نتفة من عقل، مثقال من حكمة
يرى نيتشة، في واحدة من شطحاته الفلسفية، أن أمراً واحداً سيظل إدراكه
مستحيلاً إلى الأبد: ألا وهو (أن تكون عاقلاً، إذ ليس هناك سوى نتفة
من عقل ومثقال من حكمة). وحسب نيتشة، فإن هذين المقدارين لا يكفيان
لإسعاف الإنسان لكي يكون عاقلاً. وربما طاب لنيتشة أن يتفادى، هذه
المرة على الأقل، التأكيد على أن الجنون يبقى عنصر الحيوية الرئيسي
في طاقة الإنسان على تفادي قبول الواقع والاستسلام لشروطه. لا مفر،
حسب نيتشة، من الجنون لكي يكون الإنسان قادراً على الاحتفاظ بذاته
النقية بارئة من الدنس المتمثل في جلافة العقل الخاضع، الذي يكاد يجعل
البشر في مستوى حيوان يدور في ساقيته زاعماً أنه يعيش الحياة، في حين
إنه لا يشبه نفسه أبداً.
لقد ظلت الخرافة ناظماً واضحاً لمجمل الموقف الذي اتخذه المجتمع العربي
من المجنون، وتميز في عصور مختلفة ذلك الموقف بالتسامح الفذ، الذي
ظل المجنون يتمتع به حتى عصور قريبة. وقد حملت لنا كتب الأخبار جوانب
مختلفة من ذلك الموقف، الذي لم يكن يميز السياق الشعبي في الحياة العربية،
بل إنه كان يحكم تعاطي السلطات الرسمية وذوي الشأن، بحيث كان المجنون
يمارس خروجه عن المتعارفات الاجتماعية والسياسية، إلى الحد الذي يمكن
فيه الظن بأن المجنون العربي تمتع بسطوة وحظوة لم تنلهما الرعية عموماً
في تاريخها العربي. يروي النيسابوري في كتابه (عقلاء المجانين) أنه
دخل أحد دور المرضى في هراة (فإذا بشيخ مسلسل، فقلت له : يا شيخ أتريد
النجاة مما أنت فيه ؟ قال : لا. قلت : ولم ؟. قال : لأن القلم مرفوع
عني فيما أتعاطاه، فإذا نجوتُ من هذه البلية أجرى القلم عليّ، فقد
حبستُ و أطلق عنك، وستحبس ويطلق عني).
في حياتنا ثمة مجموعة كبيرة من المجانين كانوا يعيشون بيننا، بسلام،
لا تقضّ مضاجعهم المخاوف. بل انهم كانوا جزءاً من الجسم الاجتماعي،
دون أن يبدو في ذلك شذوذاً، فحتى نهايات الستينات، لابد أن أكثرنا
يذكر كيف كنا نعايش هؤلاء الكائنات الشفافة في حياتنا اليومية، وكانوا
يشكلون ظاهرة طبيعية لا تربك الحياة، ولا تستوقف أحداً منا، إلا لكي
يعمل مجدداً على ابتكار أفضل الوسائل لتحسين اتصاله بها كظاهرة إنسانية
غاية في النعومة والبراءة. لقد كنا نعايش عدداً كبيراً منهم في البيت
والعائلة، في الشارع والأسواق والمقاهي، في مواقع العمل ومجالاته المختلفة،
في مراحل الدرس، من الكتّاب حتى المدارس، وأتذكر أن معايشة طريفة حدثت
لي مع أحدهم في السجن أيضاً. ولعل ذلك السياق، إذا نحن استحضرناه الآن،
يكشف لنا كيف أن ظاهرة الجنون لم تكن تشكل على الصعيد الإنساني أزمة،
ربما لأن القيم الأخلاقية، كانت آنذاك، تقود سلوك الفرد بطواعية وسلاسة،
وتجعله قادراً على التعامل مع الظاهرة بقدر كبير من رحابة الصدر والبساطة،
وبعيداً عن التعقيد الذي نصادفه اليوم.
في المشهد الراهن، سوف نصادف نماذج غريبة من الجنون. أبرزها تلك الشخصيات
التي تلجأ لحالة الجنون (كسلوك شطحي) لاستخدامه بوصفه ضرباً من التقيّة،
حيث يمكن التماهي فيه لتبرير النقائض النقدية التي يمكن، من خلالها،
تسريب مواقف سياسية واجتماعية، قد لا يتيح الواقع المؤسسي مجالاً لإعلانها
بالطرائق الطبيعية والمشروعة. ولأن تهمة الجنون لن تعود تقلق هذه النماذج،
فسوف يختلط هذا الإطلاق بما يشبه تعبير الدروشة أو التصوف. دون أن
يضطر هذا الشخص أو ذاك (ممن لجئوا إلى هذه الحالة الشطحية) إلى الدفاع
عن أنفسهم، لأنهم، في العمق، سوف يصدرون عن قناعة بأن للجنون مفاهيم
لا تحصى، ومقادير ومستويات كثيرة، إلى حد تكون لديهم الثقة بأن الآخرين
من الناس هم الذين يرزحون تحت قصور فضيع من العقل الغائب. وثمة ذلك
الفرق الشاسع بين الجنون وبين العقل الغائب. وعند بعض اللاجئين إلى
حالة الشطح المجنون، فإن الجنون هو ضرب من الإنزياح الجوهري للعقل
عن زوايا الرؤية العادية المتفشية عند الآخرين من الناس، وهو انزياح
رؤيوي يتميز بالجرأة والعمق. في حين أن العقل الغائب هو نوع من الفقدان
الفادح للإدراك البشري لشئون الحياة، وهذه حال تعد في الدرك الأسفل
من حالات العته المستفحل الذي يتمرغ فيه الآخرون من الكائنات التي
لا تشبه البشر إلا من حيث الهيئة، فيما هم في مرتبة البهيمة، لكونهم
يفقدون القدرة على الاعتراض في مواجهة شئون الحياة، وهم بذلك لا يستطيعون
الزعم بأنهم يعيشون الحياة، إنما هم يحيونها فحسب، وبهذا القياس فإن
الحيوان هو الآخر حيّ. وأصحاب حالة الجنون الشاطح، سوف يقدرون دوماً
على رؤية خلل العالم والجهر به.
|