له حصة في الولع
نثر مائل وشعر وشيك

مؤسسة الانتشار العربي
لوحة الغلاف : عبا يوسف - البحرين

 

3- نثر ماثل / شعر و شيك

طرفة بن الوردة، الماضي المستمرد

ليست مصادفة أن تكون مدينة بوردو الفرنسية هي التي جذبتني في لحظة طرفة بن العبد بالذات. كنت على هاتف الصديق الشاعر محمد بنيس عندما قال أنه ذاهب إلى مدينة بوردو الفرنسية غداً في ضيافة ثقافية لمدة شهر(.. تعال، ثمة فرصة لتفادي بعض الموت، النبيذ هناك لا يضاهى). كمن ينتشل شخصاً من منفاه. (لا تفعل شيئاً، فقط تعال). كأننا في الوقت القتيل. لا يعرف أنه يخاطب شخصا غير موجود. شخص يتراوح بين الأثير و المعنى، بين أن يضاهي الوقت ويخترق المكان. برقت الفكرة في رأسي مثل نجدة المختنق. القوم هنا يولمون على طرفة بن العبد، صديقي القديم، الذي انتخبَ نبيذاً ينقذه من الحياة. ليست مصادفة على الإطلاق. قلت لمحمد : أنا قادم إليك. تلذ لي الأفكار المجنونة. وضعت السماعة وذهبت. ربما كان في ذلك ضرب من الإخلاص لشهوة النبيذ التي استحوذت على طرفة في لحظته الباهرة. لا أعرف من القائل أن في النبيذ شيئاً من الجنة. و ثمة يقين يقترح على المخيلة أن الشعراء لا يذهبون إلى جنة أبداً، فإذا كان أمرؤ القيس حامل راية الشعراء إلى النار، فماذا يمكن أن يكون طرفة بن الوردة.

لم أعشق شاعراً قديماً مثل طرفة بن العبد هذا. ففي كل مرحلة من مراحل حياتي كنت أعود إليه كمن يلجأ إلى عزاء يخفف عليه واقع القبيلة وظلم ذوي القربى والغربة الكونية الكثيفة. و في كل مرة كان طرفة يتوهج في روحي مثل جوهرة تزداد جمالاً كلما صقلتها التجارب. (في غمرة زياراتنا لذخائر النبيذ في بوردو اكتشفت أن النبيذ هو الكائن الوحيد الذي يزداد أصالة وجمالاً وإخلاصاً كلما نسيته، وهو لا يغضب عليك إذا بالغت في نسيانه ). طرفة بن العبد منح النبيذ مجداً عندما انتخبه خاتمة لأسطورته الفذّة وبوابة لنجاته. نبذته المؤسسة فلم يعد يتذكرها أحد لولا الشاعر الذي يزداد (حضوراً) كلما خرج شخصٌ على القبائل المعاصرة. عندما أعلنوا أنهم يعدون له احتفالاً جديدا، وضعت قلبه في قلبي رأفة بصديق لم يزل غريباً. الشاعر لا يعبأ بالاحتفالات وهو حيّ، فما هي حاجته لاحتفال متأخر إلى هذا الحد. أذكر أنني كتبت ذات نص عن العرب المولعين بتقديس الموتى. و ها هي المؤسسة التي خرج عليها طرفة تعد له اعتذاراً متأخراً. المؤسسة العربية ذاتها (التي تفتك بكائن لا يزال يخرج عليها) تدبر تبجيلاً مرتبكاً لشاعر فتكتْ به حياً، فهل تنوي إعادة الفتك به قتيلاً. كأنهم يعلنون شكرهم للشاعر لكونه... ميتاً.

إن خشيتي من تحويل الإبداع إلى مادة للإعلام والدعاية، يجعلني دائماً أتوجس من النتيجة التي سيذهب إليها احتفال على هذه الشاكلة. واعتذاري عن المشاركة كان يصدر عن تلك الخشية، وهو قلق متوهج إزاء المؤسسات لا يهدأ، ويتعرض دوماً لسوء الفهم (حيث لا أكترث بتفسيره). فعندما كان بعض الأصدقاء يسألني عن سبب عدم المشاركة في الاحتفال بطرفة بن العبد، كنت أقول : لأنني أحبه على طريقتي. أحبه بدون مهرجانات وبصمت يليق به. فالمؤسسة (شأن القبيلة) لا تذهب إلى الشاعر إلا لكي تعمل على توظيفه لغاياتها العابرة. أراهم يتناهبون الشعراء (الموتى) لتجييرهم ضمن المنظومة الدعائية الفظة. (سبق أن قلت ذلك عن الشاعر بن لعبون ذات نص). ثمة مسافة بين الإعلان عن الحب وجوهر الممارسة اليومية تجاه الشعر والشعراء، فالوقائع لا تخذل توقعاتي.

حضرتُ الأيام الأولى للمهرجان. كنت أصغي لطرفة وهو يهذي ويبكي ويبكي إلى صباح اليوم التالي. فأشفقت على صديقي القديم، لذلك وجدتني أقبل دعوة صديقي الجديد. (شخص خارجٌ على طريقته). ليست مصادفة أن يكون النبيذ حاضراً في المشهد إلى هذا الحد. قلت، سأسهر مع طرفة على طريقتي هذه المرة أيضاً. قلت لعل للنبيذ ذاكرة أكثر جمالاً مما يزعمون. ففي النبيذ نجاة من هذه الحياة. وضعت جسدي في سفر طويل وأطلقت للحلم حرية الإبحار بعيدا عما يوجع الروح، كمن يحاول خلع قميصه فينزع معه اللحم والدم والشغاف. أعرف أن (لذة الفتى) ليست في ما يولمون هنا. كأنني لست من هنا، كأنني لست من أي مكان، الوقت والمكان لا يسعان الشاعر، كأن الشاعر يذهب أبداً. كأن ثمة غموضاً يتوضح كلما ابتعدت أكثر.

لا أحد ينكر على الآخرين حريتهم في الاحتفال بمن يريدون بالشكل الذي يعتقدون. ولست مجبرا على الإعجاب بكل ذلك. ففي الكثير من النوايا الطيبة لدى الأصدقاء الذين ساهموا في الاحتفال بطرفة بن العبد قدر من الصدق لا ينازعهم أحد فيه ولا يشكك في جماله. دون أن ينفي ذلك (في العمق) التوظيف الإعلامي الذي لا يليق بالإبداع. وفي هذا يكمن الاختلاف. الشاعر ليس زينة للعالم، إنه سؤال عليه، إنه القلق الجوهري الجميل بالدرجة الأولى. وعندما عدت أتأمل ما أعد من أوراق للكلام عن طرفة (وعليه) تيقنت أن البعض جاء للوقوع في شراك الإعلام (بوصفه كلاماً) وغفل (أو تغافل) عن ذلك القلق، متفادياً مجابهة أسئلة الشاعر للواقع. كانت أوراق الدارسين في معظمها تتحدث عن قشرة الحياة التي اصطدم بها الشاعر (هناك)، لئلا تقول شيئاً عن قلق الواقع الذي يصطدم به الشاعر (هنا). وهذا من بين ما يبرر تحفظي الصامت على استحضار طرفة بن العبد (الآن). فمن وجهة نظري لا قيمة للكلام عن تجربة شعرية (أياً كان زمانها) دون مجابهة الأسئلة التي يطرحها النص علينا (فكرا وفناً). كلام العرب (الذي كان الشعر) صار هنا صمتاً مطبقاً، فالكلام الذي (لا يقول) شيئاً يظل كلاماً.

لو افترضنا أن ثمة دلالة غير معلنة تشير إلى اعتذار متأخر لشاعر شبع قتلاً، فإنه اعتذار ملتبس لأسباب حضارية يستدعيها وضع الشاعر (الآن). فالمبالغة في الاحتفاء (المهرجاني) بالماضي، هو في نهاية التحليل تغيّيب للحاضر (أشرت إلي هذا ذات نص في مناسبة الاحتفال بمشاري العدواني وعبدالله الزايد). هل أحدٌ يذكر لنا قرينة واحدة تجعل المؤسسة العربية الراهنة تختلف، في موقفها من المبدع المعاصر عن المؤسسة القديمة؟. وإذا لم نتأكد من معنى هذه السياقات العربية التي تبالغ في تبجيل الماضي، سنجد أنفسنا ضحية وهم مفاده أن ثمة احتفاء بالثقافة والإبداع في ما يحدث. لاحظتُ في غير مناسبة يكون فيها مبدعون من الأسلاف موضوعاً للاحتفال، في الوقت الذي نرقب الدرك العميق الذي يقبع فيه المبدعون المعاصرون تحت وطأة الضيم والظلم والمصادرة، محرومين من أبسط الحقوق الإنسانية التي تتمتع بها حيوانات كثيرة في العالم. ولننظر في خريطة العرب.

أفكر دائماً بأن الكلام عن تجربة مثل طرفة بن العبد تستدعي جرأة توازي الجرأة التي اقترحها علينا ذلك الشاعر (حياة وشعراً). وهذا بالضرورة يتطلب حرية تتيح مثل هذه الجرأة، وإلا فإن أي استعادة ستكون نوعاً من الفلكلور الذي تتداوله (مبتذلاً) أجهزة الإعلام العربية تفاخراً بالأمجاد. أفكر أيضاً بأن الانسياق الساذج الذي يتدهور فيه الكلام العربي (والنقد الأدبي في المقدمة) لتزويد هذه المهرجانيات الفلكلورية لصقل المشهد، هو واحد من مظاهر التدهور والانحطاط الذي ينهار بنا بعيداً عن الجوهر الحضاري الذي سبق أن تناطحنا وتدافعنا نحوه بالمناكب وبذلنا له أجمل سنوات عمرنا. أفكر كذلك بأن مثل هذه الظاهرة إذا لم نتوقف أمامها، فسوف نبالغ في الإساءة إلى تاريخنا وحاضرنا ونقصر عن المستقبل. أعرف مفكراً (عربياً) لا يتورع عن تلفيق التاريخ (دون أن يرفّ له جفنٌ) لكي ينسب أشلاء مادة التراث لهذه المنطقة حيناً وثم ينسب مادة التراث نفسه لغيرها حيناً آخر. وهو، لكي يؤكد أصالة الراهن في الجغرافيا التي يقطنها، سوف يضحي بالتاريخ الثابت من أجل جغرافيا السياسة المتغيرة، فيفقد الاثنين. آخرون شاهدوا معي خلال الملتقى أستاذاً جامعياً (اجتهد) لكي يثبت أن طرفة بن العبد بحريني الجنسية (بالولادة) و أنه عاش في البحرين جغرافياً، معتمداً على تفسير مبتسر عسير الهضم لنص مقطوع، على طريقة ولا تقربوا الصلاة. وفي هذا نموذج لتكريس (أكاديمي) للوهم الماثل. إذا جردنا تعبير (واطرفاه) من محموله الديني المشحون في الذاكرة، سوف تصادفنا الدلالات المكبوتة في هذا النداء الغامض، فلدي فرويد تفسير خطير لصراحة اللاوعي الذي تعبر عنه اللغة بالنسبة لمن يحاول كبح البوح بمكنوناته. فمن اقترح هذا العنوان، للمختارات الشعرية المعاصرة التي صدرت لمناسبة الملتقى، قد وفق في ذلك في هذه اللفتة. لكي نسأل : لماذا الاستنجاد بطرفة الآن ؟ حتى أن طرفة لم يعد موجوداً ليقال له - مثلما قيل لعنترة العبسي - :

(كـرّ و أنت حـرّ ).

لكن هذا ليس كل شيء. ربما لن تكتمل الصورة إلا حين نتأمل ظاهرة الاستخفاف التي يعتمدها النقاد وهم يذهبون إلى محفل النقد. فثمة من لا يزال يرى في قول طرفة بن العبد (ويأتيك بالأخبار) غير المعنى الإعلامي، كما لو أنه أحد موظفي وكالات الأنباء العربية. ألم يزعموا طوال التفسير أن الشاعر كان بمثابة جهاز إعلام القبيلة ؟

 
 
السيرة الذاتية
الأعمال الأدبية
عن الشاعر والتجربة
سيرة النص
مالم ينشر في كتاب
لقاءات
الشاعر بصوته
فعاليات
لغات آخرى