حصتان للريح
حصة تفزع البحر وحصة تدفع القلوع. وفي تلك السنة التي انقلب فيها
البحر على السفن، أخذ البحر الحصتين معاً. لعب بالسفن مثلما يلهو الطفل
بالحبر والمخطوطات في هامش النص. للآلهة لهوٌ يضاهي لهو الأطفال. كانت
الشطآن بعيدة والنساء هاجعات في مراقدهنَّ الموحشة يحلمن بالرجال عائدين
على خشبة منسابة مثل هودج يؤوب بالمليكة نحو عرس وشيك. فإذا بالبحر
يعود وحيداً متظاهراً بالبراءة، يسألنه عن الرجال فيتقمّص دور البريد
البارد، يشرع نهنهة مكتومة ثم يصدر بكاء مموه، وسرعان ما يطلق الصرخة
الماجنة. يعلن بريده المشؤوم في سرادقات ملفقة ويسرد الحكاية، كمن
يتلو التراتيل في جنازة يجهل صاحبه. يتظاهر ببسالة الفارس العائد بالهزيمة،
فلا يصدقن رواياته المفتعلة. وعندما يأخذن في إشعال نيران الحسرة والغضب
ويبدأن كيّه بالنيران لكي يعيد لهنَّ رجالهنَّ سالمين، يبدأ البحر
في إطلاق صريخه الفاجر، لكنهنَّ لا يصدقنَ براءته، فيزدن عليه النيران،
فيتأوّد ويتلوى تحت وطأة حسرة أكبادهنَّ متلذذاً بنحيبهنَّ الفادح،
وفي ذروة المآتم يبدأ في الاعتراف ويسرد لهنَّ أكثر القصص ضراوة :
(زوجك يا مريم كان في مقدمة الذين سمعوا وقع خطوات الإعصار، فقذف بنفسه
في فوهة الماء لكي يصدّ الهجوم/ ابنك يا فاطمة صفعته حبال القلوع فأوشك
على التشبث بخشبة الصارية المكسورة لكن / أبوك يا ليلى فشخت رأسه مقدمة
السفينة وهو يحاول الإمساك بنجاة نادرة / شقيقك يا نعيمة كان نائماً
ومات قبل أن يصحو / أبوك أيها الطفل كان في قارب الذخر، وكان بعيداً
عن سفينته، لا نعرف ما إذا كان قد أدرك اليابسة، لعله يعود من الأقاليم
البعيدة / وزوجك يا أمينة كان في الخنّ ينزف نضح الخشب، فيما كانت
السفينة ترسب كاملة في اليم / أكثرهم ذكاءً سلطان الذي قذف بالفنطاس
وتشبث به منادياً بمن يسمع لكي يتبعه/ وابنك يا زهرة كان قد قفز لكي
يحضر غطاء الفنطاس في سفينة الماء فأخذه الماء الأعظم/ وعندما تصاعدت
ألسنة اللهب المذعورة من السفن كان الجميع ينشد بالصوت الجارح مرثيتهم
الرهيبة حيث الخشب الخفيف يتثاقل مثل الفولاذ ويغوص بلا حبل نحو قواقع
ليست في الحسبان). فتصرخ النساء بالبحر (وأنت. أنت، أين كنت). فيتلعثم
البحر مثل طفل يوشك على الغرق. (لم أكن في مكان، لقد كنت وحيداً في
الأعالي. باغتتني الصاعقة مثلما باغتت الناس. كنت أحاول إنقاذ تلك
الكائنات الصغيرة، لكن الريح كانت كبيرة وغادرة بما يكفي لعصف كل خشبة
تعوم. وكان غطاء كثيف من الظلام يركض به مردة قاهرون يكتمون به أنفاس
المشهد. لكي يتحول النهار الواضح ليلاً دامساً لم أصادف ليلاً مثله
طوال عمري. كنت مأخوذاً بما يحدث، ثمة آلهة كانت تعبث بنا في تلك الساعات.
لستُ سوى ضحية مثلكم، ضحية حاولت أن تنقذ الضحايا، فلا تظننَّ بي الظنون.
إن فقدي أعظم مما تشعرون أيتها النساء. لقد كان الجميع أطفالي أيضاً.
لكم أن تتخيلوا بحراً بلا رجال مثل رجالكم. لقد توهمت أنني الحاكم
المتحكم في رعاياه، توهمت ذلك لفرط ما كنتم تقولون عني، توهمت أن بيدي
الحياة والموت، فإذا بالموت يعسف بنا جميعاً. لست إلا ماء غزير يمنح
الأرض ميزانها. إنظرن الآن كيف أبدو وحيداً. كيف تعاقبون بحراً مفقوداً
مثلي. إنكن تضعون النار على جسد مصاب بالفقد. جسد في الثكل أكثر مما
تحسبون). ثم أجهش بالبكاء مثل رجل يريد أن يغرق مع أطفاله الذين أخذهم
الموت من بين يديه. فكفتْ النساء عن الندب وتوقفنَ عن وضع النار في
الماء. وأخذت كل امرأة تكفكف دموعاً حارة طفرت فجأة بشكل مضاعف. وأخذ
المشهد في التفاقم. بدت النساء في موقف من يحاول تهدئة بكاء شاسع راح
يغمر الأفق. وتضاءل حزنهن أمام حزن البحر. وللمرة الأولى رأت النساء
بحرا أليفاً لم يعهدوه من قبل، بحراً حملوا له الضغينة طوال السنين
لفرط ما أخذ منهن الرجال معظم أشهر العام، للغوص والسفر. والتفتت كل
واحدة تعانق الأخرى، يتبادلن العزاء لفقدٍ ناجز والتهنئة على حبيبٍ
وشيك.أيها البحر.. البحر.ماذا فعلت برجالنا لكي تستحوذ علينا بهذا
الشكل الفاتن. أيها البحر يارجلنا الكبير الماثل في حضرة هذا الفقد
الذي لا يحتمل. حصتان تنالان منا حـدّ الشغاف. حصة تصعد بالإعصار حتى
نهايات البحر، وحصة تهبط بالسفر كي نفقد رجالنا دفعة واحدة في غفلة
من الأرض. أيها البحر يا رجلنا الجليل يا إرثنا المهيب، أهدأ قليلاً
لكي نتثبّتَ مما أصابنا معاً، أنت لاضطراب ميزانك، ونحن لفقدنا الكثيف
لرجالنا النبلاء في غوصهم. أيها البحر.. البحر. دعنا نتذكرك مثلما
يمسح الشخص مرآة فناره في ليلة ممطرة. مرآتنا القديمة التي يغمرها
غبش كثيف لفرط ما تعاقب عليها من سنوات العمر. دعنا نتذكرك، لننساك،
ونتذكرك ثانية، أيها البحر، نتبادل معك الفقد والتذكر والنسيان.
|