حد الجنون
ثمة حكاية في التاريخ الثقافي الأوربي تتصل بالأدب من جهة وبعلم النفس
من جهة أخرى. وهي من جانب خاص تتصل بموضوع الجنون الذي يقترح على الإنسان
تجربة من النادر أن يكون صاحبها قادراً على وصفها فيما بعد. ربما لأنه
قد لا يكون موجوداً (فيما بعد) بنفس القدرات الذهنية التي كان عليها
قبل ذلك.
طلب الروائي الأيرلندي الشهير جيمس جويس نصيحة المحلل النفسي المعروف
كارل جوستاف يونج حول حالة ابنته الأولى التي كان سلوكها مسبباً لكثير
من القلق لدي أبيها، وكان يبحث لها عن الرعاية الطبية أينما وجدت.
وقد قام الدكتور يونج بإجراء فحوصات كثيرة لابنة جويس، واستنتج أنها
تعاني من الخبل المبكر (الاسم القديم للفصام).فسأله جويس : ولكن كيف
استطعت أن تعرف ذلك يا دكتور يونج ؟ فأجاب يونج بأن تفكيرها وكلامها
يتسمان بالتشويه والانحراف الشديدين، وقد جعلت حالتها من الوصول إلى
ذلك الاستنتاج الخاص بمعاناتها من مثل هذا النوع من الجنون أمرا ممكناً.
وقد احتج جويس على تشخيص بونج قائلاً بأنه، في نمطه الخاص من الكتابة،
حاول أن يمد بشكل متعمد حدود اللغة، بحيث قد تبدو منحرفة ومشوهة، ما
هو الفرق. أجاب يونج بأن جويس وابنته مثل شخصين ذهبا إلى قاع النهر،
لكن بينما استطاع جويس أن يغوص إلى الأعماق النفسية للحياة ويعود منها،
فإن ابنته قد غرقت فيها، إن المريض العادي لا يستطيع أن يساعد نفسه
في التفكير والكلام بهذه الطريقة، بينما استطاع جويس ذلك وتمكن من
أن يطور ذلك خلال كل كتاباته الإبداعية.
هل يقدر العقل على إنجاز مثل هذه العملية لدي المبدع، وينجح دائماً
في العودة ؟ دون أن يقدر المريض أن يجتاز التجربة بنفس الدرجة من النجاح
؟ وهل يعني هذا أن المبدع هو بمثابة مجنون مؤقت فيما هو يكتب النص؟
حسب يونج، سيبدو من المستبعد أن يحدث هذا الأمر بنجاح في حالة المريض،
دون أن يؤكد لنا أن نجاح المبدع مضمون في كل مرة يجتاز هذه التجربة.
الأمر الذي يجعل الكتابة، بمواصفات جويس خصوصاً، تشكل خطرا ماثلاً
في كل مرة يتصاعد فيها تماهى فعل الإبداع في حالة الجنون. وفي الحالات
التي يكون المبدع قادرا على تفادي المكوث في المكان الذي يأخذه إليه
النص، تكون درجة نجاح المبدع في العودة إشارة (تقنية) إلى احتمال تفادي
جنون وشيك. ربما لأن الأديب يعرف أنه يذهب إلى (هناك) ويتوجب عليه
دوماً أن يعود ثانية. أما المريض فإنه لا يعرف إلى أين يذهب ولا إلى
أين يصل، فهو يذهب إلى الأعماق مثل الغواص الذي يضع في قدميه كتلة
الرصاص لكي تأخذه سريعاً مختزلة فترة الوصول إلى القاع، لكنه لا يدرك
(مثلما يدرك الأديب) بأن عليه أن يفكّ عن قدميه كتلة الرصاص تلك. وهذا
ما يفعله الغواص بعد أن ينال اللؤلؤ. المريض يرى أنه في طريق لا نهاية
له، وعليه أن يصل، دون أن تكون لديه فكرة واضحة عن طبيعة هذا الوصول،
فهو يجهل كل شيء عن الطريق والعلامات والهدف. فكلما ازداد انغماسه
في الأعماق السحيقة للنفس تورط أكثر في غرق لا منجاة منه.
ترى، هل كانت حالة جيمس جويس هي قرينة لحالة ابنته، تختلفان في الدرجة
وتتماثلان في النوع ؟ وهل يمكن اعتبار قدرة الأديب (جيمس) وإدراكه
لمعنى الدور الذي يمارسه، ومعرفته بوسائل إنتاج تلك العملية وتحقيقها،
هو ما يفرقه عن المريضة (ابنته) التي تعوزها هذه الشروط، وبالتالي
تفتقد لآليات تحويل ذهابها إلى عملية إنتاجية قائمة على تحويل الحالة
إلى نوع من الفعل المنتج ؟ وهل يتصل هذا، بما يذهب إليه ميشيل في أحد
تعريفاته للجنون عندما يقول : (إنه دون شك لا شيء سوى غياب الإنتاج،
إنه اللاانجاز الفعال، اللااكتمال النشيط لمعنى لا يتوقف عن تحويل
نفسه، لا يقدم نفسه إلا لكي لايفهم أو يستوعب). وبالتالي فإن المريض
يقصر عن تملك تلك الموهبة التي تقود، كما القناديل في ليل دامس، خطوات
المبدع في مجاهيل الأقاصي العميقة للنفس البشرية ؟
يبدو أن احتجاج جويس على التحليل الذي اقترحه يونج لحالة الإبنة المريضة،
هو ضرب من الدفاع عن النفس، كما لو أن المبدع لا يرى في الوصف الطبي
مظهرا يليق به، لأنه وصف يتصل تماماً بحالته وهو في حالة الكتابة.
و نخشى أنه سوف يمنع ابنته من الخضوع للوصف العلاجي الذي سيترتب على
التشخيص المقترح من الطبيب، في محاولة لحماية ذاته المبدعة من ارتباطها
بالمفهوم السائد للجنون في المجتمع. ولأننا لم نعرف تماماً مصير الإبنة
بعد ذلك الموقف، إلا أننا سنتوقع من جيمس جويس أن يتضرع مع الملك لير
داعياً : (أيتها السماء الرحيمة، لا تجعليني مجنوناً، مجنوناً، حافظي
عليَّ في رفق، فلن أصبح مجنوناً) ومن المصادفات الموضوعية الفاتنة
أن الملك لير هو الآخر كان محاصراً ببناته اللواتي يهددنه، على طريقتهن،
بجنون وشيك. غير أن جنوناً يتصل بالكتابة (في حالة جويس) سيتوجب عليه
أن يضاهي جنوناً يتصل بالملك (في حالة الملك لير). ترى هل يمكن أن
نرى في شهوة الكتابة وشهوة الملك فعاليتين إنسانيتين تتميزان بالتطلع
لتحقيق الذات، بدرجة موغلة في السمو والذاتية، وتتصلان ( عمقيا ) بالإبداع
؟ أليس الجنون هو أيضاً بوابة مشرعة أمام من يفقد السيطرة على مثل
هذه الشهوات ؟ ألا يصدر المجنون عن استحالة الوسيلة (الأدوات، الآلية)،
التي تسعفه في الذهاب إلى (هناك) وتخليص قدميه من كتلة الرصاص، ومن
ثم العودة باللؤلؤ، دون أن يقع فريسة الطريق الشائك والأعماق الغامضة
والنفس التي لا تعرف القناعة، خصوصاً فيما يتصل بالإبداع ؟
|