ورشة الأمل

(سيرة شخصية لمدينة المحرق)
قاسم حدَّاد

 

(طَرفة) في مدرسة الهداية،

رمل قديم يتحدر في حضن الشاعر

الحديث عن مدينة الطفولة، هو شيء يشبه الإنصات لطفل خجول يريد أن يتذكر مستقبله بالصورة والكلمة وقدر كبير من المخيلة.

أظن أن المحرق لم تكن مدينة فحسب، لكنها بالضبط كانت مدرسة، بالمعنى العميق لمفهوم الدرس. وليس من غير دلالة أن تكون مدرسة الهداية قد أنشئت في المحرق، كمدرسة نظامية في العام 1919.

فإذن كانت المحرق أماً رؤوفة رحيمة تستعصي على الوصف.
يحق لي أحياناً، أن أحتقن بالبكاء لأن المحرق هي أمي التي أفقدها.
الآن أستطيع استشعار فداحة ابتعادي عن المحرق نزولاً عند شرط السكن.
وأزعم بأن سيفاً أعرفه جيداً لم يعد في غمده الآمن.

في المحرق عرفت المكتبة العصرية الواقعة مقابل مدخل سوق القيصرية الشعبي الشهير. صاحب المكتبة هو الأستاذ (عبدالله الجودر) الذي اشتريت منه أول منجد للغة العربية ورحت أقرأه صفحة بعد أخرى مثل رواية مشوقة بطريقة أثارت استغراب مدرس اللغة العربية آنذاك. ومن نفس المكتبة تعرفت على سلسلة قصص "المكتبة الخضراء"، ومجلات (سندباد) و(سمير) والصحف العربية الأخرى فيما بعد. وفي المحرق عرفت أيضاً مكتبة المكتب الثقافي البريطاني، التي تقع في شارع السوق القديم.

أذكر خصوصاً مدرسة الهداية التي شهدت نزوعي المبكر للأدب والشعر في المرحلة الابتدائية، حيث أرشد خطواتي الأولى نحو الشعر الأستاذ (عبدالحميد المحادين) الذي كان قد جاء تواً من مدينة الكرك الأردنية متحمساً للأدب ويكتب الشعر آنذاك.

في مدرسة الهداية بالذات سمعت للمرة الأولى بالشاعر طرفة بن العبد، الذي سوف يلازمني طوال حياتي. في الباحة الداخلية للمدرسة كانت ثمة خشبة تتصدر الناحية الشمالية من الحوش، لم أكن أدرك طبيعتها، إلا بعد أن بدأت الاستعدادات للحفل الختامي في نهاية السنة الأولى لالتحاقي بالهداية. ومن بين فقرات الحفل كانت مجموعة من الطلبة يتدربون على تمثيلية قصيرة عرفت أنها عن شاعر قديم اسمه طرفة بن العبد حكم عليه عمر بن هند بالقتل وهو في لم يزل فتى لأنه قال لقبيلته: لا.

وبسبب من عضويتي في نشاط إحدى الجمعيات الثقافية، تيسر حضور التدريبات التي غالبا ما تجري في فترة ما بعد الظهر، وبعد أن أقنعت والدي بأهمية حضوري هذا النشاط (وكان وقتها يصر على مرافقتي له في دكانته لمساعدته في العمل) شعرت بمتعة لا تضاهى، وأنا أتعرف على ما يمكن تسميته حقاً بالنشاط المسرحي المدرسي غني الثقافة وجاد النوايا. كنت أساعد المشاركين في احتياجات الحفل، حيث كان الممثلون يتدربون، والفنانون يصنعون الديكور ويرسمون المشاهد واللوحات، لا أكاد اذكر الآن أسماء الذين شاركوا في التمثيل، إلا أنني اذكر جيدا أن طالبا يقوم بدور طرفة بن العبد يضع فخاً، شبيهاً بذلك الذي نستخدمه في صيد الطيور، في طرف الخشبة  لكي يبرر ترديده لأبيات طرفة بن العبد المشهورة:

"يا لك من قبّرة بمعمري،
خلا لك الجو فبيضي واصْفري،
ونقري ما شئت أن تنقري.. الخ".

المهم أنني عرفت من تلك التمثيلية أن ثمة شاعراً كان يعيش في البحرين (القديمة) وموجز قصته أنه خرج عن قبيلته، فنبذته، ووقع عليه ظلم كبير من أقرب الناس إليه، (فتحامته العشيرة) وبث شكواه الحزينة عن (ظلم ذوي القربى الأشد مضاضة). فيشدني الموضوع الذي مسّ لدي ميلاً غامضاً لتلك العوالم، فأسعى لمكتبة المدرسة لكي أقرأ أكثر عن طرفة بن العبد. والغريب في تلك التجربة أن تقديم تلك التمثيلية القصيرة، على سذاجتها، قد فتح أمامي سبلا مختلفة من الاهتمامات، من بينها مثلا أنني بدأت اقرأ الشعر الجاهلي من مصادر لا يطالها الدرس التقليدي، ومن بينها أيضا اكتشفت أن ثمة ما يسمونه المسرح يمكن أن يكون رديفاً غنياً للتعبير الشعري، قبل أن أعرف أن المسرح في أصله اليوناني هو نص شعري أيضا. وللأسف فإنني لا أتذكر نشاطا لاحقا للمسرح المدرسي في مدرسة الهداية بعد ذلك، ولعل تلك التمثيلية هي نهايات العهد الذهبي لمدرسة الهداية، وعنايتها بالنشاط المسرحي الذي اشتهرت به في السنوات الأولى التي أسست للمسرح في البحرين بجانب نشاط الأندية الأهلية المعروف. والغريب أن أحداً لم يشر إلى تلك التجربة في المناسبات التي جرى فيها الاحتفال التاريخي بمدرسة الهداية، الأمر الذي سوف يساهم في جعل الأمر بالنسبة لي كما لو أن تلك المرحلة بمثابة الحلم الغامض أكثر منه اتصالا بحدث واقعي.

وربما اتصل ذلك الحلم بالعلاقة الغامضة التي ستنشأ بيني وبين طرفة بن العبد من خلال تاريخ موغل في القدم يجري استعادته وتقمص دلالاته لاحقاً. حيث بدأت بالشعور مبكراً أن لحياتي الراهنة علاقة ما بحياة طرفة بن العبد لمجرد أنه عاش في نفس السديم التاريخي لهذه المنطقة (دون أن يعتبر هذا نزوعا لاستحواذ ساذج على رموز تاريخية من خلال الادعاء بملكية متوهمة لما يمكن تسميته: جغرافية التاريخ). عاش طرفة بن العبد في هذا الفضاء ومات باكراً، جئتُ باحتدامي الشعري وفتنة الخيال متصوراً أنني أكمل تلك الحياة: شعور يصدر عن الهجس الشعري والتشظي بين مفهوم رمزي للزمن، واختراق رؤيوي للمكان التاريخي المتحرر من شهوة الجغرافيا المعاصرة الخاضعة لغريزة التملك.

يوم انتقلت، بداية الستينات، من "المدرسة الشمالية" (مدرسة عمر بن الخطاب حالياً) إلى مدرسة الهداية، كان الحدث باهراً. الجميع كان يسمونها المدرسة الكبيرة (وباللهجة الشعبية: العودة). ولك أن تتخيل هذه التسمية عندما تقارنها بالتسمية الاجتماعية الحميمة لمنزل العائلة التقليدي الذي يسمونه عادة (البيت العود). ثمة نزوع يشبه التقديس لهذه المدرسة بحيث تضاهي في مكانتها الروحية بيت العائلة الكبير، ففي هذا تعبير عن التوقير والاحترام مما يفرض شعوراً بالهيبة والرهبة لا يمكن تفاديه. أيامها كان الذي يحظى بفرصة الدراسة في تلك المدرسة كمن يتأهل لدخول الجامعة هذه الأيام.

أذكر أن الفصل الأول الذي بدأت به حياتي في مدرسة الهداية هو بالضبط الفصل الواقع في الزاوية الجنوبية الشرقية من الدور الأرضي في المبنى القديم، حيث نوافذ الفصل الكبيرة تطل على الساحة الشرقية وشارع المطار جنوب المدرسة. ذلك ركن لا أنساه أبداً فبعد عطلة أحد الأعياد اهتم الأستاذ شناف فيصل، مدرس الرياضة البدنية آنذاك،أن يلتقط بآلة تصويره الخاصة صورة تذكارية لتلاميذ الفصل نفسه الذي سيبدو في خلفية الصورة، ولا أزال أحتفظ بهذه الصورة التي تضم عدداً من زملاء الدراسة والأصدقاء.

جلست على مقعدي في الفصل لصق الجدار. شعرت بكتفي تلامس حجراً جيرياً عتيقاً توشك رائحته القديمة أن تنفذ في مسام جسدي. وتبرع أستاذنا في اليوم الأول بتعريفنا بالمدرسة، أتذكر من كلامه تلك الإشارة المهمة:

بنيت هذه المدرسة عام 1919.

وضعت يدي على ذلك الحجر العتيق كأني أصغي إلى صوت عميق الهمس، فتحدر شيء من رمل أبيض قديم في أصابعي وحضني، كنت كمن يتأكد أنه يبدأ هذه اللحظة في الاتصال بالتاريخ. ثمة فرق بين مبنى المدرستين السابقتين اللتين درست فيهما (الجنوبية والشمالية) وبين هذا المبنى. إنني الآن في قلعة المعرفة. فيما بعد سأكتشف بوضوح أكثر التشابه بين القلاع وبين هذه المدرسة. أحجارها القديمة توحي حقا أن هناك علاقة بين تاريخ المدرسة وتاريخ العلم. هذه الأحجار القديمة تشكل بالنسبة لي دلالة على الصلابة ورغبة في تحدي الزمن.

ثمة من قال: أن الكتابة لا يغلبها الزمن ولا يقهرها الموت.
لا أذكره، لكنني أتيقن يوما بعد يوم أنه كان محقاً.
لم يكن لإحساسي بالقلعة سبب واضح لحظتها.

لكنني عرفت فيما بعد أن الأحجار التي شيدت بها مدرسة الهداية قد تم قطعها وجلبها من جزيرة جِـده، حيث السجن العتيد الذي عرفه معتقلون سياسيون لسنوات طويلة. ولكن قيل أيضاً أن حجر مدرسة الهداية ربما قد جلب من جبل في منطقة الصخير الصحراوية بالقرب من منطقة الرفاع. تماماً مثلما بنيت معظم قلاع البحرين القديمة. أذكر أننا قرأنا كتابة محفورة على صخرة في جزيرة (جِـده) يوم كانت سجناً، أن عدداً محدداً من أحجار الجزيرة نقلت لترميم "قلعة البحرين" في السنوات السالفة.

ها هي فكرة العمل تتجلى مجدداً في إنجاز بناء مدرسة الهداية. كل ذلك سوف يضاعف من الهيبة التاريخية لمدرسة الهداية.

وسوف تجد أن معظم مثقفي وأدباء البحرين (ومناطق أخرى من الخليج) يباهون أنهم درسوا في مدرسة الهداية. شخصياً أعد نفسي محظوظا أنا أيضاً لكوني من الأجيال التي أحسنت تقدير الدلالة التاريخية للعبور الجميل بمدرسة الهداية.

***

 
السيرة الذاتية
الأعمال الأدبية
عن الشاعر والتجربة
سيرة النص
مالم ينشر في كتاب
لقاءات
الشاعر بصوته
فعاليات
لغات آخرى