المعنى يأتي فيما بعد
حين نقول بأن المعنى يأتي فيما بعد، فإننا لا نخلي الشاعر من مسؤولية
معنى ما. ففي هذا ذهاب مجاني لعدمية لا يحتملها الواقع وليس فيها شئ
من طبيعة الفن بوصفه حياة في حياتنا. إن تعبير (المعنى يأتي فيما بعد)هو
اتصال بالاحتمالات الرحبة لعلاقات النص بالواقع، ونزوع شعري لتعددية
الصورة في ضوء رؤية شاملة وعميقة. فالمعنى، الذي يأتي فيما بعد، هو
استجابة القارئ لمخيلته، الصادرة عن تجربته الذاتية، وهي تحدّق في
الصورة الشعرية منسابة متدفقة في نهر المعنى.
الشاعر لا يكتب عارياً من الذاكرة، وهو لا يصوغ الصور مقصياً مخيلته
(ومخيلة قارئ محتمل). فالشاعر ليس آلة كاتبة تصدر عن الغيب وتذهب إليه.
إنه نبع أسرار كثيرة تمنحها طاقة النص قدرة على التمثل في حيوات أخرى
بواسطة قراء، من الصعب تعيينهم، لكنهم لا يحصون. فالمعنى هنا ينبثق،
منذ اللحظة الأولى، بوصفه جذر الحياة، ليصير إلى غصون تتفرع كلما تنامت
واتصلت بتجارب هذا القارئ أو ذاك. وبهذا الشكل يأتي المعنى دائماً
فيما بعد، وهو المعنى الذي يتغذى من لحظة الانبثاق الأولى المتوفرة
على جذوة التجربة، ليتحول إلى أفق رحب من المعاني بعدد القراء، وبتعدد
يضاهي الصدى في أدغال النفس البشرية. من يستطيع الجزم بوضوح النفس
البشرية ؟!
لكل شاعر معناه الأول، معناه الخاص. وهو معنى لا يشكل قيداً لمخيلة
القارئ، ولكنه يصبح اقتراحاً وأفقاً من رؤيته وحساسيته الشعرية. فليس
في النص (أي نص) معنى منجز يمكن أن يفهمه الجميع بصورة واحدة، فالقارئ
سيكون أمام عناصر مفتوحة عليه أن يقوم بإعادة تركيبها، بالصيغة التي
تستجيب مع حساسيته الخاصة ونشاط مخيلته وحالته النفسية لحظة القراءة.
وقارئ على هذه الشاكلة هو الذي يجعل من النص درجاً يأخذه إلى أغوار
النفس العميقة. القراءة، إذن، هي العملية الحيوية التي تعيد الصور
إلى جذورها، من حيث هي جذوة الحياة الأولى التي رافقت الشاعر لحظة
النص، وليس التجريد في النص الأدبي سوى علامات وإشارات في طريق يصوغه
الشاعر باللغة ويكتشفه القارئ بالمخيلة. ليس ثمة فكر يقود القارئ في
أدغال النص، فالشاعر ليس واضع أفكار، لكنه طاقة من المشاعر تستدعي
من القارئ تشغيل العاطفة للاتصال بالنص، فالفكر لا يسعف القارئ في
مثل هذه المواقف. الشاعر يشتغل على نصه بالكلمات، وعلى القارئ أن يعتمد
على ذلك هو الآخر، ويتكفل بالباقي.
ليست غاية الشاعر بذل القرائن أمام القارئ، فقرائن القارئ تأتي معه،
الشاعر هو قرينة على كائن واحد هو النص، وعلى القارئ أن يرى في هذه
القرينة ما يراه، فالمعنى هو ما يتجلى للقارئ مقروناً بتجربته، وبهذا
يصبح النص قرينة القارئ أيضاً، أي أن المعنى هو ما يشعر به القارئ
ويعيد خلقه، وليس ما يقترحه الشاعر كإشارات على طريق تظل معتمة مع
قارئ مكبوح المخيلة لحظة القراء. ويمكن للقارئ أن يعتبر النص شبكة
(لئلا أقول شرائك) متاحة لبحث القارئ وليس لكسله. فالقارئ الذي يريد
المعنى الناجز من النص لأول وهلة، قد لا يكون جديراً باكتشاف طاقة
الاتصال الإنساني في ذاته. فإذا اعتبرنا النص طريقاً متاحة للاتصال
الإنساني، فإن ذلك يستدعي العديد من المبادرات المتكافئة من الطرفين،
فبعد أن ينتهي الشاعر من لحظة الكتابة، يظل النص مشروعاً مفتوحاً ينتظر
مبادرة مقابلة وجديرة من قبل القارئ. ولا تجوز الاستهانة بما ينطوي
عليه استعداد القارئ وكفاءته الذاتية لتحقيق فعل الاتصال بالنص، كتجربة.
قيل للنص : ما معناك ؟
قال : لا أعرف.
قيل له : ماذا قال لك الشاعر لكي تقوله لنا ؟
قال : الشاعر لم يقل لي شيئاً معيناً،
لقد شحنني بالمشاعر الغامضة،
حتى أنني أكاد أكتظ بما لدي من هذه المشاعر،
دون أن أقوى على البوح لشخص لا يمتلك الأدوات.
قيل له : لكن أين المعنى ؟
قال : وأنا أسأل أيضاً عن المعنى.
قيل له : و من يعرف المعنى ؟
قال : لماذا تسألون عن شيء يتوجب أن نذهب إليه معاً ؟
يخيل لي دائماً أن من يسأل عن المعنى في النص، هو بمثابة من يستجوب
الشجرة عن الأسرار الخفية التي تبدأ من البذرة حتى الفاكهة. فأنت لا
تستطيع أن تسمع الموسيقى إلا بعد أن تبدأ في العزف على البيانو. ولكي
تفعل ذلك ينبغي أن تكون قادراً على العزف. وبعد أن تسمع الموسيقى،
ترى هل تستطيع أن تقول أين المعنى في كل ذلك ؟ الشعر هو أيضاً يكمن
في ذلك السر الغامض الذي يجعل من الإنسان أكثر غموضاً من الموسيقى
والشجرة، إنه يحبهما فحسب، ترى هل يمكننا أن نفسّر هذا الحب، هذا الحب
الذي يأتي فيما بعد دائماً ؟!.
|