العالم غرفتي
لا أذكر الكاتب الذي قال، أوائل هذا القرن، بأن ( العالم قريتي ).
وهو قال تلك الكلمة صدوراً عن جموح المخيلة التي يتميز بها المبدع،
لكي يتصل بأبعد الكائنات في الكرة الأرضية، معبراً عنها وذاهباً إليها.
وتلك المخيلة الشعرية، إذا كانت قد أسعفت ذلك الأديب، فإنها ستبدو
الآن، في نهاية القرن، في مواجهة أكثر وسائل الاتصال (شعرية)، حيث
يتجلى لنا قدرة العلم ( الذي لا يختلف عن الشعر إلا في النوع) على
تحقيق أكثر الأحلام توغلاً في المستحيل.
لذلك، يمكنني الآن القول مجدداً، بأن (العالم غرفتي). فمن خلال شاشة
الكمبيوتر الشخصي، في غرفتي الصغيرة، في بلدتي الأصغر في العالم، يمكنني
أن أتصل (ليس بالمخيلة فقط) بأبعد الكائنات في.. / ليس في الكرة الأرضية
فحسب، ولكن في حدود المجرة التي تتجاوز حدود الأرض. لكي أتابع ما يجري
للمركبة الصغيرة التي ذهبت إلى سطح المريخ للتعرف على الوضع هناك وتصفه
لنا، تمهيداً للسفر إليه. باعتبار أن الحجز على الرحلات التجارية الذاهبة
إلى الفضاء قد بدأت الآن، استعداداً للإقلاع أوائل القرن الوشيك، كل
ذلك يحدث الآن عن طريق شبكة الإنترنت. إن مجرد فكرة قدرتنا على الاتصال
بكل من يجلس أمام جهازه الشخصي في أية غرفة صغيرة، في أي منطقة من
الكون، هي فكرة تتصل بالشعر كثيراً، الأمر الذي يؤكد يوما بعد يوم
بأن العلم هو ضرب من الشعر بطريقة أو بأخرى. وإذا كان أمام الإنسان
في ما مضى أن ينتظر أياماً طويلة من أجل استلام جواب رسالته من شخص
في البلدة المجاورة، فإنني تمكنت في ليلة واحدة أن أزور عدداً من مواقع
شعراء في جنسيات ومناطق مختلفة من الأقاصي البعيدة في العالم. أتبادل
معهم المعلومات، وأقرأ طرفاً من أشعارهم (بعد ترجمة آلية سريعة تسعف
جهلي باللغات). أكثر من هذا، فإن نوعاً من البهجة شعرت بها وأنا أتأمل
في موقع مواطن عربي يعيش في باريس، عندما لاحظت أنه (وهو المتخصص في
حقل علمي) قد وضع في موقعه نصوصاً لشعراء عرب مثل نزار قباني ومحمود
درويش وفدوى طوقان. الأمر الذي ضاعف عندي الشعور بأن النزوع اللاشعوري
لدى الإنسان، وهو يتعرف إلى الإنترنت، يتجه دائماً نحو فيض الشعر فيما
يتعامل مع هذا الأفق اللانهائي، ففي هذا ضرب من جواب فاتن للذين لن
يكفوا الكلام في موت الشعر في حضور التقدم الإلكتروني.
من جهة أخرى، فإن الكم الهائل من المعلومات (في شتى الحقول) التي
تتوفر لديك من خلال هذا الفضاء المفتوح، يجعلك أمام واحدة من أجمل
معطيات العلم الشعرية. فعندما طلبت (مثلاً) معلومات عن الفنان الهولندي
(فان جوخ)، توفر بين يديّ (خلال عشر ثوان بالضبط) ما يزيد عن ثلاثة
وثلاثين ألف صفحة. من طرف محطة بحث واحدة فحسب. ويمكننا القياس على
هذا، باقي الحقول التي سوف يتضاعف عندها عدد الصفحات التي ستكون على
استعداد لتزويدك (والتعاون معك أيضاً) بما يساعدك ويسعدك ويوفر عليك
الوقت و الجهد و الانتقال، فلا حاجة لك لمغادرة غرفتك من أجل تعرف
ما إذا كان هناك من يهتم مثلك (في تلك اللحظة بالذات) بالكيفية التي
عالج بها فان جوخ صراعه مع الأصوات المهينة التي كان يسمعها، وهل في
معالجته الذاتية ببتر أذنه عنف يضر بالآخرين أم أن في جنون الروح المعذبة
عذر يمكن أن يتفهمه الإنسان المعاصر بعد سنوات طويلة من غياب هذا الهولندي
الرائع. ليكن فان جوخ ميتا، لكن حضوره كموضوع حميم من شأنه جمع كائنات
بشرية جديدة متباعدة الأصقاع، يجلس كل منها في غرفته الصغيرة، ويتبادل
الحديث الهامس مع روح مكتظة بالأسئلة، ما كان لأحد أن يسمعها ويصغي
لقلقلها ويتبادل معها الولع لولا شبكة الإنترنت التي نسجها الخيال
العملي من عناصر الشعر ومكونات المستقبل، مساهمة منه في سعادة الإنسان
بإتاحة وسيلة الاتصال الجديدة والجميلة بين البشر. وبهذا يتحقق نوع
من الإحساس بأن ثمة كائنات إنسانية هي على استعداد دائماً لتجاوز وحدتها
وحدودها لكي تتصل بك بالشكل الذي يروق لك ويحقق حضورها معك في العالم.
وما على الإنسان إلا أن يذهب إلى الحلم لكي يتأكد أن ثمة ما يجعل ذلك
قابلا للتحقيق. وفي شبكة الإنترنت ما يمنح الشخص طاقة على استعادة
طبيعته الخيالية دائما فيما هو يرفل بترف هذه الشبكة، التي ستذكرني
دائما بصائدة الأحلام التي ينسجها الهنود الحمر بمواد طبيعية تنتخب
من الطير والحيوان والنبات، ليعلقها الإنسان فوق سريره باعتقاد أنها
تغربل هواجس النائم وتمنع عنه الكوابيس والأحلام المزعجة لتتركه يتمتع
بالأحلام الجميلة و السعيدة فحسب. غير أن الكوابيس سوف تكون كامنة
لمن لا يحسن الإبحار في الشبكة الجديدة.
أتعرف على عالم الإنترنت يوماً بعد يوم، وأكتشف الآفاق المتاحة، متجاوزاً
الكثير من الأوهام التي كرستها سلطات الجمع والمنع طوال السنين، وأعود
متأملاً ما يستقر (باطمئنان فادح) على أرض الواقع العربي من انغلاق
وكوابح، ينتابني نوع من الشعور بعبث ما يحدث. ففي حين تطرح الحضارة
أمام الإنسان الوسائل اللانهائية للاتصال، نرى أجهزة الرقابة العربية
وهي تمعن في إثبات درجة من التخلف والغباء لا توصف، ليس بسبب عجزها
عن السيطرة على حركة الحياة من حولها فحسب، ولكن (وهذا هو الأخطر)
بسبب كونها لا تريد أن تدرك المتغيرات الجذرية التي يتطلبها الإنسان
في هذا العالم. وبالتالي حاجة هذا الإنسان، الذي يتصرف كما لو أن (العالم
غرفته)، إلى الشعور بالأمان وهو يتصل بالمعلومات المتاحة أمامه بما
لا يقاس. فليس كافياً أن يكون لدينا حرية وضع جهاز الكمبيوتر في الغرفة
وفتحه على العالم، لابد لنا من الشعور والثقة بأن هذه الغرفة ليست
هدفا لأجهزة السلطة، في محاولة لمنعنا من الذهاب إلى أبعد من الحدود
(والمتوهمة) من قبل السلطة. فمن العبث (لئلا أقول من العار الحضاري)
أن تتذّرع السلطات العربية (بشتى الحجج الأخلاقية والسياسية) وأن يتصرف
النظام العربي مع الآخرين كما لو أنهم كائنات قاصرة تحتاج دوماً لمن
يفكر بالنيابة عنها.
ما يثير عندي هذه الهواجس، هو ما يحدث في ممارسات الرقابات العربية
في حقول مختلفة. فماذا يعني منع تداول أخبار محلية أو عالمية، في الوقت
الذي يمكن أن تصلني بطريقة أخرى لا تطالها يد الرقيب؟ أليس في هذا
نوع من التخلف العقلي غير المعلن؟ وعندما أرى الرقابة في منطقة تمنع
نشر كتاب هنا وتجيزه في بلد مجاور، أحاول معرفة دلالة (حضارية) واحدة،
تميز هذا البلد عن الثاني فلا أجد، خصوصاً إذا لاحظنا أن بعض هذه الإجراءات
من شأنها أن تجعل هذا الكتاب الممنوع أكثر انتشاراً بعد منعه، وأكثر
من هذا فإن ثمة وسائل جديدة خارقة يمكن أن يلجأ إليها الكاتب لنشر
كتابه. إن بعض ممارسات الرقابة تدفع الإنسان إلى الشعور بالخجل لكونه
ينتمي إلى عالم يزعم التحديث وحريات التعبير. ويغيب عن بال أجهزة الرقابة
إنهم، بمثل هذه الممارسات، يؤكدون بأن الأوهام التي يسعون لترويجها
لا تصمد أمام حقيقة واحدة من حقائق العلم والحضارة التي باتت متاحة
أمام الجميع بلا قيود، بلا أوهام، وفي عالم مفتوح.
أستغرب من السلطات التي تبذل ملايين الدولارات للصرف على أجهزة مضادة
لفرض الرقابة على فضاء شاسع مثل الإنترنت. أستغرب، لأنهم بهذا السلوك
إنما يعيدون مجدداً مفارقة الذهاب إلى الحضارة بشروط التخلف، وهذا
ما لا يستقيم مع إنجازات الإنسانية. تماماً مثلما كان الأسلاف الذين
عندما عمدوا إلى ترجمة الفلسفة اليونانية عملوا على تغييب جوهرها الفكري
القائم على الجدل والحوار والشك وتعدد الآلهة. وهذا ما يجعل تعاملنا
مع الفعل الحضاري غالباً ما يصدر عن وهم الانتقاء، حيث نأخذ ما لا
يمس بنيتنا الذهنية القائمة على الاستقبال واليقين المنجز والحقائق
التي لا يأتيها الباطل.
ليس سهلاً على الإنسان أن يكتشف ما يقترحه الإنترنت (بوصفه نظام مفتوح
على الأفق)، دون أن يصاب بصدمة المفارقة التي يجتهد النظام العربي
في تفاديها أو تقنينها وتحصين المواطن العربي ضدها. فكلما تقدم العلم
خطوات، نلاحظ أن سلطاتنا العربية تتخلف خطوات مضاعفة، مستعينة بأكثر
الأساليب بؤساً. ويكفي أن تتخيلوا رقابة عربية تفرض حدوداً على نص
أغنية بسبب كلمة هنا أو تعبير هناك، في حين أن بوسع الشخص أن يتصل
بأكثر النصوص تطرفاً في العالم. أليس في هذا السلوك إمعان في احتقار
عقلية المواطن وتبسيطه إلى درجة الحيوان. ففي هذا العالم بات من باب
المخالفة القانونية (لئلا نقول من المهين) أن نفرض على الإنسان وصاية
تطال خياراته في ما يقرأ ويستمع ويشاهد ويفكر، والتعامل معه كما لو
أنه كائن يقصر عن إدراك ما يحتاج وما يفيده وما يضره. لقد بالغت أجهزة
الرقابة العربية في عدم احترام عقل الإنسان، وعدم الخجل من سلوك أصبح
خارج التاريخ. فبعد كل وسائل الاتصال الحديثة التي تتحقق كل يوم، كان
على هذه الأجهزة أن تكف عن أكثر الأدوار تخلفاً. فمن المضحك أن تفكر
هذه الأجهزة بالوقوف في وجه التطور الطبيعي للحياة.
لكننا إذا تأملنا المشهد بصفته طريقة حياة، سنلاحظ أن ما يحدث في
هذا المجال هو ضرب من الفضيحة غير المعلنة لمجمل المنظومات العربية.
فضيحة تعرّي الواقع الحقيقي لحياتنا العربية. فهذه العقلية الرقابية
هي قرين بنيوي لطبيعة المصادرة الدائمة للحريات، حيث الدولة هي المعنية
بشروط المنع والمنح، كما لو أن الإنسان لا يزال بحاجة لمن يسمح له
بالتنفس والحلم. إن شعوراً بالخيبة سوف تطال الإنسان العربي عندما
يرقب سبل الحرية تتنوع، فيما يقع هو تحت وطأة أنظمة تصرف الثروات في
ابتكار وسائل حجب هذه الحرية.
يمكننا تقدير المسافة (الحضارية) بين فكرة الرقابة وما يقترحه علينا
فضاء الإنترنت، بما يعادل ثلاثة قرون ضوئية، ليس بمقدور وسيلة معروفة
أن تختزلها في صالح العودة إلى الوراء. ويبقى على الرقيب العربي إذن
أن يشرّف غرفتي. |