شخص يقع في الحب باستمرار
قاسم حداد / هنري ميللر
1
(إنني مدين لأصدقائي بأشياء كثيرة، لكني حين أتحدث عما أريد أن أفعله،
فإن أصدقائي هم الذين يقفون في طريقي أكثر من أعدائي. إنهم يأخذون
الكثير من وقتي. لا تخطئ في تفسير ما أقول. إنني أقدر الصداقة، وليس
في داخلي عدو مجتمع، وأومن إنني مخلص في صداقتي). ثمة صداقات كثيرة
التطلبات. كأن عليك أن تؤدي واجباً يومياً لتؤكد حبك. حين تضطر لفعل
ذلك سوف تفقد وقتك الخاص الذي تستدعيه علاقتك بالكتابة -وهي أنانية
بالمناسبة-. إنهم يدفعونك بالتالي إلى فقد شهيتك للصداقة. ثمة صداقة
فادحة إلى هذا الحد.
2
(أنا مشهور بشيء واحد، هو أن الناس يضايقونني، وإن أصدقائي في الغالب،
هم ألد أعدائي) الاحتفاظ بالأعداء أكثر أماناً من الاحتفاظ بالأصدقاء.
الأعداء واضحون، إنهم أعداء ويصرحون بذلك. أما الأصدقاء فمن النادر
أن تعرف ما إذا كانو كذلك طوال الوقت. أحيانا الحب، أحيانا طرق التعبير
عن الحب، كل ذلك يتكفل بك.
3
(يومي المثالي، هو اليوم الذي لا أقاطَع فيه، فلا نداءات هاتف، ولا
زوار، و لا رسائل أجيب عنها، هامة أو فورية. إنه يوم لي) ما إن تجلس
لكي تستمتع بهذه الجنة حتى يطلع عليك شخص، في صورة كارثة، يفسد عليك
عزلتك الذهبية. أوشك المجتمع أن يضاهي العدو. وحين يبالغ البعض في
التعبير لك عن حبه، توشك على مغالبة شعور مكبوت بالغضب، لئلا أقول
الحقد. كيف يمكنني تفسير ذلك لأكثر الأشخاص محبة.
4
(الخوف من الزائرين رهاب في داخلي، كما إن الهاتف رهاب، هكذا كان
طيلة حياتي.) أفكر جدياً في التخلص من أجهزة الاتصال في البيت. غير
أنني أجد نفسي مأخوذا بابتكار شبكة الإنترنت. هل لأنها تختزل لي العالم
في غرفة، وتحقق العزلة.
5
(أحب أن أكون مع أصدقائي الحقيقيين. أحياناً أفتح الباب لشخص غريب،
ثم يتبين أنه إنسان رائع، لكن هذا لا يعني أني أريد رؤيته ثانية. مرة
واحدة تكفي)أحياناً أقضي ساعات طويلة مع صديقي أمين صالح دون أن نتبادل
كلمة. كل منا يجلس بصمت إلى جانب الآخر، والفرح العظيم يغمرنا. نكتب.
نقرأ. نتخيل. لكننا لا نتكلم إلا عندما يبدأ الجحيم.
6
(لا شيء يستدعي الوقت والضبط. عليك أن تتدرب بانتظام وإلا خسرت. عليك
أن تكونه وتفعله يومياً. وهذا أحد الأسباب التي جعلت رجلاً مثل بيكاسو
مدهشاً هكذا. إنه لا يفقد لمسته، لأنه معها باستمرار، وليس عليه حتى
أن يفكر أكثر. إنها هناك.. في أصابعه. يلتقط الفرشاة، فتنبئه الفرشاة
بما يفعل. أو هكذا أتصور المسألة) في اليوم الذي يمر دون أن أقرأ أو
أكتب، أشعر بأن الكون ليس على طبيعته. ينتابني الذعر خشية أن تنساني
الكتابة والقراءة. إنهما بلا ذاكرة، إنهما مخيلة خالصة، والمخيلة لا
تتذكر شيئا، إنها ترى إلى المستقبل. أخشى أن أصير شيئاً من الماضي
غير القابل للاستعادة. لذلك لا أترك الغفلة تأخذ أصابعي عن الحرف،
مثل مقاتل يقظ.
7
(أنا شخص يقع في الحب باستمرار...). كأنني حين أكف عن الحب سوف أكف
عن الكتابة.
8
(الحق أنني كنت خائفاً من أغدو كاتباً. ولم أكن أظن أن لدي القدرة،
كانت الكتابة أمراً كبيراً. من أكون أنا حتى أقول (أنا كاتب) ؟ وأعني
كاتباً مثل دستوفسكي، جويس، لورنس.. ومن إليهم) غير أنني آخذ الدرس
الكثيف منهم، لكوني لم أزل قادراً على الكتابة. دون أن يدفعني هذا
إلى الزعم بأنني كاتب على طريقتهم.
9
(الحياة ملهاة لمن يفكر برأسه. ومأساة لمن يفكرون بمشاعرهم، أو يعملون
عبر مشاعرهم. وأعتقد إن فيّ الكثير من هذا) ليس ثمة حدود ملموسة بين
الفكر والمشاعر إلا بالقدر المتحقق بين الجرح و النزيف.
10
(لست مفكراً منطقياً، فمشاعري هي التي تملي تفكيري إلى حد كبير)....
لذلك سوف أموت كثيراً.
11
(في الكتابة، أجد غالباً صعوبة في البداية. لكني بدأت. بدأت بأي شيء
يرد إلى ذهني، هراء محض، عادة. بعد صفحة أو اثنتين أجد نفسي في المسار،
لا يهم من أين تبدأ، إذ تجد نفسك دائماً، تعود إلى ما ابتدأت منه.
لا تستطيع الفكاك منك). هذا يعني أن الكتابة هي التي تأخذك وليس العكس.
هي حاضرة، الغياب يكون غالباً منك أنت. الكتابة كينونة الشخص. المهم
هو أن تعرف متى تبدأ وكيف.
12
( أعتقد أن بودلير هو القائل (كن سكرانا دائماً). لكن ما معنى هذا؟
كن ثملاً دوماً. كن دائماً مفعماً بالنشوة الإلهية، هذا هو المعنى.
لم يكن يقصد السكر بمعناه الفظ) أقداحك ليست من زجاج، ليست النشوة
مما تشرب. أعرف شخصاً لا يكف عن الترنح، وهو دائماً في الكتابة.*
. كل ما بين قوسين من يوميات هنري ميلر.
|