علاج المسافة
يبدو أن وسائل الاتصال التي تتطور بسرعة مذهلة، وأهمها (حاليا) شبكة
الإنترنت، سوف تثير دائما ضرورة إعادة النظر في مفهوم (المسافة)، ليس
فيزيائيا (المكان والزمن) فحسب، ولكن ثقافيا واجتماعيا وروحياً بشكل
خاص. ومن أسف أنه سوف يحتاج المتصلون بالشأن الثقافي والإبداعي في
واقعتا العربي بعض الوقت (حيث تتضاعف الخسارة) لكي يكتشفوا أن ثمة
ما يمسّ شغاف أصحاب المخيلة النشيطة يحدث على مقربة منهم، فيما هم
يتعثرون بالتردد الفادح أمام دخول هذه التجربة. فبين المسافة الزمنية
التي تستغرقهم (ببطء السلاحف، مهما تميزت بالحكمة) والمسافة الافتراضية
التي تخترقها شبكة الإنترنت، ما يمكن وصفه بالمعجزة التي أتلف الشعراء
والمبدعون زهرة أعمارهم وتجاربهم من أجل تخيلها، ناهيك عن تحققها في
الواقع. وأعني به معجزة اختراق الفجوة بين النص والآخر، ليس بوصفها
حالة استهلاك متاحة بيسر، ولكنه باعتبار الفكر والإبداع أصبحا الآن
مرشحين (بوسائط غير تقليدية) لكي يحققا تجربة غير مألوفة هي تجربة
: الحركة في الفعل أو تحول النص إلى صورة. بنوع مغاير من مفهوم المسافة
بين الاثنين.
أحب أن أسمي أشياء تجربة الاتصال و النشر الإلكترونية بما يقاربها
من الشعرية. ففي فكرة الإنترنت شيء جوهري من الشعر. لأن ما يتحقق فيها
من أسلوب التعامل مع فكرة المسافة، هو ذاته ما يمس شهوة اختزال والتعبير
شعريا عن العالم. ليس بوصفه واقعاً ولكن باعتباره خيالا محضاً يتجلى
في صورة مشحونة بالعاطفة واحتمالات الحلم. يتوجب أن يكون الذين ابتكروا
فكرة الإنترنت على درجة عالية من الخيال، وهو ما يقربهم من أهم عناصر
الشعر ومكوناته. وأظن أن أهم العلماء في تاريخ البشرية كانوا حالمين
أكثر من غيرهم. ونماذج المكتشفين في حقلي الضوء والصوت ما يدعم هذا
الكلام، وهما المجالان الأبرز في ما يتعلق بفكرة المسافة كفلسفة يقوم
عليها فعل اختراق الزمان والمكان.
فالمسافة التي وصفت فيما سبق أنها (مسافات لا يمكن السيطرة عليها)
وهي خصوصا المسافة الجغرافية، أصبحت الآن في حكم الحلم الناجز، حيث
صار بإمكان الإنسان العادي أن يختزل هذه المسافة بأكثر الوسائل يسراً
وسهولة وسرعة وأماناً أيضا. أكثر من هذا، فإن قطع المسافات الطويلة
أقل كلفة أحيانا من قطع المسافات القصيرة. هذا في مجال السفر والانتقال.
وسوف يكون الأمر أكثر سهولة ويسرا في حقل الاتصال، خصوصا إذا وضعنا
في الاعتبار التطور الهائل الذي يحدث يوميا في صعيد تحويل المادة الإلكترونية
إلى ما يشبه جسم الضوئي المتألق المشحون بالحيوية، بفعل اختزال فكرة
المسافة إلى جسر ضوئي غير مرئي لكنه سريع الانتقال بمجرد الملامسة.
في كتابه (مستقبل الجمهور المتلقي)، الذي ترجمه محمد جمول، يذكر (و.
رسل نيومان) مثالاً من السيطرة على المسافات يتعلق بنظام كمبيوتر في
السويد ( أوائل الثمانينات تقريبا) يستخدم لإعطاء إدارة الإطفاء معلومات
عن عدد ساكني بناء ما وتكوين هذا البناء عند تلقي إنذار بوجود حريق
في ذلك المبنى. حيث يقترح بنك المعلومات أقصر طريق بين المحطة ومكان
الحريق، من أجل عدم تضييع الوقت. المثير في الأمر، أنه عند تصميم النظام،
وجد السويديون أن المعلومات الأقل كلفة وأكثر كفاءة وموثوقية كانت
تأتيهم من شركة أمريكية مقرها في كليفلاند في أوهايو بالولايات المتحدة.
فحين ينطلق رجال الإطفاء من ثكنتهم عبر أقصر الطريق نحو موقع الحريق
في وسط مدينة ستوكهولم، كانت المعلومات تصلهم في ثوان من قلب كليفلاند،
فيما سيارات الإطفاء تغادر ثكناتها.
وقياسا لهذا المثال (القديم) يمكننا أن نورد مئات الأمثلة الجديدة
التي تمكنت من تحويل مفهوم المسافة بصورة تجعل الفكرة بمثابة الحلم
قيد التحقيق يوما بعد يوم. فلم يعد (الآن) مفهوم المسافة (فيزيائيا)
كما هو عليه منذ بدأت وسائل الاتصال الإلكترونية. ثمة تحول جذري (يستعصي
على الوصف) يحدث لفكرة المسافة على كافة الأصعدة. وسوف يمسّ هذا التحول
بالطبع المعنى الاجتماعي للاتصال. فعندما يتساوى فعل الاتصال، واقعياً،
بين الغرفة المجاورة في نفس المبنى وأبعد نقطة في الكوكب من حيث السرعة
والسهولة والوضوح والأمان، سيكون علينا إعادة النظر في المعنى الإنساني
لأن يكون الشخص حاضرا بالمعنى الروحي (حضوراً افتراضياً حسب المصطلح
الإلكتروني) في هذا الفضاء الشاسع، في الوقت نفسه الذي يتوجب عليه
إدراك المسافة كما لو أنها تأملٌ في قبضة الكف. بمعنى أنه يمكن أن
يختزل الزمن والمكان في لحظة واحدة. وهذا من شأنه أن يضع المعلومة
(بوصفها حركة الإنسان في الحياة) تحت اختبار طاقتها على الاحتفاظ بضرورتها
بقدر ما تحققه من سرعة ذلك الاختزال : للمكان والزمان في آن واحد.
مفهوم المسافة هنا سوف يطال كذلك الكلفة المادية لعملية الاتصال،
ففي حين يمكننا التوصل بالمعلومة النائية (بوصفها معرفة) ونحن في غرفتنا،
سوف يغنينا هذا ليس عن الانتقال والسفر للبلاد الأخرى في سبيل الحصول
على تلك المعلومة، بل أن الجريدة التي سوف تنقل هذه المعلومة في اليوم
التالي (لكي نكون متفائلين) لن تكون مجدية ولا تسعف حاجتنا الملحة،
ففي ثوان معدودة (إذا تميزنا بالبطء) ستكون تلك المعلومة، لحظة توفرها
في أي مكان من العالم، تحت تصرفنا على شاشة الكمبيوتر عبر شبكة الإنترنت،
فأقل من هذا سيجعل المعلومة قديمة.
هذا الواقع (الذي سيسميه البعض افتراضيا، لالتباس في المفاهيم) سوف
يجعل المعرفة في كل منطقة من العالم متاحة للجميع بصورة لم يعهدها
المجتمع الإنساني قبل الآن. وبطبيعة الحال سوف يتصل المفهوم الجديد
للمسافة بالمفهوم السائد للسلطة، حيث يحول مفهوم الاختزال هذا الأجهزة
التقليدية للسلطة عبارة عن متفرج يجلس خلف شاشة الكمبيوتر لتلقي المعلومات
ذاتها التي يستقبلها كل من يتصل بشبكة الإنترنت في اللحظة.
المسافة هي إذن مفهوم قيد إعادة النظر، على صعيد الجغرافيا والتاريخ
والاقتصاد والثقافة، وبالضرورة في المجال الاجتماعي الذي يستدعي استعدادا
روحياً جديداً لفهم ما يحدث، ليس بوصفه اقتراحا خارجياً يهدد سلوكنا
الحضاري فحسب، ولكن، خصوصا، باعتباره إسهاما إنسانيا نحن بحاجة لتفهمه
كشرفة تطل على المستقبل، حيث السلطة تتجاوز طبيعتها السياسية المباشرة،
لتصبح مفهوما شاسعا يتصل بالمعرفة، لا تتمكن القوة على اغتصابه بأنانية
الامتلاك، ولا تقدر الثروة على اقتنائه كمادة استهلاك. المعرفة هي
الآن سلطة المستقبل. وكلما تهيأنا لأن ندرك هذه الاختزال المتسارع
لمفهوم المسافة، تيسر لنا مجابهة مهماتنا الحضارية بصورة تجعلنا قادرين
على تفادي موقع المتخلف التابع لما يحدث حولنا من تحولات جذرية على
صعيد الواقع ومفاهيمه وأدوات فهمه التي يقترحها على الإنسان. فكل ما
توغلنا أكثر في معرفة المكونات العلمية وحاجاتنا الإنسانية لوسائل
الاتصال، تأكد لنا أن المستقبل (الذي يحدث بأسرع مما نتخيل) لا يستطيع
انتظارنا فيما نحن نتردد أمام مقترحاته الشاسعة، بعيدة الأفق، وهو
يختزل المسافات.
ترى كيف سيرى المبدعون العرب إلى الفكرة المتحولة للمسافة، وكيف سيعالجونها
لئلا يخترقهم البرق في محطات انتظاراتهم ؟ وقبل ذلك، متى سيكترث المثقفون
العرب، المبدعون منهم خصوصاً، بهذا الحقل الذي لم يعد بمقدور الإنسان
(العادي) تفادي ضرورة العلاقة الجديدة به؟ وقبل ذلك أيضا، بأي معنى
سوف يفهم المبدعون العرب الحداثة (فيما يتحدثون عنها) إذا لم يكن بمقدورهم
الاتصال (الأسرع) بمواقع تلك الحداثة وآلياتها الحضارية في اللحظة
ذاتها التي تولد فيها، في وقت أصبح العالم يعيش معطيات ما يسمونه الحداثة.
وقبل ذلك أيضا وأيضا، بأية وسيلة يمكن للمثقفين والمبدعين العرب أن
يعيدوا صياغة منظوراتهم وطرق تفكيرهم وأدوارهم في الحياة، إذا هم لم
يكترثوا بالدور الخطير الذي تلعبه المعرفة في العالم، ليس بوصفها استيراداً
واستهلاكا، بل بوصفها خلقاً وابتكاراً يومياً يجعل من الفعل المعرفي
طاقة جديدة، أكثر حرية، تتجاوز الحدّ السياسي والأجهزة السلطوية. وظني
أن على المثقف العربي أن يتحصّن بحرياته بحق الاتصال بالمعرفة ليفرض
استقلاله الحقيقي عن أشكال السلطة، هذه السلطة التي أصبحت (في عالم
وسائل الاتصال الجديدة) مخترقة وغير ذات معنى، كلما حاولت أن تحقق
حضورها بوصفها أداة مراقبة ومصادرة. الحكومات التي لم تعد قادرة على
الزعم بأنها مصدر السلطات في دولها ومجتمعاتها المربوطة بشبكة أكثر
تركيبا وتعقيدا من السابق. المثقف العربي الآن في مواجهة الدور الجديد
الذي يتوجب صياغته بمعزل عن أوهام السلطة ومشاريع أملها اليائسة. ربما
لأن هذا الشكل سوف يتيح لنا فرصة الكفّ عن ترديد فكرة غياب المثقف
عن دوره وانغلاق الآفاق أمام مساهمته في مساءلة الواقع وصياغة المستقبل.
للمثقف الآن فرصة صوغ شخصيته المستقلة (بالمعرفة كسلطة) عن السلطة.
أقول هذا وأنا أرقب الفجوة الفادحة (تتفاقم يومياً) بين الكلام عن
الحداثة وتفاديها في نفس الوقت، الحداثة والتخلف عنها دائما. فالحداثة
أن تمتلك رؤيتك لها بمعزل عن قوانين التفكير التقليدية التي يصدر عنها
الفكر السائد. فليس من المتوقع أن تدرك هذا الاختزال الهائل والباهر
لمفهوم المسافة بين الإنسان وطاقته المكنونة (والمكبوتة في السياق
العربي)، إلا إذا تهيأت باستعداد حقيقي لإعادة النظر في مفاهيم الحداثة
المتحولة، في سبيل التحول إلى حق الإنسان في المعرفة خارج سلطة الماضي
(بكل تجلياته السياسية والاجتماعية والثقافية)، وحقه في أن يعرف ويرى
ما يراه هو، وليس ما تريد أجهزة الإعلام الرسمية أن يراه ويعرفه. بهذا
المعنى تكف المفاهيم التقليدية لمصطلحات مثل الديمقراطية والحقوق المدنية
وحق تداول المعلومات وحريات التعبير عن الارتهان بالتفسير الحكومي
والسلطوي، ولا تعود أداة قيد الاستغلال لدى مؤسسات السيطرة لكبح خيال
الإنسان : في النص والشخص.
لأمر غامض وضعت لكتابي القادم عنوان (علاج المسافة)، وكنت صادفته
ذات سياق روحي في أحد مصادر التاريخ الإسلامي. وها أنا أعيد اكتشافه
مجددا في ضوء سياق معرفي آخر. يقيناً أنه ليس ثمة صدفة هناك، فكل عنوان
بالنسبة لي هو قدر إبداعي ينبثق بوصفه نصا شبه مكتمل. وتلك قصة أخرى
لا أعرف كيف أرويها لنفسي.
|