(إلى المسحراتي " بوغوى" ،
موقظ شمال وغرب المحرق)
1
لا أحد في جنوب وشرق المحرق لم يعرفه.
أسمر، فارع، جاء من الأبنوس مباشرة.
في رمضان الخمسينيات والستينيات كان وردة الليل. المسحّراتي
(الزكرت) "دالـوب". في السنين الأخيرة، ما إن يسمع إيقاع (المداندو) حتى
يضع صفيحته الفارغة مطعوجة الخاصرة، ويتناول أقربَ عصاتين، ويجلس في دائرة يبدأ في
توليفها رجالٌ ينداحون رقصاً، مثل موج أتعبه السفر فأقبل يتلاطم استجابةً لهوى
الروح. أجسادٌ تتبادل أنخاب الصرناي والطبل والمعدن، فتتهلل الوجوهُ بنشوةٍ تبدأ
في ما يشبه هدهدة المهد، وسرعان ما ينثال اللحنُ بها في سيلٍ عارم، فتختلط عليك
نظريات الهندسة بموهبة الفيزياء بشهوة الجسد. ولا تكاد تعرف أين
"دالـوب" في كل هذا الصخب الأليف. وربما أسعفك الخيالُ أحياناً لتدركَ
دلالة الريح من اسم "دالـوب".
ذلك في سائر أشهر السنة،
لكن ما إن يحلَّ شهرُ رمضان، حتى يستبدل صفيحته المطعوجة بطبلة السحر: الهزيع الأخير
من الليل.
2
كنتُ في آخر سنواتي العشر الأولى، عندما كان "دالـوب" يعرّج على بيتنا بين
وقت وآخر صديقاً لابن عمي، وكانت العائلة تعتبر وجوده مألوفاً. فــ(ازكرت) تلك
الأيام لا يرى في تخوم التقاليد حاجباً يحول دون أن يطرق الباب ويقول (هُوودْ)،
بصوتٍ مسموع، منتظراً برهةً تكفي لأن تأخذ النساء ساتراً، فإن شخصاً من الأصدقاء
أو المعارف على وشك دخول البيت في زيارة مألوفة.
وعيتُ
على "دالـوب" مزدهراً في أحياء المحرق، بوصفه حامل رسائل الليل للناس،
ففي ليالي تلك الأيام (وكانت دامسة أيضاً) لم نكن نجرؤ على الخروج بعد منتصف
الليل. وكنت كلما سألتُ أبي عن الرجل الذي يتجول في عتمة ليالي رمضان بطبلته
المجلجلة، كان يقول أنه الشخص الذي يزورنا بين وقت وآخر صديقاً لابن عمي. لقد كان
"دالـوب"، حسب تعبير أبي، (هاب ريح) مع الجميع، لا يتأخر عن واجب، فسوف
تجده في الأحزان قبل الأفراح، يمتلك حضوراً يميل إلى الرزانة من غير جفاف، والمرح
بدون تبذّل، لقد كان (ازكرتياً أَزْهَب من قوازي الغوص).
تراه
طوال أشهر السنة دون أن تعرف تماماً ما هو عمله ومتى يبدأ وأين. يقبل عليك مفترَّ
الثغر، (كاشخاً) في الأبيض الناصع، (إصراره على الأبيض سوف يَشِي بدلالةٍ لا تخلو
من غموض، فسمرته الواثقة سوف تؤرجح خيالنا بين لعبة النهار والليل التي يمعن
"دالوب" في التوغل بنا فيها، فلن تلقاه في غير الأبيض الناصع) لتشعر بأن
ثوبه قد خرج تواً من تحت مكواة (دخيّل). وأن (نَسْفَـة) الغترة خلقت خصوصاً لمثل
هذه (السَكبة). وإذا هو ابتسمَ تستطيع أن تثقَ بأن سيجارة الـ(لكي سترايك)، التي
تركتْ صفرتَها في أصابع يده، لم تنل من تألق العاج بين شفتين منفرجتين، توحيان
دوماً أنهما موشكتان على ضحكةٍ هادرة. يمكن أن تصادفه في أوقات مختلفة، غير
متوقعة، فهو شخصٌ لا يجعلك تشعر بفقدانه مهما غاب، لفرط حضوره الأليف.
3
ما إن يبدأ شهر رمضان، حتى لا يعود "دالـوب" يظهر لأحد أبداً، فلم يذكر أحد
أنه رآه في النهار خلال ذلك الشهر. فهو يمارس عمله بعد منتصف الليل فقط، ثم لا
يعود يظهر، وظهوره في منتصف الليل لا يعتبر ظهوراً، لأن الظلام الدامس يحجب
الكائنات، ولأن الكثيرين يؤكدون أن دالـوبَ "، كان يحرص أثناء جولته الليلية،
على المرور في الأزقة المعتمة، وإنه عندما يضطر للانتقال من منطقة إلى أخرى، يختار
الزوايا والمنعطفات البعيدة عن البرايح، ويعبر المسافة مارقاً كمن يهرب من النور،
كما لو أن الضوء كائن حي يتربصه ويطارد خطواته. إنك تسمع صوت طبلته فحسب، أما هو
فربما تقمّص الشبح أو امتزج بالظل. وكان الذي يساعده على التخفي والتماهي في
الظلام بشرته السمراء التي تجعله قطعةً من دامس الليل. وهو إلى ذلك يحرص على
ارتداء شورت قصير داكن، كما يقال إنه يدهن جسده الأسمر بالزيت، وهذا ما يفسّر
البريق الغامض الذي نلاحظه كلما لمحناه يعبر المنعطفات خلسةً في رشاقة النمر
الأسود. كل ذلك كان يحدث في الليل، أما في النهار، فإن أحداً لا يجزم بأنه رأى
"دالـوبَ " في نهارات رمضان. وقتها لم نتوقف طويلاً أمام هذه الظاهرة،
فلم يتمكن أحدٌ من معرفة سر الغياب النهاري والحضور الليلي.
حتى
أن الأيام الأخيرة من رمضان، عندما يحين وقتُ مرور المسحراتي بدابَّته البيضاء ذات
السيقان البرتقالية المحناة بزعفران البحر تجر عربتها الخشبية. يمر بطبلته ذاتها،
وثوبه الأبيض، مداعباً العائلات وهو يذكرها يوم كانت تغطُّ في نومٍ عميق حين
يوقظها بذات الطبلة لئلا تتأخر عن وجبة السحور المشحونة ببواقي الإفطار والغبقات،
ولئلا يسبقها الفجرُ فلا تستطيع أن تأكل شيئاً بعد ذلك.
يحدث
ذلك في الأيام الأخيرة من الشهر. يردد "دالـوب" أهازيجه الليلية موشاة
بما يحلو له من الأغاني المحببة لأهل الحي، وعلى ذلك ينال مكافأته الحميمة، مما
يسمونه عيدية المسحّراتي،
وهي هدية رمزية تكون عادة كناية عن كيلات قليلة من الأرز أو حب الهريس أو الحلاوة
أحياناً، وهناك من يكون أكثر عملية فيقدم هديته في صورة نقود قليلة لكنها ذات
أهمية آنذاك، خصوصاً لـ"دالـوب" الذي سيتحتم عليه أن يستعدَ لدورة كاملة
من حياة (الزكرته) طوال العام.
ساعتها
نستطيع أن نسمع "دالـوبَ" يقول (من عواده) وهو يستلم هداياه. وكنا نتمتع
برفقة موكبه في شبه هيلمان.
4
في
تلك الأيام يكون ظهور "دالـوب" في النهار شيئاً يضاهي العيد بالنسبة
للأهالي، وربما اعتبره الكثيرون بشارةً بانتهاء رمضان واقتراب العيد. لكن من
يستطيع الجزم آنذاك بمعرفة المكان الذي يذهب إليه "دالـوب" في النهار. ولماذا يكون الليل هو الوقت الوحيد لظهوره. لم يكن لمثل هذا الغموض أجوبة شافية يمكن الركون
إليها. لقد كنا نكتفي بالانتظار الفاتن، لكي نشاهد ذلك الفتى الأسمر وهو يخطر
كالغزال الشارد تحت جنح الظلام، دن أن يتركَ أثراً لخطواته الرشيقة.
وعندما
ينتهي شهر رمضان ويعرّج "دالـوب" على بيتنا، يقول لي أبي مقهقهاً:
"أنظر إليه، هذا هو العفريت الذي يوقظنا للسحور طوال الشهر الكريم، هل صدقتَ
أنه نفس الشخص؟"
وأصدّق
ذلك، وربما استغرقت بنشوة من يشعر بامتياز بين أقرانه الأطفال، لكون هذا (العفريت)
يزور بيتنا بشكل مألوف.
كان
"دالوب" دائم التجوال بين أحياء المحرق بدراجته التي لا تقل رشاقة عنه.
وحين
يزور ابنَ عمي، يسند الدراجة في مدخل البيت، ويشير لنا بإصبعه الطويلة المعروقة :
"لا أحد يقترب من السيكل". وما كنا بحاجة لتحذيره، فمع إعجابنا بشخصيته،
كان ثمة شعور غامض من الهيبة (لئلا أقول الرهبة) يجعلنا نمتثل له بفخر من يحمي
أسراراً خصَّّنا بها شخصٌ خارق، كما يحدث عادة لأطفال يرون شيئاً من الأسطورة في
رجل ينتقل بين الليل والنهار بحرية مَنْ يهندس الطقس والطبيعة بشجاعة الفارس.
5
لم
أنس "دالـوبَ "، برغم الوقت الذي يفصلني عن الطفولة. وقبل فترة كنت
أشاهد فرقة (الليوة) في تلفزيون البحرين، وإذا بي أشاهد الفتى الأسمر ذاته جالساً
في وسط دائرة الرقص القديمة، وهو يلقن صفيحته المطعوجة درساً واحداً لا يبدو أنها
تتعلمه أبداً.
انتبهتُ،
هذا
هو "دالـوب" ما غيره،
وتفجرتْ
صورُ الذاكرة مثل الألعاب النارية في ليل دامس.
إنه
"دالـوب" صاحب الليل ذو الطبلة.
لكنه
الآن لم يعد ذلك الفتى الوسيم المشدود مثل الرمح. لقد تقدمتْ به السن، وتسربت فضة
الزمن إلى شعره الأجعد الخفيف. وبدت لمحةٌ من حزن شفيف تغمر ملامحه التي ما زالت
تحتفظ ببريق ينطفئ. انه لم يزل هناك، في المكان الذي يهدر بالإيقاع الحميم. ذلك
الإيقاع الذي ما إن يندفق حتى تنداح الأجساد منتشيةً منسابةً في التذكر والنسيان.
الآن
أستطيع أن أفهم (أكثر من خمسينيات المحرق) لماذا لا يستطيع "دالـوب"
تمالك نفسه عندما يبدأ الإيقاع. الآن يمكنني فحسب تخيل سر الغياب الذي كان يقترحه
"دالـوب" طوال نهارات شهر رمضان، وهو الذي يملأ مدينة المحرق هديراً
بطبلته في أنصاف الليالي. أقول أتخيل وأخمّن أيضاً، فالأمر لا يحتمل الجزم. ترى هل
كان "دالـوب"، فيما يلعب بطبلته في الظلام، يحاول أن يضع جسده المشحون
بالرقص في نافورة الإيقاع، ويطلق للأرواح المكبوتة في جسده لتأخذ حريتها حتى
المنتهى، الأمر الذي يجعل جسده متعباًً حدّ الإرهاق، مما يستدعي منه قضاء النهار كله في نوم يشبه ثمل الغيبوبة؟ ترى هل كان "دالـوب" يفعل ذلك فحسب؟ إنه تخمين فقط.
والذين يعرفون "دالـوبَ" ويدركون جمرته المتوهجة لحظة الإيقاع، سوف
يفهمون هذا الاقتراح لتفسير غياب "دالـوب" عن وهدة المحرق في النهار،
ليوقظ الحريق في الليل.
6
قليلون
يعرفون اسمه الحقيقي:
(نصيب).
أشتهر
بــ"دالـوب" وبقي كذلك. ولذلك قصة.
الحكاية
التي جرى تداولها آنذاك (وأعادها لي أبي غير مرة) تشير إلى أن أصل الاسم يتصل
بحادثة طبيعية تعرضتْ لها البحرين (والخليج كله) منذ أكثر من سبعين عاماً، حيث هب
إعصار قويّ على المنطقة، وكان حدثاً مدمراً في حياة ناس ذلك الوقت، حيث غرقت السفن
وهاج البحر على السواحل، وتحطمت البيوت واقتلعت الأشجار.
وقد
سميت تلك الحادثة بالـ"دالـوب"، وعرف ذلك العام بسنة
الـ"دالـوب". وربما سماه العامة (دالوبَ) تحريفاً ظريفاً كما يبدو لكلمة
(دولاب)، وهو الشكل الذي يتخذه الإعصار عادة، كعمود مخروطي أصله في الأرض متصاعداً
إلى الأعالي، ويدور في شكل اسطواني غليظ.
في
اللغة، الدلبة : السواد. الدالب: الجمرة التي لا تطفأ. الدولاب والدواليب: كل آلة
تدور على محور.
وفي
باب إعصار، فالإعصار هو ريحٌ ترتفع بالتراب أو بمياه البحار وتستدير كأنها عمود.
وهذا يلتقي مع الدولاب الذي تتحول فيه الريحُ إلى آلةٍ تدور على محور.
وتقول
الحكاية التي حفظتها الذاكرة منذ الطفولة أن "دالـوباً" كان قد وُلدَ
ليلة ذلك الإعصار الشهير. وكعادة ناس تلك العهود، ارتبط ذلك الميلاد بتلك الحادثة،
فسمّته أمُه "دالوباً"، تيمناً بالحادث الجلل، فعرف به لينسي معظم الناس
اسمه الأصلي. ويحكي الأولون أن "دالـوباً" ركبَ الغوص في صباه وفتوته،
واكتسب خبرته الأولي كغيره في تجربة البحر، وهي تجربة لا تبتعد عن الموسيقى التي
عشقها الفتى الأسمر سمهري القوام منذ نعومة أظفاره.
(وإذا
كان في الظن خير)، فإن "دالـوباً" الذي عمل في مهن عديدة، مختلفة
ومتناقضة، لم يكن العمل البعيد عن الموسيقى يلقى هوىً في نفسه، فاسمه دليلٌ يأخذ
إلى الضلالة إذا لم تكن الموسيقى قنديلاً لخطواته.
|