( 1 )
بعد الأحداث الشعبية التي شهدتها البحرين في الخمسينات
والستينات، كان للمحرق دور متميز
في التعبير عن مشاعرها الوطنية والقومية، ولم يكن في ذلك أية مبالغة. فقد شهدتُ
أحداث الخمسينات، وشاركتُ
في أحداث الستينات، وكنتُ
جزءاً من رعيل كثيف التجارب التي شكلتْ (في أكثر من جيل) مشهداً، لا يزال حتى هذه
اللحظة، تراثاً لا يستعاد ولا يضاهى ولا يقبل الفقد، خصوصاً بالنسبة لمن يرى
الغموض العنيف الذي يذهب إليه المشهد الراهن.
في المحرق.
كان فقراء ورشة الأمل
يحسنون قراءة كتاب البحر ودفاتر العذاب.
لقد كان الجميع يعمل في ذلك المرجل
المنصوب في مواجهة الماء الأزرق العظيم دون أن يقوى أحد
على إطفائه. ولهذا السبب،
خصوصاً، يعود جانب من شعوري المبكر بالمدينة
بوصفها ورشة من الفعل المستمر. فهي ليست
مدينة متفجرة بشهوة النضال
فحسب، ولكنها، قبل ذلك
وبعده، مختبر دائم للمواهب الأدبية والثقافية والعلمية
التي كانت طليعة
متقدمة لفعل النضال
بشتى تجلياته وتحولاته منذ بداية القرن
العشرين.
عدد كبير من كتاب وأدباء ومبدعي ومثقفي ومناضلي
ومصلحي وليبراليي البحرين كانوا من المحرق، أو أنهم اكتووا
بلهيبها بشكل أو بآخر، لكون التجمعات
والأندية الأدبية والاجتماعية كان لها مصدر، أو مصب مهم، في
المحرق. وهذا ما سوف يجعل من هذه المدينة خميرة للأمل
والعلم والعمل إسهاماً في مستقبل
البحرين.
هذا التنور البشري يتصل أيضا
بالمهنة الأشهر في حياة المحرق (مثل باقي أهل الخليج) وهو البحر، حيث الرحلات
الطويلة في مصائد اللؤلؤ. ذلك
العمل الذي يختصر تجربة كثيفة من عذاب لقمة العيش التي خاضها الإنسان في هذه
المنطقة من العالم. لقد وعيت على معيلي الأسرة وهم
يغيبون عنا
فترات طويلة في رحلة الغوص التي تستغرق عدة أشهر. لقد
رايتُ
والدي وعمي وهما يسافران معا على سفينة واحدة، فيستغل ربان السفينة ذلك لكي يضع
أحدهما مسئولاً عن الحبل الذي يغوص به شقيقه،
وهذا تقليد من تقاليد الغوص، لكي يظل الأخ مسئولاً عن أخيه في حالة تعرضه
للغرق أو أخطار البحر الأخرى. لقد كان عمي هو الذي ينزل
الأعماق (غِـيص)، وأبي يمسك له الحبل
(سِـيب).
لكن ليس هذا هو العمل الوحيد لأهل المحرق.
ففيما كانت مهنة الغوص تتقلص حتى قبل اكتشاف النفط، كانت ثمة
مهن تتكشف عنها حياة هذه المدينة. فعندما
أقول إنها كانت تنوراً من
العمل، لم أكن صادراً من السديم التاريخي الذي اقترح علينا الاتصال بذلك التنور
الذي كان ملك الحيرة يحرق خصومه فيه، ولكنني أتصل خصوصاً
بالورش المتنوعة التي كانت تقوم عليها بنية مدينة المحرق، وتكوينها السوسيولوجي
والاقتصادي منذ أكثر من قرنين على الأقل. ولو أن دارساً
في الفكر الاجتماعي تأمل ملياً طبيعة
التكوين البشري لمدينة المحرق،
لكان عليه أن يقرأ لنا الدلالة التاريخية والنفسية لكون هذه المدينة لا تزال
أحياؤها تسمى بأسماء عدد مختلف من المهن. وهذا ما استوقفني مبكراً، لكي يتأكد لي
إلى أي حدٍّ كانت هذه المدينة تشكل نشاطاً
بشرياً متنوعاً
منتجاً ومساهماً في التنمية.
فأحياء المحرق
المعروفة، كما قلت في مكان سابق، بأسماء مهن الناس،
أزعم أنني عرفتها منذ
الطفولة، عشت في معظمها، وعايشت
أشهر أصحاب هذه المهن فيها. بل إنني عملت مع بعضهم في الحدادة والبناء والقلافة،
في مرحلتي الطفولة والصبا.
يتميز أهالي
كل واحد من هذه الأحياء بطبيعة خاصة بهم من حيث الطباع والمزاج
النفسي الاجتماعي. ولكل منهم تميزه الخاص
في حقله.
فشهرة صاغة
المحرق، مثلاً، بصياغة
الذهب والفضة، وخصوصا صناعة السيوف وتزيينها، جعل شيوخ العائلة
الحاكمة يقصدون ورشة (أحمد
الصايغ) الملحقة بمجلس داره بحي الصاغة، أو
يطلبونه للحضور إلى مجالسهم، لكي يوفر
لهم ما يحتاجونه من السيوف والخناجر التي كان اقتناؤها مظهراً من مظاهر
هيبة الحكم وزينة الملبس.
ولكي لا اذكر، نموذجاً، غير من عرفتهم عن قرب، فلا أزال أذكر
سوق القيصرية كأنه الآن. دكان (بوخماس) الصغيرة
الشهيرة تتصدر
قاع السوق من
جهة الجنوب، وفي المدخل الشمالي لسوق
القيصرية دكان (عابد الحواج)
يقابله بالضبط (عبدعلي
الحواج) في المدخل
الشمالي للسوق. وفي الجانب الغربي من خارج القيصرية
دكان (حسين شويطر) صاحب أشهر محل لصناعة الحلوى البحرينية آنذاك، حيث كنت أزوده
بعلب الصفيح التي كان والدي يشتهر بصناعتها،
قبل العلب البلاستيكية الحالية.
كل هؤلاء، وغيرهم
كثيرون في سوق القيصرية وما جاورها، كانوا
أصدقاء لوالدي.
( 2 )
ولم يكن العمل في مرحلة الطفولة فقط هو ما
أتاح لي التعرف على المدينة، فقد استمر
العمل أيضا في مرحلة الصبا والشباب أيضا. ففي العطل الصيفية خلال المرحلة
الابتدائية والثانوية، كانت الظروف تستدعي أن أعمل في مهن كثيرة من أجل مساعدة
الوالد في عبء الحياة.
لقد اشتغلت
عاملا مع النجارين، وصبياً في أحد دكاكين سوق القيصرية،
ومنادياً على
باصات النقل الخشبية
(محرق/ منامة)، وعملت
ملاحظاً لماكينة
الحفر (عطشجي)، وصباغاً وعاملاً
في الحفريات. لكن المهنة الأشهر والأكثر استغراقاً
زمنياً، وخبرة أيضا، هي (الفاعل)
عامل البناء (ما يسمونه بعامية ذلك الوقت- الكولي، وهي كلمة هندية).
وهي مهنة طافت بي
مدينة المحرق (ومدينة الحد) من شمالها حتى جنوبها، حيث
عملت في عدد كبير من البيوت، لا
أزال إذا مررت بها أتذكر تفاصيل الأيام التي عملت
فيها.
عملي في البناء
ساهم في تعرفي العميق والمبكر على مدينة
المحرق، التي كانت حتى الستينات لا تزال تحافظ
على طبيعتها العمرانية التقليدية. وكنت أثناء تلك السنوات أعيش في المحرق كما لو
أنني أعيش في داري الخاصة.
كانت بساطة البشر في المحرق طاغية إلى الدرجة التي تتيح لكل شخص أن يشعر بالحميمية
والحب بلا تكلف ولا مجاملات، فلم تكن
الصداقة الانسانية تحتاج لأسباب.
ولعلي لن أنسى موقفا فائق الدلالة على تلك الروح الشعبية
الموغلة في الناس، ففي أثناء أحداث العام
1965، خلال
الانتفاضة الوطنية، والمطاردات الليلية، كان معظم الشباب لا ينام في داره بسبب مداهمات
المخابرات. وقد صادف أنني
كنت أبحث مع بعض الرفاق ترتيب مكان للمبيت،
لنكتشف أن عدداً من الأهالي يعرضون (بطرق اتصال مختلفة) استضافة المناضلين في
دورهم. وكان ذلك يحدث بعفوية خالصة، ويحدث
أحياناً أن يدخل كل منا
أقرب بيت يصادفه في حالة المطاردات التي كانت تحدث بدون سابق ترتيب.
ذات ليلة طرقت باباً (لا أزال أذكر
موقعه) طالباً الدخول، وبعد أن دخلت، وفيما كانت العائلة
تهيئ لي مكاناً للنوم، اكتشفناً
معاً بأنني كنت في هذا البيت في وقت مضى. فهذا بيت
اشتغلت فيه كعامل بناء قبل
سنوات، وتعرفت على العائلة التي فوجئت بضيفها تلك الليلة.
أذكر ليلتها، أن أحداً من العائلة لم ينم، فقد استمرت السهرة النادرة في الحديث
الحميم حتى الفجر.
لا أستطيع الفصل بين المدينة وتاريخها السياسي، ثم
بينها وبين تاريخي الشخصي في هذا الحقل. إن فكرة (العمل)
كأسطورة وواقع، هو ما يرتبط عندي بمدينة المحرق. لقد تعلمتُ جدية
العمل من اثنين: والدي ومدينة المحرق.
حالة التنور التي أشرت إليها في البداية والتي
رافقتني طوال حياتي بأشكال مختلفة، هي مجازية
حينا (مرارة الفقر، تجربة النضال والاعتقال، لذَّة الكتابة) وواقعية
حيناً، حيث كان التنور حاضرا أثناء العمل مع والدي في
ورشة الحدادة، وفي بعض المهن الأخرى التي تناوبت على جسد
الصبي الغض الذي كنته.
لقد كنت مع مدينة المحرق في تنور واحد، في فعل مستمر متواصل،
نتبادل الأدوار حينا، ونكتشف علاقتنا المشتركة بالمكان والزمان حينا آخر.
أشعر بالحنين الجريح لتلك الأمكنة. في
السنوات الأخيرة، كثيرا ما أترك كل شيء،
وأذهب إلى المحرق (كأنها بعيدة
الآن)، لكي أتمشى
في الأسواق والطرقات، مستعيداً
جذوة الشغل التي أشعلتني منذ الطفولة في تلك الأزقة والأحياء والأسواق، أستعيد
السديم الغامض الذي يربط بين أحلامي الأولى، وبين خطوات والدي السريعة وهو يذرع
المسافة الأسطورية بين بيتنا ودكانته في سوق المحرق القديم، وأنا
ألهث خلفه بخطوات صغيرة محاولا اللحاق به،
أستعيد تلك الرائحة المشبوبة
التي تفوح في سوق القيصرية في مزيج لا نهائي من الأخلاط الزيتية والنباتية،
والعطور المكبوتة كأنها تشي بعشاق يتماهون مع ظلال الطرقات المتربة الحارة.
أستعيد المعنى الخفي الذي كان يذهب إليه الطفل (المأخوذ بفكرة الكتابة)، أبحث عن
الفتى المذهول أمام أول منجد للغة العربية يشتريه.
لا أزال أحمل للمحرق تلك الرغبة الحميمة في الهجاء، لفرط شعوري
بأن المديح لم يعد يليق بالمدن التي نبتعد عنها دون أن نقوى على نسيانها.
إن أحداً من أبناء المحرق لا يستطيع أن يتحدث عنها بصيغة
المضارع، حتى أولئك الذين لم يغادروها بعد.لقد تعرضت المحرق،
مثل غيرها من مناطق البحرين، للعقاب، ربما
لأنها بالغت تاريخياً في
إعلان خروجياتها، وتمردها على إدارة
السلطة (في البحرين كانوا يسمون مركز الشرطة:
الإدارة)، فلم تغفر لها سلطة
الإدارة العليا ذلك، فعوقبت بالإهمال عن التعمير والتنمية
لحقب طويلة (نموذجاً لعقاب أكثر شمولاً، طال الأرض بمن عليها)،
بصورة تكاد تكون ضرباً من تبادل الضغائن بين الجغرافيا والتاريخ. ورغم ذلك فإنها
لم تتوقف عن الحلم والعمل.
العمل، الذي
كان هو وردة المحرق المتألقة طوال تاريخها المعروف.
وإذا هي بالغتْ
أحيانا في (العمل) وتفجرت فيها تجربة المعاناة في شكل من أشكال البوح الأدبي حيناً،
والاحتجاج السياسي حينا آخر، فذلك لأنها كانت
البنت المدللة للبحر الذي يحيط بها مثل خاتم عرس مؤجل.
مزاجها العاصف الأليف يضاعف من اتصالها بالتاريخ الشخصي لكل فرد
من أبنائها. وحديثي عنها يمكن أن يتكرر (بتفاوت في الدرجة والنوع) عند غير شخص، من
المؤكد أنه سوف يصدر من الشعور نفسه الذي ينتاب العاشق، وهو يقف على الساحل، فيما
يرقب زورق الحبيبة
ينساب مغادراً مبتعداً
في البحر.
كأننا نرى إلى مدينة كانت لنا،
منحتها لنا أسطورة البحر، ويبدو أن البحر راح يأخذ
المدينة من كل واحد منا
بأشكال مختلفة يوماً بعد
يوم، من غير أن نقوى على الحيلولة دون
ذلك.
المحرق التي كنا
نعرفها موجودة هي الآن في
احتمالين:
ذاكرة
التاريخ، أو مخيلة المستقبل.
*** |