انحطاط الفصاحة
في محاورة الخطباء : يفسر(تاكيترس) أسباب انحطاط الفصاحة تفسيراً أساسياً،
فهذه الأسباب ليست ) الذوق المتردي ( للعصر، بل استبداد الإمبراطور
(دوميتانوس) الذي فرض الصمت على الفوروم (*)، وحصر الشعر في فن غير
ملتزم، لكن ذلك جعل الفصاحة تهاجر نحو الأدب وتتغلغل فيه وتكوّنه (حتى
صارت الفصاحة تدل على الأدب).
بهذا المعنى يمكننا أن نقرأ جانباً من واقع الإنسان العربي، في ظل
منظومات وأجهزة تمعن في حرمان الشخص من التعبير عن ذاته بشتى تجليات
هذا التعبير وأشكاله. مما يعني أن هذه المنظومات سوف تبالغ يوماً بعد
يوم في دفع الشخص العربي إلى الصمت. وهو صمت يتغلغل في التكوين النفسي
للإنسان، وبالتالي يتحول (بفعل طبيعة المصادرة) إلى خلل عضوي هو بمثابة
الإعاقة الفسيولوجية للشخص. تماماً كما يحدث للخيول عندما تطول حبستها
في الحظائر، فتواجه الصعوبة القاتلة في استعادة لياقتها لكي تنطلق
في السهوب. وطول حرمان الشخص من الكلام الحر، يجعله عرضة لأن يقول
(ذاته) بطرق غير سوية، متبعاً وسائل وسلوكيات اجتماعية وأخلاقية تتناقض
مع الحقيقة الإنسانية، كأن يصبح ضحية الخوف المقيم، وهذا ما نلاحظه
في انتشار بارونيا السلطة في المجتمع العربي، حيث الشخص لا تذعره جهة
مثلما تذعره صورة السلطة وحضورها الفج في الواقع اليومي، حتى أن بعضهم
سوف يفقد عادة النطق أمام صورة السلطة وتجليات أجهزتها، ما يودي إلى
تشويه لغة الشخص. كما سوف يلجأ البعض إلى ضرب من النفاق (الفكري) حيث
يقع في تلفيق الحقائق أو تزييف تفسيره للواقع وظواهره، تفادياً لقول
الحقيقة خشية من الوقوع ضحية القمع المضمر في تركيبة الأجهزة التي
ستقوم دائماً على أن الحقيقة هي ما تجيزها السلطة. وتبعاً لهذا السلوك
الأخلاقي الذي يتعرض له الشخص في المجتمع العربي، من المتوقع أن تتحول
الثقافة إلى مفاهيم نقيضة للحق والعدل والحرية.
ليس للصمت (الفكري) الذي تكرسه السلطة العربية توصيف يمكن أن يخفف
من وطأته. إنه مصادرة الحق الإنساني في العيش الطبيعي وبلا خوف. والإنسان
الخائف، المذعور يمكن أن يلجأ لأسوأ الوسائل لكي يتفادى العقاب. ولن
يعود، بالنسبة له، مفهوم الثقافة (مثلاً) هو أن يكون الشخص صادقاً،
بالمعنى المعرفي ولا الأخلاقي. فالمعرفة، من حيث هي حقيقة مجردة، قد
لا تكون دائماً جميلة ومريحة (من وجهة نظر الرأي السائد في المجتمع).
الحقيقة هي أحياناً بمثابة العملية الجراحية في جسد المجتمع، وربما
لن تكون مرفوضة من السلطة فحسب، بل انها سوف تواجه برفض فئات اجتماعية
مختلفة، خصوصاً تلك التي وقعت ضحية المصادرة والحرمان فترة طويلة من
الزمن، بحيث باتت لا ترى (الواقع ولا تحس بالحقيقة) إلا من خلال منظار
ومقاييس السلطة ذاتها. ومن هنا ستتمكن السلطات (بفعل إدمان الأفراد
على الصمت) من بناء قطاع كبير في المجتمع يشكل خطوطاً أمامية متقدمة
تحمي مفاهيم السلطة ومنظوراتها وسياساتها إزاء قضايا مثل العدل والحريات.
وسوف يتمثل هذا الضرب من الثقافة العامة في التفسيرات الرائجة التي
ترى إلى المشاريع الرسمية (سياسة/ اقتصادية/ اجتماعية / ثقافية) قانوناً
ناجزاً يتوجب قبوله من غير أية مساءلة أو تشكيك.
في مقابل ذلك كله، سوف تذهب الأجهزة الرسمية غالباً إلى خلق نوع من
الستار الواقي لهذا الواقع. وهو الستار الذي يظهر المشهد كما لو أنه
سباحة جماعية في مهرجان من الحريات. دون أن يكون ذلك المهرجان تمثيلاً
حقيقياً لمفهوم الحرية. فعندما يرتفع ضجيج الكلام في المجتمع فإن ذلك
ليس دليلاً على توفر الحرية. فالضجيج لا يكون بديلاً للكلام ولا يؤدي
إليه. وتشغيل آلات الإعلام بشتى أنواعها ليس سوى مضاعفة حرمان الشخص
من سماع صوته وصوت غيره وافتقاده لشخصيته الحرة ضمن السياق العام للمجتمع.
فعندما يتكلم الجميع بهدف الكلام فحسب، فإنهم لا يصغون لبعضهم البعض.
بل انهم في حقيقة الأمر لا يقولون شيئاً حقيقيا واضحاً بالنسبة لهم،
لكونهم لم يحصلوا على الحق الكامل في مناقشة ما يضمرون، ولا هم اختبروا
قدراتهم الذاتية على ممارسة الحرية الفردية في الحقل العام. إنهم باختصار
محرومون من مناقشة الحق العام بوصفه المدخل الشرعي لمساءلة الواقع.
هذا الواقع الذي لا يسمح للشخص أن يقول ذاته بوضوح كامل. الصمت هو
إذن الداء الذي يستشري يوما بعد يوم في المشهد العربي، حتى يكاد المرء
يصدق أن الصمت من ذهب. كما تريد المنظومات السلطوية أن تقنع المواطن.
إذن، كيف نتخيل شخصاً يقع تحت وطأة الصمت الطويل كل هذه السنوات،
كيف نتوقع منه أن يكون قادراً على التعبير عن نفسه (بالفصاحة) والوضوح
والبسالة التي يتوجب أن يتميز بها الإنسان وهو يتعاطى قضاياه المصيرية.
أكثر من هذا، سيكون من السهل علينا بعد ذلك أن نرقب انتقال (الإعاقة)
التعبيرية إلى حقل الأدب والثقافة. فمن المحتمل أن تؤدي كل هذه الإقامة
الطويلة في أقاليم الصمت والمصادرات، إلى فقد عادة الكلام العام، وبالتالي
الكلام الفردي الفصيح. وبهذا سوف تتجلى مظاهر الانحطاط في اللغة صدوراً
من استشراء غياب المران على الكلام. فلا يكفي أن يكون الشخص محتقناً
(اجتماعياً وسياسياً واقتصادياً) لكي يكون قادرا على التعبير الأدبي
لمجرد أن عليه أن يكون أدبيا. وتبعاً لذلك يجب أن نتخيل مستوى الثقافة
العامة لدي أفراد المجتمع بوصفهم قراء. فهم حين يذهبون إلى النص سوف
يقعون في قصور مضاعف. فلا هم يمتلكون حرية المخيلة لكي يجاروا مبدعاً
ثم يحاوره، ولا هم يحسنون التعبير الفصيح عن ذواتهم لكي يكتشفوا في
الإبداع الأدبي والفني حقلاً مألوفاً، فقد أصبحت حساسيتهم على درجة
من التعطيل والبطالة والإعاقة، بحيث تتضاعف الفجوة بينهم وبين أفراد
نادرين تيسر لهم النجاة من الأوهام التي تروجها وتكرسها أجهزة السلطة.
ثمة شرفة يمكننا النظر من خلالها إلى عمق العلاقة الخفية بين الواقع
والنص. نريد أن نقول بأن الانحطاط الذي تتعرض له الثقافة عموماً والأدبية
خصوصاً، ليس ناتجاً عن قصور ذاتي في الأشخاص بوصفهم أفراداً تنقصهم
المعرفة والموهبة، ولكنه نتاج موضوعي للواقع السياسي والاجتماعي الذي
تحميه السلطات وتقوم عليه. فحرمان المجتمع من البوح الحر، سوف يؤدي،
عبر الوقت، إلى صدأ الحساسية الثقافية، ويؤدي أيضاً إلى تشويه (خلقي)
في الذائقة الفنية. وسوف يتضاعف هذا و يتكرس عندما تكون الآلة الإعلامية
قد تم تشغيلها بحيث تدفق المفاهيم والقيم القائمة على (الاستهلاك)
الكامل لعناصر الحياة. وحين يدمن الشخص على الاستهلاك لا يعود قادرا
على المبادرة في التعبير عن رغبة المشاركة في إنتاج ذاته في المجتمع.
وينعدم لديه النزوع الطبيعي للمساهمة الإيجابية، باعتباره صانع أدوات
صانعة بدورها أدوات، حسب تعبير برغسون. الذوق المتردي إذن لا يأتي
مع الشخص، ولكنه يأتي بفعل فاعل يعرف بالضبط ماذا يفعل. ومن طبيعة
السلطات المتخلفة أنها لا تريد من الشخص إلا أن يكون مستقبلاً لأشياء
حياته. والشخص الذي يتصل بالمستقبل يكون مستعداً للخروج عن الصمت والخروج
عليه.
ـ (*) : الفوروم : ساحة مربعة في المدينة الرومانية تكون منتدى لمعالجة
القضايا العامة وتتركز بها البنايات العامة. ويعني بها هنا فوروم روما،
مركز النشاط السياسي والديني والتجاري والقضائي في عاصمة الإمبراطورية
الرومانية.
|