في مستقبل الكارثة
من المتوقع أننا لن ندرك تماما ما يحدث في العالم من تحولات عميقة
على صعيد البنى الهيكلية وعلاقات (صراع المصالح)، دون أن نتابع ما
يطرحه محللون مختصون في مستقبليات الصراع الكوني. و (آلفن توفلر)،
أحد هؤلاء المؤلفين المختصين، منذ سبعينات القرن العشرين، في سبر المشهد
الكوني من داخله وتحليل عناصره العلمية (على الطريقة الأمريكية) التي
وإن تميزنا إزاءه بالحذر النفسي - تفادياً لرعب الصورة- فإن كلامه
يترافق مع قدر كبير من المعلومات التي تدفع إلى إعادة النظر في الإنشاء
المتواصل في ما نقرأه عادة. بعد سلسلة مهمة من المؤلفات (صدمة المستقبل
/ الموجة الثالثة / تحول السلطة ) جاء كتابه الجديد ( أشكال الصراعات
المقبلة) لا ليكشف أحداث الثمانينات والتسعينات فحسب، ولكن لكي يضع
أمامنا صورة لا تقل رعباً عما يمكن أن يحدث لكوننا، في مجال الحروب
الكونية، (حيث الإلكترون سيد أشكال الصراع) من أساليب تكنولوجية غاية
من التطور. خصوصاً بعد الانفراط التاريخي لما كان يسمى تعادل القوى
بين المعسكرين التقليديين. (فالانتقال التاريخي المنتظر - يقول توفلر-
من عالم منقسم إلى جزئين، إلى عالم منقسم إلى ثلاثة أجزاء يمكن أن
يطلق صراعات هائلة على السلطة في الكرة الأرضية، إذ سيحاول كل بلد
أن يرسي موقعه في البنية الجديدة ذات الطبقات الثلاث والتي ترتسم.
وهذا التوزع الثلاثي يحدد السياق الذي ستنشب داخله معظم الحروب. وهذه
الحروب لن تشبه في شيء تلك التي يتصورها معظمنا). ولابد للقارئ أن
يعود للكتاب لكي يتعرف على مشهد الصراع المتوقع الذي سوف يقوم على
درجة متقدمة من التقنية، لن تكون آليات حرب الخليج الثانية سوى بروفة
مبسطة لطبيعتها التدميرية والمعقدة في آن. ليس من باب المبالغة الكلام
عن خطورة ما يحدث في خلفية الأحداث من حولنا. فالتطورات الهائلة التي
تحدث على صعيد صياغة المستقبل (تكنولوجيا) من قبل الدول الكبرى المتصارعة
على مواقع الثروات والأسواق، هي تطورات تمسّ ما يمكن وصفه بمستقبل
الكون قاطبة. ولعل المسافة الرهيبة التي تفصلنا عن جوهر تلك الأحداث
والتطورات، سوف لن تتمثل في قدرتنا على المعرفة أو الوصول إليها، ولكنها
للأسف تتمثل في عمق أكثر جوهرية، لا يزال الواقع العربي يزحف ويلهث
في سبيل تأكيد (مجرد تأكيد) حقه في الحصول على هذا الحق، وأعني بالضبط
حقه في حرية التمتع بالمشاركة في طرح أسئلة المستقبل وصياغة أجوبتها.
هذه هي المشكلة الدائمة التي أجد أننا نصطدم بها دائماً عند الحديث
عن كل ما يتعلق بحياتنا في هذا العالم وفي الواقع العربي خصوصاً. فليس
ترفاً القول أن خطورة ما يحدث في الجانب الآخر من العالم هو أمر يقع
على مستقبلنا، وأن حق الذين يعيشون هناك في مناقشة مستقبلهم لم يتحقق
بمحض المصادفات. لقد تحقق ذلك بفعل التحول الجوهري في المجتمع. أما
نحن، في هذا الركن (القصي حضاريا) برغم مركزيته الاستراتيجية (اقتصادياً)،
لا نجد في الأفق ما يشير إلى أمل ديناميكي للانتقال إلى القرن الواحد
والعشرين بقدر معقول من الحرية. تلك الحرية التي لا يجوز للإنسان أن
يزعم أنه كائن حديث ومعاصر بدون أن يتمتع بها. عندما كانت آلة الحرب
(إعلاماً وأسلحة) تشتغل على تجهيز وإنجاز حرب الخليج الثانية، كان
الجميع منشغلاً بما يمكن أن يحدث (الآن/ آنذاك)، لقد كنا في انتظار
من يحل لنا ذلك المشكل فحسب. ولم نتوقف لحظة لمعرفة كيف يجري حل ذلك
المشكل وإلى أين سوف يأخذنا ذلك الحل. أكثر من هذا، لا يستطيع أحد
الزعم بأننا كنا ندرك بأن الحرب (التي سنذهب ضحيتها جميعاً) هي ضرب
من التدريب الكوني على صراع غاية في التعقيد استعداداً للسيطرة على
المستقبل كاملاً. فكلما تورطنا أكثر في صراعات لا نعرف كنه هندستها،
أصبح تدهورنا الحضاري أكثر إمكانية وجدارة. فمهندسو الحروب لا يكترثون
بمن لا يكترث بحقه في المعرفة، وفي السياق العربي، اعتاد الآخرون على
عدم اكتراثنا بحقنا السياسي والاقتصادي، فكيف يمكن أن يتوقعوا منا
المطالبة بحقنا في المعرفة. هذا الحق الذي لا ينتظرنا الآخرون لكي
نطالب به، ثم أن المعرفة لا تأتي إلينا بالمطالبة، علينا فقط أن نذهب
إلى انتزاع تلك المعرفة انتزاعاً، بوصفها الحق الأكثر جدارة بالنضال
في سبيله. مع ملاحظة أن المعرفة في هذا العالم باتت متاحة أكثر من
السابق، لولا أن العقلية السائدة لا تزال تفكر في الرقابة والمصادرة
قبل أي شيء آخر. كلما توغلت أكثر في قراءة ما يصوغه الآخرون في حقل
المستقبليات، تأكد لي أن الوهم بأن العالم يعمل ضد العرب خصوصاً، هو
وهم من شأنه أن يفتك بنا ببطء يليق بالجثة الكسولة. فثمة اعتقاد بأن
العالم لا شأن له سوى التخطيط ضد العرب. في حين أنك فيما تتابع تفاصيل
الاستراتيجيات التي تصاغ على مستوى الكون، ستجد أن أمماً أخرى كثيرة
مصابة بحالتنا بلا استثناء. وعندما لا نتوقع من الآخرين الرأفة بنا،
يتوجب أن نبادر بالرافة بأنفسنا على الأقل. والكلام الذي يدور في السنوات
الأخيرة عن الذهاب إلى المستقبل بجدارة الحضارة الحديثة، يجب أن لا
يقف عند حدود الأوهام. (فالاعتقاد بأن وصول حضارة جديدة إلى كوكبنا
يتم بسلام وسكينة - يقول توفلر- ما هو إلا غاية السذاجة الاستراتيجية،
إذ أن لكل حضارة متطلباتها الاقتصادية، وبالتالي السياسية والعسكرية).
مشكلة هذا كله أن الحديث المتواصل عن السلام في العالم، لم يكن ساذجاً
في أي وقت من التاريخ مثله الآن. وبعد قراءة ما يكتبه توفلر سيكون
ذعرنا من المستقبل مفهوما ومبرراً، ولن يكون كثيراً علينا أن نقضي
باقي حياتنا محرومين من حقوقنا في الحريات، مادمنا قد أمضينا القسم
المنصرم بدون تلك الحريات، وأخشى أن يأتي علينا وقت نقبل فيه بمجرد
العيش (مثل الحيوانات الأخرى) بمأمن من أتون الحروب الماثلة. (قليلون
أولئك الذين يفهمون إلى أي حد ستكون مختلفة حروب المستقبل، وإلى أي
حد يمكن لهذا التنوع المتزايد أن يعقد الجهود الرامية إلى إرساء السلام
في المستقبل- توفلر) ليس صدفة أن يضبط شاعر نفسه متلبساً بالذعر مما
يحدث حوله. ذعر يتجاوز الخريطة الصغيرة (التي تتضاءل دائماً بفعل التحولات
الكونية) ويصل إلى الأفاق التي يتوهم الشعراء إنهم يذهبون إليها تحت
تأثير مخيلتهم الإبداعية . (ففي حين أن شعراء ومثقفي المناطق المتخلفة
اقتصادياً يؤلفون أناشيد وطنية، يتغنى شعراء ومثقفو دول الموجة الثالثة
بفضائل عالم (بدون حدود) والاصطدامات التي تنتج عن ذلك، مثل حاجات
متباعدة جوهرياً للحضارتين المختلفتين جذريا، يمكن أن تتسبب في السنوات
المقبلة بأحد حمامات الدم الأكثر كارثية). أفهم أكثر الآن معنى أن
نكتب شعراً قبل النوم وبعده؟ ولماذا لا نستطيع تفادي الشعر في عالم
يتعرض لما لا يقاس من الكوارث ؟ في السنوات الأخيرة، أحب دائماً أن
أطرح هذا السؤال على نفسي. وأحب دائماً أن أتفادى القبول بالأجوبة
العابرة. أحب أن يظل السؤال سؤالا دائماً.
|