على مبعدةٍ من العقل،
عن كثبٍ من الجنون
ثمة شعور غامضٌ سينتابنا لحظة حضوركم هذا العرض : لن نصدّق بأننا
انتهينا من هذه التجربة حقاً. فقد أمضينا في معايشة هذه التجربة سنوات
شارفت على الثلاث، وعبرنا درجات مختلفة من المعاناة تتراوح بين لذة
الاكتشاف والخلق وضراوة الانتظار، وجميعنا كان على شفرة رهيفة من موتٍ
بشحذنا مثل النصال. ذلك كله لم يكن ليدفعنا إلى اليأس، على العكس،
فقد كنا بين وقت وآخر نكتشف في تجربة الوقت امتحاناً ينبغي على الفنان
أن ينجح في مجابهته بالصبر الجميل، خصوصاً ونحن بصدد تجربة أقل ما
يقال عنها إنها مغامرة على أكثر من صعيد. بدايةً، لابد لنا، قبل كل
شيء من الإشارة، بأن إبراهيم بوسعد كان هو صاحب الفكرة في البداية،
وهو المحرّض الرئيسي الذي غرر بنا، لكي نجد أنفسنا يوماً بعد يوم متورطين
في مشروع لا فكاك منه، وربما كان جزاؤه على ما فعله بنا، أنه كان أكثر
المشاركين عرضة للضغط النفسي، بسبب الوقت الذي كان يعبر عليه مثل حديد
العجلات الباهظة، وكنا نرأف به ونشفق لكونه الكفيل بنفسه والكفيل بنا
في نفس الوقت. بالنسبة لنا، كانت التجربة (ولا تزال) واحدة من أجمل
المغامرات التي يمكن أن تتاح لفنان يتوق لتحقيق نفسه بأشكال جديدة
وجادة وجميلة في آن واحد. دون أن يكون هذا الكلام حكم قيمة على ما
أنجزناه (حتى الآن ).
لا يجمع بيننا سوى الإيمان بأن حرية المخيلة هي شرط الإبداع الأول.
لا يجمع بيننا سوى الشك في أن لا جديد تحت الشمس.
لا يجمع بيننا سوى اليقين بأن في الإمكان أحسن مما كان.
لا يجمع بيننا سوى الثقة بأن كل شيء ليس على ما يرام.
لا يجمع بيننا سوى شهوة لاكتشاف مجهول يغري بالذهاب إليه.
لا تجمع بيننا سوى لذة التجربة وتوق التعبير عن الذات، بما يجعل الفن
جديداً مثل الطفولة وجديراً مثل الحب.
لا يجمع بيننا غير الصوت الغامض الخفي الذي يصدر من الأعماق، هامساً
بأن في المخيلة من الطاقة ما يغني عن الجلوس تحت عتمة الذهن وكآبة
العقل وجلافة المنطق وإدعاء الكمال.
لا يجمع بيننا غير جذوة صغيرة مكبوتة، نشعر بأنها تهدينا نحو ما لا
يقاس من المكتشفات، كلما أطلقنا لها حرية اللهب والتوهج والاشتعال.
ترى هل بقي مما لا يجمع بيننا، لكي نتأكد ما إذا كانت التجربة كفيلة
وكافية ؟ قادمون من الأنهار البعيدة، نحو نهر جديد نزعم أننا لا نعلن
عليه غير شغف الاكتشاف والكشف. قادمون من الاختلاف إلى ائتلاف يتخلّق
بفعل الوقت بالعناصر المكوّنة الثلاثة : الرسم والكلمة والموسيقى .
قادمون من المنابع البعيدة، نحو المصبّ الأعظم، حيث تقاطع الجسد بالروح.
مأخوذون بالهدم والبناء في آن. هدم حدود الفنون (بوصفها تخوماً)، وإعادة
بناأها من جديد (بوصفها أفقاً). مولعون بالوقوف في مهبّ التجارب، عراةً
من جاهزية الشكل والرؤية والمواصفات. نضع أيدينا في صلصالٍ يتحوّل
و كتابةٍ متغيرة وميلودي لا يعرف الثبات.نعرف أن المسافة بين النص
واللون والموسيقى تكون عرضة للتضاؤل كلما فتحنا حدودها على الأفق،
فليس بين هذا المثلث غير علاقة الروح بالجسد. فأنت لا تستطيع أن تعرف
الحدود بين الدم والجرح إلا بالقدر الذي يمكنك فيه فرز الورد من الرائحة.
وفي هذا ضرب من فيزياء النفس الغامضة. أمام حصيلة زمنٍ يشرف على ثلاثة
أعوام من العمل الهادئ والمتأجج معاً، لن يكون سهلاً علينا (ولا على
غيرنا) أن يُقالَ رأيٌ سريعٌ. ففي مثل هكذا تجارب، يتوجب علينا أن
نتميز بكثير من التواضع، ونعترف بأن الوقت كفيل بنا وبتجربتنا، فمن
يعمل في تجربةٍ كل هذا الوقت، لا يتوقع أن يسمع رأياً مرتجلاً كالذي
تعودناه إزاء العديد من التجارب الماثلة في سياقنا الثقافي. لا نطالب
إلا بإصغاءٍ جميلٍ وتأملٍ نشيط المخيلة لما تقترحه هذه التجربة، فلدينا
من الوقت ما يكفي لكي نتأكد مما نحن ذاهبون إليه، ويثق الآخرون بأننا
لا ندعوهم لنزهة مترفة، لكن إلى حوار مبدعين في جنة التجربة. وعادة
لا يتمنى المبدع الذهاب إلى هناك وحيداً. فكأننا لا نرى في الأفق غير
المستقبل الذي لا يتأخر عن موعده. والمستقبل ليس بعيداً على مَنْ يذهب
إليه. فليس أسرع من الوقت في الحياة.
كيف يمكن أن تتداخل وتتقاطع فنونٌ بهذا القدر من الاختلاف والمغايرة،
من حيث طبيعتها التعبيرية ومن حيث تكوينها الفيزيائي. هذا سؤالٌ نحب
أن يواجهه الآخرون، (كلٌ حسب اجتهاده واتصاله)، تماماً مثلما واجهناه
منذ الوهلة الأولى، عندما وضع كل منا (وجهه في وجه الآخر)، لكي نرى
وجوهاً كثيرة تتقاطر علينا، هي أضعافُ الوجوه التي تحاصركم في هذا
المشهد. وجوهٌ تقترح علينا السؤال الجوهري ذاته. سؤالٌ بدا لنا، آنذاك،
أنه يقارب المستحيل. المستحيل !؟ عندها فقط تأكد لنا أنها وجهتنا الصحيحة
: المستحيل. ثمة احتمالٌ أن يكون أقل أهدافنا هو هذا المستحيل الذي
تزعمه الفكرة ويهاجمنا به السؤال. وما أن أخذَ كلُ واحد منا يستدرج
الآخر، ويغويه، ويوقعه في الفخاخ والشباك، حتى بدأت لدينا رغبة غامضة
في تحدّي الذات. وفي الفن يكون التحدّي الإبداعي هو البهو المفتوح
لكي تعبّرَ الذاتُ عن ذاتِـها.
بيننا صلةٌ غامضةٌ جعلت إبراهيم بوسعد ينتخبنا انتخاباً لكي نشترك
معاً في هذه المغامرة. هذه هي إذن. إنها المغامرة خصوصا. لقد وضع بوسعد
يده على أقوى نقاط ضَعفنا في هذا المجال : المغامرة. وبتأملٍ سريع
سوف يتصادفُ أننا نشترك في هذه الخاصية بدرجة أو بأخرى كلٌ في مجاله.
وإذا كان النفّري يقول (بأن في المغامرة جزءٌ من النجاة)، فإننا نأمل
أن لا ننجو مما ذهبنا إليه. لم يستقر الرسامُ منا في شكلٍ و طريقة
واحدة منذ أن بدأ الرسم. لم يقنع الموسيقي فينا بإيقاعٍ رتيب مستقر
واحد معروف منذ أن بدأت علاقته بالتأليف. لم يجد الشاعر غير كنزٍ مفعمٍ
بالمفاجآت، وهو يرى إلى نصه وكلماته تتعرض لكل هذا القصف الجميل، من
رفقة تجد نفسها أمام المزيد من المرايا كلما أمعنت في المعنى. ولم
يتردد الجميع من وضع يده، ومن ثم جسده كله في العمل، مثل كتيبة تشتغل
على منجم. وإلى ذلك كله، لم نجد في التفسير المتبادل والمتناوب بين
الفنون جوابا شافياً لبحثنا ومكتشفاتنا. لا نرى في الرسم تفسيراً للنص،
ولا في الموسيقى شرحاً للرسم. ففي التجربة التي نذهب إليها لا رغبة
لدينا في تفسير بعضنا البعض، على العكس، نحن نتوق إلى مفاجأة أحدنا
للآخر ومباغتته أيضاً. ونتمنى أننا لم نفعل شيئاً طوال الوقت غير مباغتة
أحدنا للآخر بما ينجزه ويضيفه إلي العمل، وكنا نستمتع بما نفعل مثل
أطفال لا يرغبون في مغادرة الطفولة.فقد كان كل منا يفتح الأفق كاملاً
للآخر لكي يمارس حريته القصوى في التعبير عن ذاته، بعيداً عن الخضوع
لما يمكن أن يعتبره سلطة عليه. وبهذا رأينا أن على كل منا حضور المشهد
بمخيلته الخاصة، حراً من مسبقات تقترحها عليه التصورات الجاهزة.
كيف تكون حراً تحت وطأة هذه الوجوه التي تحكم عليك الحياة و الموت
؟! وإذا أنت لم تطرح السؤال على هذه الوجوه، فإنها كفيلة بأن تطرحك
خارج المشهد. ساعتها يتوجب عليك فقط أن تتأكد بأن السؤال يمكن أن يكون
حاسماً كلما تقدمت نحو هذه الوجوه، وحدَّقت أكثر في أحداقها المتأرجحة
مثل نصل المقصلة. جئنا بكل هذه الوجوه، التي أمكن اصطيادها في غابة
الناس، لنتأكد مما إذا كانت الحياة هي أيضاً حمّالة (أوجه)، كما قِيلَ
عن النصوص ؟! لا نزعم أن لدينا جوابا لمثل هذا السؤال، لكن لدينا سؤالٌ
آخر، وهو : كيف يمكن أن يصوغ الآخرون أسئلتهم في مواجهة هذه الوجوه..
هل يقول : وجوهُ مَنْ هذه، أم يقول : وجوه ماذا ؟! ولا نزعم أيضاً
أننا تمكنّا من تفادي هذا السؤال، بعد أن قطعنا شوطاً طويلاً في هذه
التجربة. فقد كنا ضحية دائمة ومباحة للقلق الذي يمكن أن يصل إلى درجة
المرض عند الرسام، وحد الخسارة عند الشاعر، وحد التوتر عند الموسيقي،
واضطراب شامل عند الجميع.
لكن يقيناً أننا لم نكن نرأف بأنفسنا خلال فترة الشغل. كنا كمن يضع
نفسه تحت مجهر الامتحان المستمر، في مجمرة التجربة التي لا تهدأ. وأحياناً
كثيرة كنا نغضب من أنفسنا ونذهب في غيبوبة الذات، كأن كل شيء سينتهي
في نهاية الأسبوع القادم. وما أن نجتمع ونتأمل ما وصلنا إليه، حتى
نتخيل بأن الطريق إلى الإبداع ربما كانت أكثر جمالاً من الإبداع ذاته.
وربما كانت المتعة التي يشعر بها الفنان أثناء عملية الخلق والتخلّق،
هي واحدة من الذروات التي لا تتحقق كل يوم، وكلما كانت هذه المتعة
عميقة وجميلة وراقية، أصبحَ العمل الفني مرشحاً أكثر لمتعة الآخر.
فنتفق على كبح رغبة الراحة والنهاية فينا، ونعتقد بأهمية الاستسلام
للتحدي، ونفسح للوقت أن ينال منا ما يشتهي.فأنت سيد الوقت قبل نهاية
كل شيء، وما أن يخرج الشيء من يدك، حتى تصير عبداً له. نزعم أننا لم
نأت إلى هذه التجربة برغبة العبودية، ولكن بشهوة المزيد من الحرية.
كثيرون سيخالجهم السؤال عن معنى كل هذا الجنون الذي نذهب إليه، وهو
جنون ربما كان في الاتجاه المعاكس لذهاب غيرنا، خصوصاً ممن يبحثون
عن المعنى قبل كتابة النص وقبل نهاية الإيقاع ودون أن يجفّ اللون.
لكن في الفن : الفن هو المعنى. عادة تقول عن الشيء الذي يستحوذ على
إعجابك، بالتعبير الشعبي السائد، إن هذا (فَنَّ). وفي القاموس، فَـنَّ
الشيء زيَّنَه. وتفنَّنَ الشيء تنوعت فنونه. وبهذا نكون قد قاربنا
الفن بوصفه زينة الحياة، أو هو الحياة في زينة من الفنون الجميلة.
ترى إلى أي حد نستطيع أن نعتبر ما نقترحه في هذه التجربة فناً، بالمعنى
التقني وبالمعنى الجمالي؟ وبالتالي بالمعنى الذاتي الذي ظل يستحوذ
على تجاربنا، ثلاثتنا، كل في مجاله، طوال ربع القرن الأخير. نحب حقاً
أن ينظر إلى تجربتنا في هذا المثلث، المفتوح على مساهمات غاية في التنوع،
باعتبارها شرفة تطل على حياتنا في الحياة، وعلى حياتنا في الفنون الثلاثة
التي جئنا منها. لسنا معنيين بالأجوبة، تستهوينا الأسئلة إلى حدّها
الأقصى، وكلما نجحت هذه التجربة في طرح لمزيد من الشك والأسئلة حول
القضايا الجوهرية في النشاط الإنساني، فناً ورؤية واحتمالاً، تيسر
لنا الشعور ببعض الاطمئنان بأننا لا نرتكب إلا الأخطاء الصائبة، تلك
الأخطاء التي تمنح الوجوه طبيعتها الإنسانية، حيث الخطأ علامة الشك
منذ الخلق الأول. .
لقد تكفّلَ بنا السؤال منذ اللحظة الأولى :
(كل هذي الوجوه التي تؤرجح أحداقها في زجاج الفضاء،
غابة أم بشر ؟!).*
نص كلمة معرض ( وجوه ) المشترك :شعر قاسم حداد تشكيل
إبراهيم بوسعد موسيقى خالد الشيخ.
|