الذهاب إلى المستقبل
عندما يكون القرن الواحد والعشرون في المنعطف التالي، فان هذا لا
يعني أننا ذاهبون إليه بالضرورة. فليس من اليقين أنه يقع في الطريق
التي نتبعها من حيث الزمان والمكان. فالمعنى الزمني للذهاب إلى قرن
جديد يستوجب شرطا حضاريا لكي نكون مهيئين لهذا الانتقال الكوني. هذا
الانتقال لم يعد حقيقة حتمية بالنسبة للإنسان إلا إذا اقتصرنا على
الفهم الفيزيائي للزمن، وهذا الفهم، إذا كان من شأنه أن يشبع غرورنا
الثقافي، فانه لابد سيكون موجعا على صعيد الضمير الحضاري لهذه الأمة.
الكرنفالات الاحتفالية التي يضج بها المشهد العربي (في ما يشبه الفرح
المذعور) ليبدو مشاركا العالم في مناقشة الاستعدادات المناسبة للانتقال
إلى القرن الواحد والعشرين، ليست احتفالات واقعية بالصورة التي يتطلبها
الحدث. فإنني لا أفهم تماما معنى أن يتوهم العرب أنهم معنيون (لئلا
أقول مؤهلون) حقا من الوجهة الحضارية لحدث كوني على هذه الشاكلة. ولكي
لا نقع في الخلط بين الأحلام المشروعة التي يصوغها ويدركها قسم لا
يستهان به من الوعي العربي في شريحة معرفية تتصل بالسياق الكوني لأسباب
فردية خالصة، وبين جوهر البنية الحضارية المتينة التي لا تزال هذه
الأمة ترزح تحت وطأتها كمن يتشبث بنوع من الحياة التي لم تغادر القرن
التاسع عشر. فالانتقال من عصر إلى آخر لا يحدث بالرغبات والنوايا المحصورة
في أحلام المثقفين والأفراد المأخوذين بالمستقبل. لأن الجوهر الحضاري
يتمثل في العديد من العناصر الحيوية المتحولة في ممارسة يومية تصدر
عن التفاصيل قبل المظاهر العامة والكبيرة. كيف يفهم العرب مسألة الزمن،
وكيف يتعاملون مع الزمن كحقيقة فعالة في الحياة اليومية؟
هذا السؤال من شأنه أن يضئ جانبا مهما من مشكلتنا مع المستقبل، خصوصا
إذا تأملنا تعثرنا (حد العطالة) في لحظتنا المعاصرة. فأنت لا تكون
مؤهلا لمعرفة الحقيقة الكونية لمعنى الانتقال إلى قرن جديد، إذا أنت
لم تتمكن بعد من حل المشكلات المطروحة عليك من القرن السابق. وأعني
هنا القرن التاسع عشر خصوصا. ذلك القرن الذي جعل الشعوب و الأمم في
مواجهة صريحة (حد الفاجعة) مع ثلاث تحولات جذرية تعرضت لها الشعوب
الأخرى، وتعاملت معها بواقعية، وأجابت (بدرجات متفاوتة) على أسئلتها
بقدر من الوعي. هذه التحولات (يسميها الغرب ثورات) هي الثورة الصناعية
والثورة الاجتماعية والثورة الفكرية. وهي ثورات جعلت المجتمعات الإنسانية
تحت التحولات الجوهرية، بحيث يستطيع الإنسان هناك الإمساك بما يمكن
وصفه بالحق الإنساني الذي يتيح الواقع للجميع الإحساس به والمطالبة
به في آن واحد. وإذا جاز لنا استعادة الدرس القديم، فسوف نتذكر المخاض
الكبير الذي تعرضت له البشرية، في أوروبا وأمريكا واليابان، فيما كانت
تنتقل من القرن التاسع عشر إلى القرن العشرين، دون أن يقتصر نظرنا
على حجم ضحايا الحروب، ففي ذلك الخضم كانت آلة البناء والتنمية الضخمة
تدور متمخضة عن رؤية وممارسة حضاريتين أتاحا لتلك الأمم النهوض المتميز
بشتى أنواع التقدم. الأمر الذي جعل القرن العشرين، بالنسبة لتلك الأمم،
قرنا جديدا وجديرا بالعمل على صياغة المستقبل، ذلك المستقبل الذي سوف
يمثل دائما المنعطف الوشيك الذي لا يمكن تفاديه.
فعلى الصعيد الاقتصادي، نجد أن الغرب يستعد للانتقال إلى القرن الجديد
بمنجزات تضع حقيقة الإنتاج في مقدمة العمل اليومي للإنسان، ففي أوروبا
مثلا، وبعد أن عبرت تجربة السوق المشتركة، تيسر لها تحقيق الاتحاد
الأوروبي الذي يمثل التحول الطبيعي بعد تجربة السوق المشتركة. وهذا
الدرس الكوني البسيط يؤكد أن التحولات الاجتماعية والسياسية ليست إلا
امتدادا موضوعيا للتحولات الاقتصادية التي تصوغ البنى التحتية الحضارية
في المجتمعات الإنسانية، مما يجعل الانتقال إلى ممارسات حضارية جديدة
أمرا منطقيا وحتميا. و الحق أنني لست متيقنا أننا في موقع الزعم بأن
المجتمع العربي، كبنية حضارية، قد تمكن بالفعل من وضع حقيقة الإنتاج
كعنصر أساسي في تنمية كيانه الحضاري، والى أي حد تمكنا من تفادي حالة
الاستهلاك الدائمة لمجمل المواد التي نستوردها من الغرب والشرق. وهل
يجوز لأمة، لا زالت تلبس مما يصنع الآخرون، الزعم بأهليتها للانتقال
إلى القرن الواحد والعشرين في حين أنها لم تتمكن بعد من الإجابة على
أسئلة القرن التاسع عشر.
على الصعيد التحول الاجتماعي، لم تزل القضايا التي تتخبط فيها الأمة
العربية تدور في البديهيات الأولية لحقوق الإنسان التي بات الكلام
فيها ضربا من التجارة يتسابق (لئلا أقو يتلاعب) بها الجميع، حتى أنني
لم أعد قادرا على التمييز بين مطالب المعارضة وبين منظورات السلطات
في البلاد العربية. فالجميع (فيما اكتشف اللعبة) بات قادرا على المزايدة
في حقل لم يعد منتميا للحظتنا الحضارية، ولم يعد يضير السلطة أن تطالب
بحقوق الإنسان، وهي التي تدرك جيدا أن جوهر البنية الاجتماعية، بسبب
الأفكار السائدة والمتحكمة، ستجعل ردات الفعل الجماعية (وللأكثرية
شأن بات يهتم به الجميع كل على طريقته) مضادة ورافضة لأية تحولات متقدمة.
وأخشى أن مثل هذه الحقيقة يمكن أن تفسر لنا ما يحدث من الاحتدامات
المتناقضة ما بين مشروع تقدمي تطرحه السلطة في هذا البلد أو ذاك، وتضطر
المعارضة لرفضه تحت مبررات تشريعية لا سند لها غير البنية المتخلفة
عميقة الجذور في المجتمع العربي، وهذا واقع يتجاوز الحدود الجغرافية
للبلدان ليطال الطرف الثالث من الثورة التي لم يعرفها المجتمع العربي
بعد، تلك الثورة التي باتت جزءا من التاريخ الحديث للمجتمعات الأخرى.
فالفكر العربي لم يزل ضحية النمط الغيبوبي الذي يطمئن للمعطيات ولا
يجرؤ على طرح الأسئلة والشك فيها. والمعروف حضاريا أن الفكر الذي لا
يسأل الأسئلة لا يستطيع أن يحرك الواقع ولا يؤثر فيه. وفي الحقل الثقافي
لم تزل المعرفة ممارسة في هامش النص الأدبي، هذا النص الذي يكتسب قداسته
من حساسية دينية خالصة، إلى حد أن أية متغيرات واجتهادات في مجال تحديث
التعبير الأدبي سيكون بمثابة المس المرفوض بجوهر البنية التي تصدر
عن النص الأول وتصون تجلياته في الفكر والحياة. وبطبيعة الحال فان
التحولات الإبداعية في الحقل الأدبي والفني، والتي تتصل غالبا بالحلم
المشروع للمخيلة الجمعية المتجلية في الإبداع الفردي، هي تحولات محاصرة
ومشكوك فيها ومنتمية للخروجيات التاريخية التي تتجاوز الإجماع (بمفهومه
الديني)، تستفزه وتستعديه. مما سيؤدي دائما إلى احتدام المصادمات بين
ظواهر الإبداع الفردي وبين العقلية السائدة والحاكمة، لكي نصادف المصادرات
والمحاكمات اليومية التي يزخر بها المشهد العربي في سنوات القرن العشرين
الأخيرة، كما لو أن ثمة شهادة فادحة يريد العرب تقديمها للعالم لإثبات
عدم أهليتنا للانتقال إلى قرن جديد، قرن سيشكل بالنسبة لنا فاجعة قاتلة
إذا نحن لم نتثبت من المزاعم المبالغ فيها من أجل التمويه على مشكلات
و أسئلة لحظتنا الراهنة بالكلام عن المستقبل البعيد.. البعيد.
لست ممن يموه على تشاؤمه، فإنني أشعر بالخسارة الفادحة عندما أشهد
المبالغة في الخضوع ليقين البهائم الصادر عن الثقة في الكلام عن أمل
غير موجود أصلا. فليس من الحضارة الذهاب إلى القرن الواحد والعشرين
بسياسيين عاصرهم في الحكم أكثر من ثلاثة أجيال من دون أن يحدث في رؤيتهم
أية تغيرات تنتمي إلى الحداثة، سياسيون لا زالوا يرون في الشعب رعية
لا مواطنين. وليس من الحضارة الحديث عن القرن الجديد في أمة لا يحدث
فيها أي حراك إلا بفعل (الجرف الكوني) إذا صح التعبير، فهي أمة لا
تفعل ولا تريد أن تفعل شيئا، بل انها تبذل الثروات وتهدر الجهود من
أجل الحيلولة دون حدوث أي تحول جوهري في البنى الموروثة من التاريخ
السحيق، في سبيل تثبيت النظام السياسي، وبالتالي الاجتماعي، بوصفه
نظاما مقدسا أو يكتسب القداسة بفعل الجغرافيا والتاريخ، ولا يختلف
في هذا النظام هنا أو هناك، تقليديا كان أم مستحدثا، فالجميع يتوهم
الحق. وليس من الحضارة الاستمرار في التوهم بأنك تستطيع أن تشتري الحضارة
بالمال، لمجرد أنك تمتلك الثروات. هذه الثروات التي لم يزل معظمها
ضائع بين مفهوم الخراج ومفهوم الثروة الوطنية.
الذهاب إلى القرن الواحد والعشرين ليس حكرا على أمة دون الأخرى. هذا
صحيح، ولكن الصحيح أيضا أننا لا نعرف تماما ما إذا كنا ندرك حقا وبوضوح
بأية صيغة سنذهب إلى هناك. وهل يصدر هذا الهوس الكرنفالي عن وعي حضاري
بالزمن وخطورته في الحياة. لا أعرف لماذا ينبغي أن أتذكر حادثة طريفة
صادفتها قبل سنوات تتصل بالفهم الخرافي للزمن في التاريخ والممارسة
العربية. كنت في زيارة إلى اليمن في نهاية الثمانينات، عندما زرت،
من بين أماكن كثيرة، قصر الإمام أحمد في مدينة تعز، الإمام الذي جاءت
الثورة اليمنية لوقف تعطيله لحركة التطور الحديث في البلاد. ومن بين
غرف القصر (القلعة) الكبير الذي تحول إلى نوع بدائي من المتاحف، دخلت
غرفة متوسطة المساحة، فإذا بها مشحونة بعدد لا يحصى من أنواع الساعات
المختلفة في الحجم والشكل وطرق الاستخدام، ساعات بالمئات مرصوصة في
كل مكان في الغرفة، على الجدران وفي الأرض وعلى المشاجب وفي السقف،
والكثير منها على شكل تحف، نادرة قيل أن الإمام كان قد تلقى بعضها
في مجمل الهدايا وسعى إلى اقتناء وشراء الكثير الباقي. وسبب ذلك كما
قيل لنا أن الإمام أحمد كان مولعا إلى حد الهوس بالساعات، دون أن نجد
تفسيرا منطقيا ينسجم مع سياق حياة وتجربة ذلك الحاكم، الذي كان، فعليا،
خارج الزمن على الإطلاق، وعانت بلاده من التخلف عن أبسط مظاهر الحداثة
ليس في العالم، ولكن على الأقل في الجزيرة العربية. لا أعرف لماذا
اشعر بأن هذه الحادثة الأكثر غموضا في ذلك المتحف التاريخي، قفزت في
ذهني وأنا أكتب هذه الانطباعات المتصلة بكلام العرب الراهن عن الذهاب
إلى المستقبل، وحساسيتهم بمفهوم الزمن. ربما لأنني خصوصا أرغب في حاجتنا
الحيوية لمعرفة كيف يفهم العرب حقيقة الزمن وكيف يتعاطون مع هذه المعرفة
بوصفها واحدة من أخطر العناصر الكونية في هذه اللحظة.
|