له حصة في الولع
نثر مائل وشعر وشيك

مؤسسة الانتشار العربي
لوحة الغلاف : عبا يوسف - البحرين

 

5- عن كثب من الجنون

شهوة البيت

ربما كانت أفضل وسيلة، لتفادي الانتظار الطويل للوطن، هي الذهاب إليه، والسكن فيه، والعمل على تملّكه فيزيائياً. بهذا الشكل يلذّ لي (شعرياً) أن أرى إلى الذهاب الفلسطيني الأخير إلى الوطن. لا أجبر أحداً على عدم الإعجاب بالشروط التي أتاحتْ هذا الذهاب، لكن من المؤكد أن أحداً لا يقدر على الزعم بأنه يعرف تماماً تجربة الفلسطيني في ذلك الانتظار (لئلا أسميه الاحتضار) الطويل. وقبل سنوات كتبتُ، في سلسلة مقالات (أدبية) عن تجربة الخروج من بيروت، ما معناه أنه ليس بوسع أحد أن يكون فلسطينياً أكثر من الفلسطينيين. غير أن الأمر بالنسبة للشاعر العربي (الذي اخترقته الممارسة النضالية خصوصاً) لا يبدو سطحياً بحيث يمكن تميّز التخوم بين تجربته بمعزل عن التجربة الفلسطينية. وهي تجربة، من الوجهة الإنسانية كانت، حتى في أكثر مراحلها عنفاً وخطورة وعرضة للمحو، ملتبسةً في الروح العربي. وكلما حاول الشاعر العربي أن يتخلّص من حساسيته الروحية في تعاطيه لهذه التجربة، فسوف يفقد رافعاً معنوياً من الروافع التكوينية التي صاغت إنسانيته في المطلق.

لقد تعرّض الفلسطيني وقتَ كان في الخارج العربي (حسب خاطرة لشاعر فلسطيني صديق بعد تجربة العودة الأخيرة) لما يمكن وصفه بالخضوع المتوهم للحساسية العربية تجاه الشأن الفلسطيني. لم يكن واضحاً تماماً، بالنسبة لي، ما إذا كان هذا الوصف قدحيا بالصورة التي تلقيتها. غير أنني شعرتُ أنه، وللمرة الأولى يعبّر عن النزوع العميق للمعنى الذي حاولتْ النظرية الصهيونية مصادرته طوال أكثر من ثلاثة أجيال تقريباً. وصديقي الشاعر(الذي ولد خارج بيته)، كان يتحدث عن فلسطين (الأرض والناس) بدرجة من الاتصال، يمكن وصفها بالعشق المُكتَشف تواً. وهو أيضاً لم يتوقف طويلاً (بل إنه لم يتعثّر) بالصعوبات الجوهرية التي يجابهها الوجود الفلسطيني الجديد في الداخل بعد العودة الأخيرة. فقد كان يحدثني عن مشاريعه الميدانية التي هيأتْ له، للمرة الأولى (حسب تعبيره) التعرف على الوطن بالمعنى الفيزيائي ذاتياً وموضوعياً، الأمر الذي لم يكن متاحاً طوال الأجيال الثلاثة إلا بواسطة الكتب (شعرا وتنظيراً ومنافحات أخرى). ولأننا شعراء (كما يبدو) كان ثمة شعور برغبة غير معلنة في تفادي مناقشة مسألة العودة الأخيرة من الوجهة السياسية. ليس لأننا سوف نتعثر بما لا يحصى من الاختلافات النظرية، بسبب المخططات الشائكة التي نشكل جميعاً ضحيتَها، ليس لهذا السبب فحسب، ولكن لأن شعورا حميماً برفض أية خيارات بديلة تقترح على الفلسطيني التراجع مجدداً عن البيت الذي عاد للسكن فيه (أو الاقتراب منه على أقل تقدير). بمعنى أن النظرة الشعرية التي ظلت تقود الفلسطيني نحو بيته لا تزال قادرة على دفق الأمل الغامض في الجسد والروح الخارجَين من تجارب دامية في الخارج العربي، والعائشين راهناً في دموية أخرى في الداخل الفلسطيني، وهو أمل لا يتوقف عند المعادلات السياسية الرائجة في الواقع العربي والعالمي. ثمة البعد التاريخي الإنساني الذي ليس للفلسطيني (إذا حاول بعض العرب) تفاديه، فيما يقف بقرب الحائط القديم لبيته. ففي مثل هذا الموقف، سيكون للإنسان شعور لا يطاله المعادل السياسي، ولا تسطو عليه النظريات العابرة.

لقد مسَّ الشغافَ وصفُ صديقي الشاعر بأن التعاطي الفلسطيني مع التجربة الفلسطينية كان يصدر، طوال الوقت، عن الحساسية العربية، بمعنى أنه كان يرى إلى فلسطين بوصفه عربياً أولاً وليس العكس. أقول، طاب لي هذا الوصف، ربما لأنني رأيت فيه تشخيصاً يمسّ (عمقيا) الحالة النضالية العربية، التي كنا طوال الأجيال الثلاثة نصدر منها، بوصفها البعد الروحي للحلم العربي، ذلك الحلم الذي لم يكن ليتحقق (حسب استراتيجيات النضال العربي) بغير العنصر الفلسطيني. وهو أمر جعل من هذا الحلم شبيها بالمستحيلات، ربما لأن العناصر العربية (في تمثلاتها المحكومة بالواقع) ما كانت لتسمح بأية متغيرات جوهرية ما دامت تضع العنصر الفلسطيني في مواجهة التجربة العربية، ليس بوصفه دافعاً إيجابياً يغذي الأمل العربي قاطبة، ولكن بجعله عنصراً سلبياً يعمل على عرقلة أي خطوة ملموسة للمسّ بكيان المنظومات العربية المهيمنة، المحمية بالإمبرياليات. بمعنى أن الفلسطيني كان محروماً من حرية الحلم بوصفه فلسطينياً، ودفعه دائماً إلى التوهم بأنه لن يتحقق إلا بوصفه عربياً بالدرجة الأولى، في حين كان مصادراً على العربي الحلم، باحتمال تحققه الوطني، بمعزل عن العودة الفلسطينية. وكلما التبسَ الأمر بالنسبة للعربي، تفاقم الوهم في الجانب الفلسطيني بأن الطريق إلى فلسطين لابد له أن يمر بالواقع العربي، هذا الواقع الذي لم يكن يتحرك حقاً باتجاه فلسطين. وبذلك ينجز النظام العربي مشروعه المزدوج (المجيّر إمبريالياً)، المتمثل في : تكريس الواقع العربي بأشكاله السلطوية التقليدية من جهة، وتأخير أية خطوة موضوعية للاقتراب الإنساني للفلسطيني نحو بيته من جهة أخرى. فكلما كان الفلسطيني بعيداً عن بيته أطول مدة ممكنة، كان علينا جميعاً الوقوع تحت وطأة الوهم بأن ثمة أنظمة عربية كفيلة (بمساعدتنا) على تحقيق الأحلام، تلك الأحلام التي هي (عمقيا) نقيضة تاريخية وكونية لهذه الأنظمة بالذات.

لسنا، هنا، بصدد التثمين الإستراتيجي للعودة الأخيرة للفلسطيني. فليس إعجابنا أو عدم إعجابنا (سياسياً) بالطريقة التي عاد بها الفلسطينيون إلى (أرضهم)، مقياساً جديراً للنظر من خلاله إلى المشهد الإنساني الذي نتمرّغ فيه. وليس هذا الإعجاب أو عدمه أيضاً، كفيلاً بإراحتنا ضميرياً فيما نحن نتخبط في غابة أشراك اعتاد عليها الفلسطينيون أكثر من غيرهم طوال الأجيال الثلاثة. سيتحتم علينا، منذ الآن، أن نرى إلى الأمر باعتباره واقعاً متصلاً بالعلاقة بين الفلسطيني وذاته، المتمثلة فيزيائياً بما كان، طوال تلك الأجيال الثلاثة ذاتها، يسعى لتحقيقه لمرة واحدة على الأقل. مرة واحدة، تجعل الدفاع عن البيت بجسد وروح حاضرين في داخل البيت فعلاً. وبدون التغاضي عن التضحيات الأسطورية التي أنجزها الفلسطيني في الخارج، يمكن القول أن المرة الوحيدة التي جعلت الدفاع عن البيت من داخله، كانت هي المرة التي تمثلت في الانتفاضة، التي جعلت النظام العربي يعمل على تفاديها بالدرجة ذاتها التي بذلتها إسرائيل لأجل ذلك. لذلك فإن التوقف (دائماً) أمام الصيغة السياسية التي عاد على أساسها الفلسطيني لبيته (أو قريباً منه) من شأنه أن يعيدنا مجدداً لتلك الاقتراحات الفذّة التي يجري تداولها، بمواربة حيناً وبصراحة حيناً آخر، تلك الاقتراحات التي تبدأ من (انتحار) الفلسطيني ضحية الخروج من بيروت، ولا تنتهي بانسحابه إلى الخارج العربي لعدم صوابية اتفاقات أوسلو، دون أن نرى في مثل هذه الاقتراحات حسّاً تاريخياً يحفظ للضمير الإنساني درسه الحر في الحياة.

لقد ظل النظام العربي، طوال الأجيال الثلاثة ذاتها، يرهبنا بإسرائيل، بوصفها (العدو) الذي يتوجب تأجيل كافة المشاريع والأحلام للتفرغ لمجابهته، وكان النضال العربي (والفلسطيني في صلبه) عرضة للفتك لأنه يصرف هذا النظام عن معركته مع (العدو). وما إن فتح النظام نفسه على مشاريع التسوية، حتى بدأ يرهبنا ثانية بإسرائيل بوصفها، هذه المرة، (الصديق) الذي يتطلب ما لا يقاس من التنازلات، ليس عن الأحلام فحسب، ولكن أيضاً عن الأوهام التي صار بوسع النظام ذاته أن يزيّنها بدائلَ تليق بالمهزومين، كما لو أنَّ علينا تحمّل النظام العربي في الحالين، منتصراً علينا ومهزومين به، دون الشك في مصداقيته أو المسّ بمشروعيته، طوال ثلاثة أجيال لم يكفّ فيها عن الفتك بنا في سبيل تكريس وجوده، (عدواً) لعدونا و(صديقاً) له في الوقت نفسه. من هنا، نرى أن اللحظة التي تحققت (بغض النظر عن سياقاتها) فلسطينياً، بوجود الإنسان في بيته، جعلت من المشهد على درجة من المأساوية، لا تتيح لأحد مطالبة الفلسطيني ترك هذا البيت مجدداً، والعودة إلى خارجٍ لم يرأف أبداً بالجميع، لا الفلسطيني ولا العربي. إن أي ذهابٍ إلى خارج عربي الآن، من شأنه أن يضع الجميع في واقعٍ لا يقل عسفا عن الواقع الإسرائيلي (دون أن تعتبر هذه إشارة إلى ديمقراطية إسرائيلية متوهمة مفقودة في البلاد العربية) غير أن الواقع العربي، الذي يعرفه الفلسطينيون أكثر من غيرهم، لم يزل قادراً على إعادة الكرة (بدرجة مبالغ فيها من العسف) للمتاجرة بالفلسطيني من أجل مضاعفة المعاناة بذات العناصر وذات الأوهام. لسنا يائسين إلا بالقدر الذي يحصّننا من الأوهام، فمن الخطورة دائماً الاستسلام لتفاؤل مفرط.

وعلى الذين يشكون في (إسرائيلية) المدن العربية، عليهم أن يعيدوا تأمل الواقع العربي، ليس باعتباره، فقط، نظاماً سلطوياً متماسكاً وقاهراً، يبدأ من وسائل الإعلام ولا ينتهي بالقتل، ولكن بوصفه شعوباً مناضلة لا تزال ترزح تحت النظام نفسه طوال التاريخ الحديث. هذا النظام الذي سيكون مستعداً دائماً للفتك بالإنسان، بغض النظر عن صفته العربية أو الفلسطينية، وربما جاز لنا القول الآن، ونحن نشهد بوضوح دموية التجربة التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني في الداخل، بأن ما يرهب النظام العربي هي الفيزياء الغامضة المتاحة للفلسطيني لأن يدافع عن كينونته من داخل البيت، وظهره في جداره، أكثر من توهم النضال بالحساسية العربية من خارج البيت، وظهره في الهواء. ولعل ما يرهب النظام العربي عمقيا أيضاً، أن حربه و(سلامَهُ) المتوهمين مع (العدو) لكي يكون (صديقاً) لم يعودا متاحين لأن يبتّ فيهما بمفرده نيابة عن غيره. وربما جازَ لي الشعور بأن الطاقة الغامضة التي كانت التجربة الفلسطينية تدفقها في كياني النضالي طوال السنوات الماضية، هي الآن أكثر فعالية (كونياً) في بقايا أملٍ حميم لا يزال يدفعني للتشبث بما لا فكاك منه. وعندما يشعر محمود درويش، ذات نص، بأن الطريق إلى البيت قد تكون أكثر جمالاً من البيت، فإنني، هنا، أشعر نفس الشعور منذ سنوات طويلة، أنا الذي أجلس في بيتٍ ليس فيه من الجمال إلا بوصفه طريقاً (متوهمةً) لأحلامنا.

 
 
السيرة الذاتية
الأعمال الأدبية
عن الشاعر والتجربة
سيرة النص
مالم ينشر في كتاب
لقاءات
الشاعر بصوته
فعاليات
لغات آخرى