الشكل في الطريق إلى الشعر
لن يتوقف (مثل الحياة) الذهاب المستمر في البحث عن الشعر في كل ما
يكتبه الإنسان، في كل فنون التعبير الإبداعي. فكلما توغل الإنسان في
أدغال الأشكال اللامتناهية من فنون الكتابة، ازدادت علامات الحدود
الشعرية غموضا وتداخلا، خصوصا بعد التفادي الإبداعي الذي يحققه النص
الجديد بعيدا عن التخوم الواضحة والمتعارف عليها لفنون التعبير الأدبية
(القصة، الرواية، المسرحية، القصيدة، السرد، الحوار، المقال، الفلسفة،
التأمل... الخ). ففي كل هذا التوغل الفادح سوف تنهض بين يدي النص ملامح
غاية في التنوع، وسوف يمتزج الشاعر (كفعالية) بالعديد من العناصر الفنية
المألوفة والمبتكرة. وربما أدى ذلك عند الكثيرين إلى الإيمان بأن من
الأجدى الذهاب في النص إلى الشعر وليس إلى القصيدة (أو حدود الفنون
الأدبية الأخرى).
لكن، حتى الشعر، على إطلاقه، لابد أن يكون متجليا في ما يشبه القانون
أو الحد الذي ينبغي أن يكون مستقراً في لحظة (فنية / زمنية) لكي يتاح
لنا صياغة حكم القياس والقيمة على أساسه. وهذا الضرب من الاستقرار
لا يضير حرية البحث لدي المبدع، على العكس، ربما كان هذا الاستقرار
النسبي من شأنه أن يضع المبدع في مواجهة مسؤولية تفادي الوقوع في تقليد
ما تم إنجازه واكتملت ملامحه وأوشك على أن يصير قاعدة، قاعدة تتهيأ
لإعادة النظر والإضافة والتغيير والتجاوز. ترى هل يجوز لأحد الزعم
(دون قلق) أن ثمة ملامح فنية يمكن للناقد (دعك من القارئ) أن يقوم
بتوصيفها في حضرة الكتابة الشعرية الراهنة. ليس في هذا القول نية للتعجيز،
على العكس، فربما كان القصور في مكان آخر غير الكتابة الإبداعية. فمن
المتوقع في كل سياق يرافق التجارب الشعرية في تاريخ الأدب الإنساني،
أن يتأمل النقد (وهو ما ينبغي أن يتحقق بضرب رهيف من الإصغاء للنص)
ما يستجد من التجارب الأدبية، ويستخرج، من بين أهمها وأكثرها نضجاً
وأصالة، حدوداً وملامح فنية من شأنها أن تشير إلى تميز التجربة الجديدة
عما سبقها من تجارب. وإذا نحن تجاوزنا المبالغات الرائجة عن فشل التجربة
الشعرية الجديدة في اقتراح شروطها الفنية، فسوف نصادف عزوفاً (لا تبرره
الصعوبة المتوقعة في التجارب الجديدة) عند النقد السابق عن الدخول
في مغامرة الأسئلة التي تطرحها التجربة الجديدة في النص الشعري. ومن
جهة أخرى سوف يجري ترديد القول بعدم شرعية الطروحات والمساهمات الجديدة
التي تقترحها العديد من المداخلات النقدية الجديدة التي باتت تصدر
في السنوات الأخيرة (عن معرفة واضحة بطبيعة ما يحدث في بنية الكتابة
الأدبية إجمالا، في النص الشعري على وجه الخصوص) مؤكدة على مغايرة
جديرة بالدرس النقدي بمعزل عن الحدود النقدية القديمة. والغريب أن
ثمة حكماً غير معلن يمارسه ويصدر عنه الكثيرون ممن يتصدون لنقض الشعر
الجديد (في هيئة المنافحة عنه)، وخصوصاً أولئك الذين لا زالوا يتوهمون
أن التجربة الجديدة لن تأخذ شرعيتها الأدبية إلا بمباركة أصحاب الجيل
السابق (نقاداً وشعراء). والأغرب أن هناك من يريد منا تصديق أن الشعر
العربي ليس في أحسن حالاته، ليس لشيء إلا لكون درجة الانزياح الإبداعي
قد بلغت ذروتها في بعض التجارب تاركة خلفها ركاما عظيما من التخوم
التي تتهاوى شيئا فشيئا. وكل ما تقدمت تلك الانزياحات في طريقها، تعالت
الأصوات منادية بتكثيف حملة مكافحة هذه الخروجات غير المستحبة تحت
قبة النظام السائد القادم من الماضي، والمعاصر الذي يصير قديما كل
صباح.
لابد أن نتميز بالجرأة والشفافية عندما يتعلق الكلام عند أهمية البحث
عن عناصر توضيح الملامح العامة في التجربة الشعرية بهدف تأسيسها، فليس
في نيتنا أن نحبس اللهب في المصباح ثانية، بل إننا نذهب إلى فتح المزيد
من الآفاق أمام هذه النيران التي انطلقت مثل النمور، حمراء الأحداق
والأشداق، يجب أن تخرج الأسود الضاحكة إلى تنور الوجود) -يقول نيتشة-
لنرقبها خارجة، وإلى الأبد، نحو الفضاء الأرحب. ولا ينبغي أن يخيفنا
الكلام عن التأمل النقدي في التجارب الجديدة، ولا يجوز أن نتيح للمواقف
المتعسفة أن ترهبنا في مثل هذه المواقف التي من شأنها أن تجعلنا أكثر
جرأة ممن ترتجف أوصالهم عندما تذكر أمامهم حريات التعبير وسلطة المخيلة
ولانهائيات الشكل الفني. إذ أن مواصلة الخضوع لرهبة النقد يمكن أن
يفوت على التجربة الجديدة الفرصة الملكية لتثبت الأكثر معرفة من الموهبة
الشعرية التي نحن بصددها، تلك الموهبة القادرة (بفعل وعي المسؤولية
الإبداعية) على توصيف حالتها وتفادي العثرات والتخبطات، طويلة الأمد،
التي تتعرض لها بعض التجارب عندما يدور بحثها في المتاهات بدون بوصلة.
وأزعم أن بمقدور التجربة الجديدة أن تطرح على نفسها الأسئلة الصعبة
وتواجهها.فمن شأن التجارب الجديدة أن تتميز بجسارة من يدخل الغابة
مؤمناً أن ثمة أسداً غامض الملامح، غريب السمات، محتقن بالمبارزات،
يمكننا اكتشافه ومحاورة روحه الباهرة. ولا يعيب على الكتابة الجديدة
أن تقف عند جديدها لتدلنا على حدود الشعر من غيره. فحتى (سوزان برنارد)
التي يستشهد بها العرب في الكلام عن (قصيدة النثر) كانت قد قالت :
( أن كل تمرد ضد القوانين القائمة لابد أن يستبدل هذه القوانين بأخرى،
حتى لا يقع في اللاعضوية واللاشكل). دون أن نكون مجبرين على أن نفهم
من هذا القول ضرورة الركون عند شكل محدد، حين تتكشف لنا ملامح هذا
الشكل أو ذاك. ففي الحدود المالوفة بين الشعر وغيره، ثمة ما لا يقاس
من قدرتنا على أن نرى في تلك الحدود آفاقاً مفتوحة لا تخوماً مسدودة.
أقول هذا لكي أتذكر كلمة مشحونة بالدلالات، قرأتها للوي ماكليش منذ
سنوات طويلة، لا تبارح مخيلتي، لفرط ما ترتبط فكرة الشعر عندي بالوحشية
والغموض معاً. فقد قال ماكليش ذات نزعة من نزوعاته نحو الانتصار لمكتشفات
الشاعر : ( إذا أراد امرؤ أن يصيد أسداً، فأول ما يبدأ به افتراضه
وجود أسد. كسماع زئير في الليل، وافتراس ولد أو ثور، وآثار ضخمة في
الدرب الذي تسير فيه النساء، ورائحة اللحم القديم تحت الشجيرات الشائكة
فيما راح الشيوخ يتفحصونها متأملين. وهذا هو الحال في السعي وراء الشعر،
فالمرء يبدأ بافتراض وجود شئ اسمه شعر. وثم يسعى ليكتشفه. ولكن الفرق
بين المسعيين هو أن المرء يعرف سلفاً كيف تكون هيئة الأسد عندما يواجهه،
بينما نرى أن الغاية جميعها في سعي المرء وراء الشعر هي أن يكتشف،
عندما يتوصل إليه، ماهية القصيدة). ترى كم نسبة الذين يذهبون إلى التجربة
الشعرية الجديدة بشغف التعرف على الشعر فيها، بمعزل عن (معرفتهم) السابقة،
المسبقة، المستقرة والثابتة. كم نسبة الذين يؤمنون حقاً أن من حق الأجيال
الجديدة أن تقترح علينا طرائق تعبيرها، وأن من حقها علينا أن نصغي
لبوح الشباب ومحاولاتهم بأكبر قدر من رحابة القلب والعقل. لعلنا نتمكن
(معهم) من إدراك ملامح كائنات الغابة التي يغروننا بالتوغل في مجاهيلها،
دون التنازل عن حقهم في التجربة وحقنا في الأسئلة. إذن : كم نسبة الذين
يحسنون الذهاب إلى الشعر في كونٍ سريع التحول.
|