( 1 )
قلت، ان حاجات
الحياة وانخراطي
المبكر مع والدي في دكانة الحدادة والسمكرة، تتطلب مني أن اذرع مدينة المحرق من
جنوبها حتى شمالها،
حاملا مصنوعات والدي من علب الصفيح، وأدوات المطبخ الشعبية في كيس كبير من الخيش
على كتفي، لكي أبيعه على محلات الحلوى الشعبية. إذا كان ذلك العمل قد أتاح لي أن
أعرف أسواق المحرق وأحياءها ودكاكينها وشخصياتها،
فهو أيضاً هيأ لي أن أعرف مجانين المدينة الذين أخذ
اللطف بألبابهم حتى صاروا على درجة من العقل، يفتقدها
الملائكة العقلاء.
فالمحرق
هي أيضاً جنة الجنون.
على
أن لا ينظر إلى هذا التعبير بوصفه قدحاً، فالجنة هي (في دلالة الشعر) الفضاء الذي
يمنح الشخص شيئين: الحب والحرية.
تخيلوا
إذن كيف كان المجانين في المحرق هم بهجة المدينة.
فانهم
لم يكونوا ملوك المحرق فقط، ولكن أيضاً يملكون ألبابنا ويأخذون بشغاف قلوبنا. فمن
منا لم يكن مولعاً بواحد أو أكثر من تلك الشخصيات ذات الصيت الغامض من شطح الفعل
وفرادة التفكير. أقول (التفكير) دون أي قلق من تناقض دلالات هذه الكلمة مع حال من
يوصف بالجنون. فالتناقض والمفارقات ليست هنا، لكنها هناك، في الحياة، حيث شخص الكائن مدعي العقل دون أن يعقل.
( 2 )
حتى
نهاية الستينات في المحرق، حين تذكر شخصاً، قارناً اسمه بوصف الجنون، فأنت لا
ترتكب خطأ أو خطيئة ولا إساءة. إنها جملة الخبر العادية. كأن تقول أن فلاناً ركب
الحافلة المتجهة إلى المنامة. لكن ليس من المتوقع بالطبع أن تلك الحافلة ستأخذه
إلى المنامة على وجه التحديد. فالمجنون لا يذهب إلى المدن التي نذهب إليها نحن
البشر العاديون.
من
هنا صار لشخصية المجنون في مدينتنا دلالة أليفة ومكتنزة بالمحبة، ومشوبة بالحكمة
الغامضة.
في
حياتنا الشعبية، الدرس لا يأتي من العقلاء فقط، ولكن ربما سوف يستنبط من المجانين.
( 3 )
في
المحرق تعلمت التعامل مع الناس بملامسة الروح البسيط والعميق فيهم.
عند
العرب، يقال عن الأعور (كريم العين)، وهو تعبير يشفّ عن درجة متقدمة
من اللطف المرهف والحس اليقظ، الذي يتفادى القول المباشر المحمل
بالوصف الجارح، وفي هذا ضرب من الأدب، بمعناه الأخلاقي
ثم الفني معاً. وأخذت الذائقة الشعبية عندنا
هذا التعبير ليصبح متداولاً في تعاطي الشأن الاجتماعي. وقد تميزت الذائقة الشعبية
عندنا بابتكار دلالات غاية في الظرف والطرافة، ينزع معظمها نحو تفادي المسّ بمشاعر
الآخرين.
يذكر
الكثيرون معي تعبيراً شعبياً ظريفاً كان يقال عندما يجري الكلام عن شخص مصاب بمرض
نفسي أو عصبي، مما يجعل تصرفاته وتقديره للأمور ليست
كما ينبغي. حيث يقال: أن هذا الشخص ( لك
عليه).
فعندما
تجد نفسك في موقف اللوم والمؤاخذة على شخص ترى أنه وقع في سوء
التصرف أو الخطأ تجاهك وأوشكت على التصدي له، ستجد من يأتيك لكي يحول
دون توغلك في مؤاخذة غريمك، لكونك تجهل طبيعة ذلك الغريم. فسوف يقال لك من باب
تهوين الأمر وتطيّّب الخاطر وتفادي سوء الفهم أو الخلاف،
يميل بك الطرف الثالث هامساً في إذنك:
(وسّع
الصدر يا الطيب، أنت على صواب، بس الأخ مثل ما أنت شايف، لك عليه).
عادة،
ما أن تسمع هذا التعبير حتى يتضح الأمر.
فكلمة
(لك عليه)
تعني، فيما تعني، أنه لابد أن يكون عقلك أرجح
منه، وبالتالي فأنت مدين له ببعض العقل. ويحق لك دين عليه، وهو
بطبيعة الحال دين مؤجل، لا يستدعي في مثل هذا
الموقف سوى التسامح
ورحابة القلب. والطريف أن بعض محاولات تفادي الإشكال قد لا تنجح وقد لا تمر بسلام.
فما إن يسمع
الآخر، أي الطرف المعني، كلمة (لك
عليه) حتى يعتبر ذلك إهانة غير مقبولة:
(ماذا تعني؟
أنا مجنون؟!).
وعندها
نستطيع أن نلامس البعد الدلالي لذلك التعبير، فهو في حقيقة الأمر، قول يدل على أن
ثمة شخصاً لا ينبغي أن نؤاخذه لعدم جواز اللوم
عليه، لاتصاله بمن لا يطالهم الحرج. وبقي أن يكون الحضور قادرين على معالجة الأمر
دون الوقوع في محذور شعور أي طرف بالإهانة، ومن المتوقع أن لا يكون الأمر سهلاً،
خصوصاً إذا صادف أن
الشخص الذي (لا
يجوز مؤاخذته لعلة في قدرته العقلية)
يبالغ في المكابرة.
( 4 )
في
سوق المحرق، تعلمت، في مثل هذه المواقف، كيف يمكن أن يشعر الشخص بما يختلج في داخل
الآخر دون الحاجة إلى الكلام. ففي زحمة السوق وحركة العمل لن يكون الوقت كافياً
للشرح والتفسير. فالمشاعر بين كائنات المحرق في لحظات الانهماك تكون من الرهافة
بحيث يمكنك معايشة مشهد قل مثيله هذه الأيام.
فما
أن ينشأ احتكاك بين اثنين ويتفجر الانفعال وتعلو الأصوات، حتى ترى البشر يهبون
تاركين دكاكينهم ومجالسهم، مسارعين، ليبادر كل منهم يحتضن أحد المشتبكين ويبدأ في
تهدئته وتطييب خاطره بل وتقبيل رأسه، حتى قبل أن يتبينوا سبب الخلاف أو سماع
القصة. الاهتمام يذهب مباشرة وبلا تردد إلى تهدئة الخلاف والابتعاد بالطرفين إلى مكان
هادئ، يحضرون له الماء و(استكانة) فنجان الشاي. بحيث يخرجونه من حالة الغيظ. وما
إن تمضي دقائق قليلة حتى يحضر أحد الطرفين (ربما ليسبق الآخر) ويبدأ في التصالح
والمعانقة.
ويستعيد
الطرفان حياتهما الطبيعية.
بمثل
هذا الجو من العلاقات سوف تجد أمامك في أسواق المحرق كائنات تنضح بحب العمل والحرص
على تحصين هذا العمل بشتى أشكال المحبة والمشاعر الطيبة.
كلامي
هذا ليس حكماً ناجزاً يجعل المحرق مجتمعاً مثالياً، على الإطلاق.
لكنني
أشير خصوصاً إلى سياق ملحوظ كنت عاصرته في أسواق المحرق، ولا يصعب ملاحظة حضوره
عندما تذكر أسواق البحرين الأخرى.
هناك،
كل المجانين بشخصياتهم الأليفة سوف يتم الترحيب بهم على المقاعد الخشبية المستطيلة
لمقاهي السوق، (مقهى عبدالقادر) التاريخية، ومقهى بوطبنيه فيما بعد، (شمالي سوق
اللحم القديم). أتذكر جيداً كيف أن " ازكرتية" المحرق وبحارتها المتقاعدين
وعمالها وموظفيها وكتيبة لا بأس بها من مجانينها كانوا يشكلون مجتمعاً بالغ التنوع
والتلاحم في نفس الوقت، وإذا تعرض أحدهم لضيم أو حيف هبوا لمد العون له.
هناك،
لم يكن جلوس مجانين المحرق على تلك المقاهي وتبادل (استكانات) الشاي والأحاديث مع
الآخرين حضوراً مستهجناً؛ على العكس فمعظم رواد المقاهي هم من أصدقاء هؤلاء
المجانين في الحي أو العمل أو المدرسة. لقد كانوا كائناتٍ أليفةً بيننا. ولا نكاد
نعرف بالضبط أينا المجنون لكي نصغي إلى حكمته.
( 5 )
هناك،
ما إن تجد نفسك في موقف اشتباك حميم بين اثنين، عليك
أن تكون ألمعياً بدرجة تسعفك على التبكير في إدراك الموقف وتدارك الأمر، دون
الإلحاح على التفاصيل. أما إذا كان أحد الأطراف (لك
عليه)، فعند توقفك للاستفسار عن الأمر سيختصر عليك أحدهم الشرح ويقول
لك:
- هذا الشخص روبيته ليست ( 16
آنه)
.
عندها
لابد لك أن تعرف بأن الشخص المقصود يعاني من بعض المشاكل العقلية أو الذهنية. لئلا
يضطر الحضور، لحظتها، للجهر بجنون الشخص أكثر مما ينبغي. والذين يذكرون زمن
الروبية الهندية يعرفون أن هذا المصطلح أصبح واحداً من أشهر العلامات اللغوية
الدالة في تراث حياتنا الشعبية اليومية. ولا بد لنا أن نستحضر القيمة النقدية
للروبية الهندية، بوحداتها التكوينية الصغيرة، لنعرف أنها كانت عبارة عن
(الروبية = 16
آنه = الآنه 10 بيسات). وحسب التقدير
الشعبي للأشياء ستكون الروبية مقياساً قابلاً لكثير من المقاربات الحياتية التي
تستدعي استخدام الكنايات والدلالات الإشارية، تفادياً للمواقف المحرجة التي يمكن
أن تترتب على تسمية الأشياء بنصها الواضح، مادام الأمر يحتمل الابتعاد عن ذلك.
وأذكر
أنني حضرت موقفاً سمعت فيه أحدهم يؤكد على أن روبية فلان (مثقوبة)،
لئلا يجهر بعدم أهليته للثقة، وإنه شخص لا يعول عليه، وإن كل هذا معروف وواضح
ومؤكد مثل الروبية الصحيحة،
والذي يضع ثقته في شخص مثل هذا سيكون كمن يقبل روبية مثقوبة.
تذكرت
حكاية الروبية، التي غالباً ما أصبحت
أقل من ( 16
آنه) منذ ذلك الوقت، وما
زلت أصادف، في الهزيع الأخير من العمر، مواقف تمتحن مقدار العقل
الذي نتمتع به، قياساً لروبية ذلك الوقت. سنصادف أكثرنا يزعم الحكمة والعقل
والفلسفة أحياناً. وكلما سألت شخصاً عن عدد الآنات في روبيته، أكد أنها مئة فلس،
دون أن يدرك أن المقياس هو الروبية القديمة، لأن الـ( 16 آنه)
أكثر بركة من المئة فلس، التي ما أن
تصفّ سيارتك وتضع مئة فلسك في عدّاد
موقف السيارات، حتى يلتفت لك رجل المرور معلناً أن الوقت
قد انتهى منذ نصف ساعة (؟!).
يبدو
أن الروبية الهندية كانت مقياساً دقيقاً لعقلنا طوال اليوم. وأقصد باليوم:
(الآن)، حيث سيكون علينا مراجعة أنفسنا ثلاث أو أربع مرات في اليوم، للتيقن من عدد
الآنات في روبيتنا.
وإزاء
الحكماء بيننا خصوصاً ينبغي أن نكون أكثر
حذراً.
فإنني
أعرف (الآن) حكيماً
محرقياً مشهوراً، بالغ الادعاء، لا تستطيع أن تقدّر روبيته
بأكثر من تسع آنات بقياس كل الأزمان. الأمر الذي يجعلك
تبجّل مجانين المحرق راكعاً لهم حتى تلامس رأسك الأرض لفرط عقلهم الراجح، لأنهم
كانوا يمنحوننا دروس الحياة في أزقة المحرق بدون أي ادعاء.
فمن
بين أولئك أشخاص تقدر أن تزن الذهب بعقلهم والحب بقلبهم.
( 6 )
في
لسان العرب:
جنَّ
الشيء يجنّه جنّاً: سَتَرَه. وكل شيء سُتِرَ عنكَ فقد جُنّ عنك. وسُميَ الجنينُ
لاستتاره في بطن أمه. وجنَّ الليل : شدة ظلمته وادلهامه. والجنين، بالفتح، هو
القبر لستره الميت. والجنين أيضاً، الكفن لذلك. والجنان، بالفتح: القلب، لاستتاره
في الصدر. وربما سُميَ الروحُ جناناً لأن الجسم يجنّه. والجنين: الولد ما دام في
بطن أمه لاستتاره فيه. وقيل: كل مستور جنين. الجنان: الأمر الخفي. وأجننُ الشيء في
صدري أي أكننته. والجنة: الدرع، وكل ما وقاكَ جنّة. الجان: ضرب من الحيات أكحل
العينين يضرب إلى الصفرة. لا يؤذي. وهو كثير في بيوت الناس. وفي الحديث: إنه نهى
عن قتل الجنان، وهي الحيات التي تكون في البيوت. وفي حديث الحسن: لو أصاب ابن آدم
في كل شيء جُنَّ، أي أُعجب بنفسه حتى يصير كالمجنون من شدة إعجابه. أرض مجنونة:
معشبة لم يرعها أحد. يقال للنخل المرتفع طولاً مجنونٌ.
**** |