له حصة في الولع
نثر مائل وشعر وشيك

مؤسسة الانتشار العربي
لوحة الغلاف : عبا يوسف - البحرين

 

6- هودج يؤوب بالملكية

الجسر

يستعيد عبوره المكترث للجسر القديم الذي يصل بين جزيرتين تطمحان لتكوين بلد هي الأصغر في خريطة العرب. يقف قبالة الزرقة التي ترافق العابر الصغير من حافة المحرق إلى شرفة المنامة. زرقة مزخرفة بالمراكب. كان الطفل الذي لم يتجاوز السابعة معتمداً على ركبتيه في المقعد الخلفي المستطيل بالحافلة الخشبية، واضعاً ذقنه على حافة النافذة، محصوراً بجسده الضئيل بين والده وراكب آخر تدثّر بأكثر الملابس دفئاً فأخذ حيزاً يكفي لاثنين. كان منتصباً متشبثاً بحافة النافذة لتفادي اهتزاز الحافلة الخشبية التي كانت تستجيب لكل تضاريس الشارع بإخلاص فادح مصدرة قرقعة تكفي لإيقاظ الإسفلت حتى أحجار الجسر. وبدا أن الطفل قد أوشك على نسيان نفسه وهو يطلق أحداقه واسعة في هذا الماء اللانهائي الذي يرافق الباص من الجانبين، يرسل بصره كمن يرى العالم بأكمله. حين توقفت الحافلة عند مدخل الجسر في صف العربات الأخرى منتظراً دوره للعبور، يلاحظ عدداً من المراكب يتجمع على الجانبين، يلفت نظر والده للخليط المتنافر من الفلك، خصوصاً تلك التي تنتصب صواريها عالية. (ماذا ننتظر كل هذا الوقت يا أبي). فيخبره الأب بأن وقت فتح الجسر قد أزف الآن لكي تعبر السفن. (كيف يمكن لهذه المراكب أن تطوف تحت الجسر الذي يكاد يلامس سطح البحر). فيعرف من الأب بأن ثمة رجال سيعملون الآن على فتح الجسر ليتاح للسفن أن تعبر إلى الجانب الآخر من الخليج. كانت طاقة الطفل على التخيل تتساءل. (كل هذا الحديد والأسمنت يجري تحريكه بالأيدي؟). شعر الأب أن شك الطفل سوف يمس مصداقية رجل مثله. يجب أن ترى ذلك بنفسك. (هل يمكن ذلك يا أبي). أمسك الأب رسغ طفله الذي يتصنع فضولاً أكبر من سنّه، وترك الباص مستأذناً من السائق بأنه سيقوم مع ولده بإلقاء نظرة على المشهد عن كثب. سوف ننتظر هنا على السور حتى يبدأ العمل. ثمة عبور مزدوج يحدث هنا يومياً علينا أن نرقبه بأنفسنا لكي نصدّق أن الأمر يحدث بالفعل. أجلس طفله في مواجهة البحر، وجلس بجانبه وأرخيا سيقانهما ناحية البحر. وبعد دقائق كانت العربات قد عبرت، وبقيت ثلاث عربات صادف أنها وصلت متأخرة بعض الوقت، وعليها أن تنتظر حوالي ساعة واحدة لكي يتأكد الطفل أن هذا الأمر يحدث بالفعل. برز ثلة من الرجال الأشداء يحملون مفتاحاً كبيراً أخذوا يثبتونه في موقع ما في منتصف الجسر بشكل جانبي. وما إن لمح سائقوا العربات ذلك حتى أخذوا يتركون عرباتهم وينادون الركاب الذي يرغبون عادة في اختصار انتظارهم. وإذا بعدد أكبر من الرجال يتجهون ناحية الرجال الأشداء ومفتاحهم الكبير في منتصف الجسر لمعاونتهم على إدارته. إلتفت الأب ناحية الطفل : (هل رأيت، هذا ما يسمونه (فزعة الجسر) انتظرني هنا، سأذهب لكي أشارك الآخرين بفتح الجسر، راقبنا ولا تترك مكانك). تواجه الرجال في صفين متقاطعين يمسكون بأطراف المفتاح المثبت في أرضية الجسر، و أخذوا يطلقون أهزوجة تنظم حركتهم في إيقاع واحد رتيب ومهيب. ويدورون في ما يشبه حركة الحلزون على شفير جسر أخذ ينفرج ببطء شديد ولكن بثقة، كأنهم يعرفون ما يفعلون، فيما يأخذ الجسر بالتحرك في شكل انحراف كامل مفسحاً ما يكفي لمرور السفن. وفي الوقت نفسه انفرجت أسارير الطفل وهو يراقب الجسر الضخم يستجيب لقبضات الرجال الذين كانوا يفعلون ذلك بحركة لا تخلو من المرح. إنهم يزيحون كتلة الحديد والأسمنت الذي كانت تعبر عليه كل تلك العربات يومياً، وهو ينشق ويتسع شيئاً فشيئاً، ليتأكد له أن وقوف تلك السفن بصواريها العالية ليس انتظاراً عبثياً، ففي الأمر شيء من الجدية، وإن والده كان يعرف ما يقول حقاً، وها هو بالفعل يشارك في تحقيق تلك الفسحة الرحبة التي بدأت تسع أكبر الفلك لكي تواصل سفرها في الجانب الآخر من البحر. وبالفعل بدأت السفن بالتململ وهي تعدّل من موقعها متجهة، في صف طويل لتعبر معبرة عن شكرها لإؤلئك الرجال، بعض البحارة بالصوت والإشارات اليدوية. إما السفن البخارية فقد بدأت تطلق صفيراً جهورياً تحية للسواعد المفتولة التي وقف أصحابها مستندين على سور الجسر الجانبي يأخذون قسطاً من الراحة و يستعدون لجولة ثانية ستكون أكثر حيوية وانفعالاً، حيث سيهزجون بأسرع من الأهزوجة السابقة، فقد أنجزوا عملاً مذهلاً بالنسبة لطفل يرى الأمر يحدث أمامه للمرة الأولى. لقد كان يعتقد أن الجسر وضع ثابتاً لعبور العربات، وهاهو الآن يرى بأنه جسر لا يمنع السفن عندما ترغب في العبور هي الأخرى. الجسور الطيبة هي التي تنقل الناس دون أن تمنع البحر ولا تقطع السفن. عندما عاد الأب كان الصهد الخفيف يرطّـب جبينه وفوديه. (هل صدقت، إن الآمر يحدث هكذا كل يوم). أمسك الأب بيد ولده المهتاج لفرط التجربة، وعاد به إلى الحافلة، التي بدأت تدير محركها استعداداً لمواصلة الطريق إلى المنامة. تأمل الطفل الزرقة بأحداق تتسع من الدهشة، وأخذ ينهال على والده بسيل من الأسئلة المتعلقة بأولئك الرجال الأشداء الذين حملوا المفتاح الكبير. هل هذا عملهم الوحيد، وكيف يحدث أن يشارك أصحاب العربات والركاب في تلك العملية دون أن يكون ذلك عملهم. ثم ما هي الأغنية التي كنتم ترددونها أثناء العمل. وهل من بين كل هؤلاء الرجال الشخص الذي بني الجسر؟ إلتفت الأب نحو طفله البالغ في الفضول، وافتر ثغره عن ابتسامة تعني إن اختزال كل هذه الأسئلة، يستدعي اختصار تجربة إنسانية كاملة في ثلاث أو أربع كلمات.وكان الأب يرقب في البدء منذ أيام الغوص الأولى، تلك الحكاية التي لا يمل من تكرارها، فشعر الطفل بأن الأمر سوف يأخذ منه ثلاث ساعات إضافية للإصغاء لقصة سبق أن سمعها مئات المرات لكي يدخل بها الأب (بعد كل ذلك) إلى حكاية الجسر. فأدار الطفل رأسه، متنازلاً عن فضوله، ففهم الأب مغزى ذلك. (ماذا أفعل لك، إن كل قصص حياتنا تبدأ من هناك. عليك أن تؤجل الأمر بضع سنوات لكي تعرف كل شيء بنفسك). كانت الحافلة الخشبية قد وصلت إلى نهاية الجسر من ناحية المنامة، حيث سمع مساعد السائق ينادي (راس الجسر). ورنّت في أذنيه أهزوجة الرجال وهم يديرون المفتاح الأعظم في منتصف الجسر : (اشلون جيّم الجسر / آيّـه على وظيفته / وظيفته إميه وعشر /..) سمع الأب ما يستعيده الطفل في ذاكرته، فابتسم لأن طفلاً بهذا السن يريد أن يذهب إلى التجربة باكراً إلى هذا الحد. (لا بأس، ما عليك إلا أن تنتظر، و إذا لم تذهب إلى المستقبل، فإنه يأتي إليك، لأنك تعبر الجسر إليه أينما وجهت وجهك).

 
 
السيرة الذاتية
الأعمال الأدبية
عن الشاعر والتجربة
سيرة النص
مالم ينشر في كتاب
لقاءات
الشاعر بصوته
فعاليات
لغات آخرى