له حصة في الولع
نثر مائل وشعر وشيك

مؤسسة الانتشار العربي
لوحة الغلاف : عبا يوسف - البحرين

 

3- نثر ماثل / شعر و شيك

نسيان النثر

تفرط أحياناً في نسيان النثر (1) ، فيما أنت منشغل في كتابة النص. وفي هذه المسافة بين نسيان النثر وتوهم الشعر، ثمة فجوة قد تكون بمثابة الخطر الذي يحدق بنواياك الشعرية. وإذا حدث واكتشفتَ (2) مقدار النثر الذي أصاب نصّك، في غفلة منك، كما لو كنت تكتب في النوم، يتوجب عليك أن تعترف بما تتعثر به خطواتك في النص. فمن مساوئ فجوة النسيان تلك، أنها تغري نفسك بنوع غامض من المكابرة، التي ربما أوقعتك في ضرب من مخاتلة النص، فيما تخادع النفس وتجتهد بإقناع القارئ بنواياك الشعرية، دون أن يكون بين يديك (في النص) ما يسعف ذلك الإدعاء. وهي مكابرة، إذا هي أرضتْ غرورك بعض الوقت، فإنها ستفسد ضميرك الوقت كله. ربما كان المعجم اللغوي لشخصٍ ما، بمثابة المنجم الشعري الذي يزخر بالغزير من الثروات، ولكن عندما يهمّ الشخص بكتابة قصيدته، ستجافيه تلك القدرة الغامضة على تحويل ذلك المنجم إلى جزء حيّ من الذهب أو الحجر الكريم، فيقدم لنا نصاً يقوم على آلية نثرية طاغية. وحين أقول (نثرية) فإنما أعني بالضبط ذلك البوح الذهني المتدفق الذي ( قَرر) مسبقاً أن يكتب شعراً، معتمداً على ثقته في معجمه اللغوي الكثيف الذي سهر على ادخاره. ففي المنجم، حيث الظلام ثقيلاً، لا تكفي قناديل النفط لإضاءة الطريق، فاكتشاف حجر كريم، مثل الشعر، يتطلب رؤيا البصيرة أكثر مما تفيدنا حدة البصر. وفي مثل هذا الموقف، يمكن أن نكون ضحية فجوة أخرى، قد ترشحنا لفشل فادح لا يمكن تفاديه وقت الكتابة، وليس للقارئ ( يقظ الحواس) أن يفلت من فجاجته. وأعني هنا، تلك الفجوة الفاجعة، بين المعجم اللغوي الغزير، الذي يكتنز به الشخص، وما يتحقق لنا من اقتحام الذهن في النص. حيث الطاقة الإبداعية وآلية الموهبة الشعرية، ستكونان قاصرتين عن توليد شرارة الكهرباء وبثها في الأجساد المتراكمة للكلمات، فتبدو عاجزة، معوقة، وتوشك أن تكون جثثاً باردة، فيما يقف الشخص بجانب نصه مستغرباً مما يحدث له. فبعد أن توفرت لديه كل الأدوات والانفعال والرغبة في الخلق وما لا يقاس من ثروات المعاجم، لا يجد أمامه الآن غير كائن ثاوٍ يقصر عن الحياة المتألقة. ونخشى، في هذه اللحظة، أن نتذكر ذلك المخلوق المسخ، الذي ( صنعه) الدكتور فرانكشتين، نتيجة تجميعه أعضاء متنافرة من أجساد وجثث غير متجانسة، متوهماً أنه قادر على إعادة الحياة للجثة، ليضاهي بها الحياة. وفي الكتابة الشعرية، سوف يبدو الأمر أكثر فضيحة، وربما وصل بنا الأمر إلى الشعور بأن الفجوة بين المعجم والشعر، هي ذاتها المسافة الإبداعية بين شرارة كهرباء البروق المكثفة في معمل الدكتور فرانكشتين، وبين ذلك السر الغامض لطاقة الحياة الإنسانية الصادرة من الأقاصي المتعالية المجهولة، والتي ستنهر الجسد المتأرجح في مهب التكوين. ليس للنثر وصف مسبق وجاهز يمكن الإشارة إليه قبل أن يتحقق لحظة الكتابة. فليس ثمة كلمات محددة يمكن القول عليها، في المطلق، أنها النثر، وكلمات محددة أخرى يمكن القول عليها، في المطلق، أنها الشعر. فكل ذلك يحدث بعد أن يصير النص مكتوباً، وبعد أن تخرج الكلمات من الأسر لتصير لغة تسرد ذاتها. فنحن مثلاً قد نقول عن كلمة (الكتابة) أنها نثر ماثل، ونقول عن كلمة (الكآبة) بأنها شعر وشيك. لكن هذا الإطلاق سيكون عرضة لأن ينقلب في لحظةٍ ما إلى العكس، عندما نقرأ هاتين الكلمتين في سياقين مختلفين عما عهدناه أو توقعنا حدوثه. ويبقى الأمر مرهوناً بطاقة الإبداع والمخيلة لدي ذلك الشخص الذي يصدر عن معجمه اللغوي، فهو إما أن يحول لنا المعجم إلى منجم يتفجّر بالثروات تحت سطوة الموهبة، أو أنه يخضع لهيمنة المعجم تابعاً لرغبة الإبلاغ الذهنية. وهنا تتكشّف لنا الفجوات الفادحة في نص لا تسعفه النوايا الشعرية.

سيظل الشخص دوماً مطالباً بأن يحقق ذاته الإبداعية، بمعزل عن جاهزية الأدوات، وميكانيكية الشكل. فالنص لا يصير إبداعياً لأننا نريد ذلك، لكنه يصبح كذلك لأننا نحسن أن نكون جحيماً حميماً لذواتنا في الحياة، حيث اللغة أجمل الثروات وأخطرها في آن واحد.

 
 
السيرة الذاتية
الأعمال الأدبية
عن الشاعر والتجربة
سيرة النص
مالم ينشر في كتاب
لقاءات
الشاعر بصوته
فعاليات
لغات آخرى