد الصمت، وكانوا يقنعون بذلك، ليتسنى لهم الذهاب إلى النوم براحة
زائفة، على أساس أن ثمة من يحمل عنهم عبء المجابهات. لقد كان ونوس
أحد علامات الضمير العربي الشجاع، الذي بات يتقلص ويندر.
لم ألتق بسعد الله نوس شخصياً أبداً. هاتفته مرة واحدة قبل سنوات فقط.
لكنني، منذ أن قرأت له (حفلة سمر من أجل حزيران)، لم أتوقف عن التعرف
عليه، بصورة يمكن وصفها بمرادفة روح معذبة تقدر على إسعاف روحي في
لحظات محددة، (أقدر أن أحصيها مع نفسي الآن). وبعد أن قرأت نصه الجهنمي
الذي سرد فيه تجربته مع العلاج، رغبت فعلاً أن أكتب عنه، لكنني لم
أجرؤ. لقد انتابني الخوف تماماً. أنا الذي أتقاطع مع هذه الحالات بعمق
غامض، لم أجد شجاعة لكي أقول شيئاً لا يزال ينداح في داخلي. شيء يتصل
بتجربة الموت والكتابة. ولا أعرف كيف يمكنني، في مستقبل الأيام، الكلام
عن هذا الأمر، ولا أعرف ما إذا كنت سأقوله بالموت أم بالكتابة.
في ذيل النشرة الإخبارية، لمحطة فضائية لبنانية، اعتدل المذيع فجأة،
وشاب صوته حزن مفاجئ، ليقول ( الفنان المسرحي سعد الله ونوس ..) فنترت
عضلات رقبتي نحو الجهاز متيقناً أنها الصاعقة الكامنة. لم أستطع تماماً
تمييز باقي كلام المذيع. وعندما انتقل الكلام لمذيعة أخرى تحكي كلمة
صغيرة عن الفقيد. خيل لي أن كلمة الفقيد تكاد تشمل عدداً من الأصدقاء،
أعرفهم شخصاً شخصاً، قفزوا في حواسي كلها بغتة. وكنت قد فقدت السيطرة
على جسدي تماماً. فالأمر بالنسبة لي بات قاتلاً بشكل مضاعف.
المصادفات رشحتني هذه اللحظة لموقف غاية في الصعوبة. فقد كنت أتهيأ
لمغادرة المنزل للذهاب إلى الصديق جواد الأسدي الذي وصل البحرين في
اليوم السابق. ومن يعرف طبيعة العلاقة الإنسانية بين جواد الأسدي وسعد
الله ونوس، يستطيع تخيل الموقف الذي كنت أتخبط في براثنه لحظتها. كيف
سيتسنى لي نقل مثل هذا الخبر لجواد الأسدي. لا أحسن التصرف أبداً في
مثل هذه المواقف على الإطلاق. خرجت مثل الضائع الوحيد، لا أجسر على
الذهاب إلى الفندق لمقابلة جواد، و أخشى في الوقت ذاته من أن ينقل
الخبر إليه بصورة قاسية. لكن ترى هل يمكن أن تكون طريقة نقل الخبر
أكثر قسوة من الخبر ذاته ؟ لم أعد قادراً على تقدير الأمر. بعد أن
تولى صديق مشترك هذه المهمة. جلست إلى جواد الأسدي، لأشهد احتقانه.
تبادلنا صمتاً كثيفاً. تبادلنا فداحة الحدث، اتصلنا بمناخ فجائعي تواطأنا
على اللقاء من أجله، دون أن نعرف أننا نفعل ذلك من أجل سعدالله ونوس،
كأن نزوعنا الغامض للأحزان موصول بشبكة تمتد بالتاريخ.
بعد سعد الله ونوس، لم يعد للموت هيبته المعهودة، فقد نكّل ونوس بالموت
ومثّل به، بصورة جعلت منه سياقاً مألوفاً قابلاً، يمكن للكتابة أتجابهه،
وتتحكم في حركته ومساره (بإشارات وطقوس) بشرية، تمنح الإنسان الفسحة
اللازمة لإنجاز بعض المهام الضرورية، قبل الذهاب. لم يعد الموت، بعد
سعد الله ونوس، قادراً على فرض شروطه على المبدع، عندما يكون هذا لم
ينجز مشروعاً يشتغل على إنجازه. فقد تمكن ونوس من تأجيل لحظته بصورة
لم يسبق لها مثيل، حسب علمي، في حالات شبيهة لدي مبدعين آخرين، حتى
في تجربة نيكوس كازنتزاكيس، الذي كان في أيام مرضه الأخيرة، يقف على
رصيف الحياة، ليطلب من المارة الأصحاء أياماً إضافية لكي يتمكن من
إنجاز الكتب المكنوزة في داخله لئلا يموت بها.*
|