درس النقد
(إن الجامعة تطوّر شتى الإمكانيات،
ومن ضمنها الغباء)
(تشيخوف)
ثمة اعتقاد سائد بأن الدرس الجامعي من شأنه أن يمنح النقد الأدبي
آفاقاً أكثر اتساعا من المعرفة والأدوات العلمية، التي تجعل عمله النظري
والتطبيقي قابلاً للتبلور والتطور، بحيث تصبح العملية النقدية قادرة
على سبر التجارب الإبداعية واكتشاف معطياتها، وتوضيح أسرارها للقارئ
خصوصاً، كما تساعد المبدع على تلمس الملامح الفنية للحقل الذي يشتغل
فيه، والطريق التي يذهب إليها. ولعلنا في بعض مراحل الحركة الأدبية
الحديثة صادفنا نقاداً انخرطوا في العمل الأكاديمي، ومارسوا الدرس
الجامعي، واستطاعوا من جهة أخرى أن يساهموا في الحركة الأدبية بدراساتهم
وبحوثهم. وربما تحقق هذا في البلاد العربية حتى أوائل السبعينات، بدرجات
متفاوتة تتصل بطبيعة كل ناقد وحقل عمله الأدبي. وساعد على ذلك أن بعض
هؤلاء قد تميزوا بالموهبة أولاً، واحتفظوا بقدر واضح من حرية المخيلة
والتوق الفطري في مناخ جامعي يحقق حرية البحث.
من حيث المبدأ، سوف لن يعترض أحد على هذا الاحتمال إذا ما ظل متصلاً
بالتطورات الملحوظة على صعيد النص الإبداعي. لكننا سوف نصادف في السنوات
الأخيرة نقائض تشير إلى خلل في الدرس النقدي يصدر غالباً ممن استغرقهم
العمل الأكاديمي في الجامعات العربية أو اتسعت الفجوة الرؤية بينهم
وبين التجربة الشعري الجديدة. فبدأت المسافة تكبر بين النص الإبداعي
والعمل النقدي، وانصرف عدد كبير من النقاد عن الاتصال بالتجربة الجديدة،
تحت مروحة واسعة ومتنوعة من الأسباب، من بين أهمها زعم هؤلاء النقاد
الأكاديميين أن الكتابة الأدبية قد استغلقت عليهم لذهابها المبالغ
فيه إلى أشكال تعبيرية غير مألوفة، الأمر الذي يجعلها بعيدة عن متناول
أدواتهم. بعضهم يطرح هذا السبب بوصفه قدحاً، والبعض الآخر يشير إلى
أن ما يكتب الآن من أدب لا يثير عنده شهوة العمل النقدي الجاد. وحين
يتواضع بعضهم سوف يلمح باستحياء إلى أن الكتابة الجديدة تستدعي نقداً
جديداً لم تتمكن هذه التجربة من تكوينه في سياقها الرؤيوي.
ودون أن نقلل من أهمية بعض التجارب النقدية التي استطاعت تفهم التجارب
الجديدة، لابد أن نكتشف بأن الذين يتخذون الموقف السلبي (القدحي) إزاء
التجارب الجديدة، سوف يبالغون في مكابرتهم، ولا يعترفون بأن الأدوات
النقدية القديمة باتت تقصر عن مجاراة ما يحدث في صعيد الكتابة الأدبية،
فحين يستعصي النص الجديد على أصحاب تلك الأدوات، لا ينبغي طرح اللوم
على النص. فمن طبيعة أشياء الحياة أن يكون النص الأدبي في موقع الاقتراح
الفني الذي يتوجب على النقد أن يذهب نحو اكتشافه. غير أن أصحاب النقد
الأكاديمي سوف يتمسكون بأدواتهم متوهمين بأن الخلل لا يصيب النقد ولكنه
يقع في حقل النص. ومشكلة النقد الأكاديمي أنه يصدر عن وهم فادح، مفاده
أن كل ما يخرج عن حدود الدرس النقدي الجامعي، هو ضربٌ من الخروج عن
حقل الأدب عامة. وبالتالي لن يكون هذا النص الأدبي جديراً بالنظر النقدي.
وقد تفاقمت هذه المشكلة مع تناسخ أصحاب النقد الجامعي، الذين يتصرفون
كما لو أن النقد الأكاديمي هو النظام الذي يتوجب على النص الأدبي أن
يمتثل له لكي يستحق الدرس.
من هنا نكتشف إلى أي حد بات الدرس الأكاديمي قادراً على إفساد الذائقة
الأدبية، ليس لدي النقاد الذي يستغرقون في عملهم، لكنه سيطال كل الذين
يتصلون بالكتابة بوهم أن النظر النقدي الصائب سوف يأتي دوما من هناك،
من الدرس الجامعي الأكاديمي. وهذا ما جعلنا نرقب الانحسار الفاحش للنقد
عن الحقل الإبداعي، ويتحول العمل النقدي، مع الوقت، إلى نوع من المؤسسات
الماسونية المغلقة على نفسها. فهي من جهة غير قادرة على اللحاق بالتحولات
الإبداعية في النص الأدبي، قاصرة عن تفهم تجاربه الجديدة، و من جهة
أخرى سوف تتصدى للتشكيك في (ومصادرة) أية محاولة نقدية جديدة تجتهد
للخروج عن حدود ذلك النظر النقدي الأكاديمي، وتقترح بعض الاجتهادات
الجادة في الاقتراب من الطبيعة الجديدة في عالم الكتابة. وهذا يجعلنا
نراقب الاحتدام، المتفاوت العنف، بين جديد النقد الأدبي وقديمه، لكي
ينشغل هؤلاء عن مهماتهم الأساسية في حقل العمل النقدي التطبيقي، متورطين
في جدل عقيم بين شرعية النقد الجديد الذي يقارب الإبداع وبين كهنوت
النقد الأدبي، كما لو أن هذا النقد لا يزال بحاجة لتزكية سدنة المجمع
الماسوني للنقد. وفي خضم هذا الجدل النظري (المتورط في اعتبارات خارجة
عن العمل الأدبي) سوف يخسر الأدب جهوداً كبيرة، لتتأخر الفعالية النقدية
الجديدة عن دورها.
وتتضاعف هذه الإشكالية، حين نصادف بعض النقاد الذين بدءوا مع التجربة
الحديثة، ثم باتوا يستشعرون الخطر الذي يحدق بعملهم، وهو يقصر عن العمل
النقدي الجديد، وتستعصي عليهم التجربة الأدبية الجديدة، يتخذون موقفاً
عدائياً من هذه التجارب، بصورة تدعو للرثاء. بل انهم يجدون أنفسهم،
من حيث لا يدركون، يقفون في المواقع التقليدية ذاتها التي اتخذها التقليديون
عندما رفضوا مبدأ التجديد في التعبير الأدبي. ومن معضلات العمل الأكاديمي
أنه، بسب تخلف المناهج التعليمية ورفضه إدراج النص الجديد في سياق
البحث الجامعي، فإنه (لفرط تزمته وثباته) أصبح يشوه الموهبة لدي الناقد،
ويفسد ذائقته، بصورة تجعله لا يقدر على امتلاك الأدوات الأولية التي
توصله بالكتابة الأدبية والنص الجديد. وهذا ما يدفعنا بين وقت وآخر
إلى الإحساس بأن النقد الأكاديمي صار يجاهر بفقده طبيعته الأدبية،
ليصبح ضرباً من العمل الاجتماعي الذي يساهم، هو الآخر، في كبح التطور
الأدبي، وقمع كل محاولة من شأنها فتح الآفاق أمام الأجيال الجديدة
من المواهب. خصوصاً عندما نلاحظ المواقف التي يتخذها هؤلاء النقاد
(مدججين بأدواتهم الأكاديمية) في مشهد يذكرنا بقضاة يحاكمون النص الأدبي،
بوصفه خارجاً عن حدود الأدب.
|