تكتيك المكان
أي مكان خارج البيت، هو الغربة،
و أحياناً.. المنفى. . .
يضعك السفر في مواجهة الخروج من إيقاعك الأليف، للدخول إلى إيقاع
الآخرين. وغالبا ما يبدو لك أن إيقاعهم غريب لا يشبهك، يختلف عنك،
سرعة أو بطئا أو كثافة. وهو في كل الأحوال ليس الإيقاع الذي اعتدت
عليه في مكانك. دارك، كتابك، كتابتك. حتى الطرق المألوفة التي يمكن
أن تقطعها بعفوية الطفل لاختبار أن كل شيء لم يزل في مكانه، الحجارة
والشوارع والناس والعناصر الكونية غير المنظورة التي يزخر بها مكانك.
(الكائنات التي يمكنك أن تراها وأنت مغمض العينين). في المكان الآخر
(الذي تقطع نحوه البحار والبلدان) لن تجد الأشياء كما تعرفها أنت.
ثمة أناس آخرين يعرفونها أكثر منك، إنه مكانهم وإيقاعهم الرتيب منذ
سنوات طويلة، أما أنت فسوف تتعثر منذ صباح اليوم الأول، عندما تترك
غرفتك لكي تتناول إفطارك في مطعم الفندق. فليس من المؤكد (وأنت الذي
تولد في تلك اللحظة بالذات) أن تهتدي للمقعد المناسب في المطعم لكي
تبحث بعينيك (دون أن تسقط بعض المقاعد وتصطدم بمزهريات الكريستال التي
وضعت خصوصاً لكي تعرقل مهمتك الأولى لتناول إفطارك) عن النادل الذي
سينظر إليك بغرابة من ينظر لكائن هبط تواً من الكوكب الغريب. وما إن
تنجح في إقناع النادل بأنك نزيل الفندق الذي يستضيف عدداً من الكائنات
الغريبة التي تترك منازلها وتسافر عبر القارات من أجل أن تقرأ شعراً
للآخرين (سيضحك سراً من الآخرين، مطمئناً أنه ليس منهم)، عندها سيكون
عليك أن تبدأ مرحلة الاتفاق على أن وجبة إفطارك هي نفسها التي توقعت
عدم الاتفاق معها. هذا كله سوف يحدث في مطعم الفندق في اليوم الأول.
أما إذا كنت ممن يبالغون في الثقة، ويتركون الفندق بحثاً عن الإفطار
الحر في المدينة بعيداً عن قائمة الفندق (و أنت المولع بطبق الفول
المدمس دائما)، فمن المحتمل أنك ستضيع تسع مرات قبل أن تنال وجبة إفطارك
في موعد الغداء تقريباً، وبعدها عليك أن تدبر مسألة العودة إلى الفندق
(لئلا أقول العودة إلى البيت) دون أن تضيع.. المرات التسع ذاتها.
الغرف الصغيرة. في النزل الصغير. أصغر كثيرا من العالم. قلوب الكائنات
الحميمة، في ذلك السفر، كانت أرحب وأكثر رحمة، من غرفة الفندق الفخمة
الباذخة و الهائلة مثل شرك. ترك بيته ليمتحن قدرته على الغياب. فتعثر
بالأفكار وشرطة المطار. و عاد هارباً من عشرين عاماً استغرقها ذلك
الأسبوع الصارم. تناول إفطاره في الركن ذاته الذي نامت فيه غربان الليلة
الفائتة، ولم يكن جائعا جاء من السهر الطويل والكوابيس
ولم يكن خائفاً لقد ترك البيت.. فحسب.
الأصدقاء أحياناً يجعلون السفر جنة الطريق و أحياناً يجعلون السفر
جحيم الحياة. لكنهم دائماً يفسدون طبيعة العزلة في الكائن، الكائن
الوحيد. يظل وحده.. معهم.
|