( 1 )
يعود اسم المحرق (كما أحب
أن أذهب) إلى أحد ملوك الحيرة الذين بسطوا حكمهم على هذه المنطقة قبل الإسلام،
ويدعى (المحرّق)
على وزن المفعل، بتشديد وكسر العين، لاشتهاره
بالتخلص من خصومه السياسيين بإحراقهم.
لا يجبر هذا التفسير أحداً، لكن ليس من اقتراح (تاريخي) أعرفه يروق لي، شعريا، غير هذا التفسير.
ربما كان في هذا نزوع متماه للاتصال بالشاعر طرفة بن العبد من عبر هذا السديم التاريخي الذي اخترقه طرفة، مثل كلمة الشعر الباهرة، عائشاً منذ ملوك الحيرة حتى حيرة الملوك، حيث ما يزال.
فمنذ أن وعيتُ في هذه المدينة شعرتُ بأنها قائمة على ما يشبه التنور الجحيمي المتواصل الالتهاب والتحول.
شعرت بالمحرق كناية عن العمل الدائب لإنجاز الشيء الغامض الذي لا يدرك أهلها كنهه طوال التاريخ.
لقد بنى أهل المحرق المزيد من السفن، وفي معظم هذه السفن أبحروا في ماء هائل غير قابل للتفسير.
مجانين المحرق وشعراؤها وحدهم حاولوا تفسير البحر،
فقالوا إنه: حرب حيناً وحبر أحياناً ورحب دائما.
***
اشتهرت المحرق في عصرها الحديث بأنها
العاصمة التاريخية الأولى للبحرين في
الحكم الحديث. والمحرق
جزيرة لم تتصل بالبر الثاني من البلاد إلا في مطلع الأربعينات
بعد إقامة جسر الشيخ حمد سنة (1942). قبل
ذلك الوقت كان الانتقال بينها وبين المنامة (العاصمة)،
والأرخبيل الكثيف من الجزر الصغيرة، يتم بواسطة السفن
والقوارب.
غلبت على حياة الناس الطبيعة
البحرية بصورة جعلت المزاج الإنساني للأهالي يتصف بالصرامة والبساطة،
السلاسة وحب العمل، روح الجماعة وشهوة التمرد.
ومن هنا سوف تكتسب المحرق تسمية طريفة في خمسينات هذا القرن.
فبعد أحداث حرب السويس والمقاومة الشهيرة لمدينة بورسعيد
للجيش البريطاني، لم يجد الإنسان البسيط مديحاً
لائقاً لمدينته أجمل من اسم المدينة المصرية المقاومة: (بور سعيد). المحرق
هي أيضاً، مع البحرين، (ميناء) العالم. بور = ميناء.
كيف يمكننا تفسير هذا الزفير والشهيق المتبادل بين (المحرق) ملك
الحيرة في ما قبل الإسلام، ومحرق النضال المتحول في راهن الوقت، وصولاً إلى حيرة
الملك الصالح؟
( 2 )
ثمة النقائض على آخرها في احتدام مثل هذا التاريخ الذي لا يريد
أن يذهب.
لقد تباهى (لئلا أقول تعصّب) جيلنا بمدينته وقارنها بمدينة
بورسعيد لكونهما اشتركتا في مقاومة استعمار واحد هو الاستعمار البريطاني، وتولعا
بقائد واحد هو جمال عبدالناصر، وخالجهما نفس الحلم: الحرية.
وهو حلم لا يزال.
أحياناً ينتابك شعور أن أهالي المحرق يتصرفون، لفرط حماسهم
لجمال عبدالناصر، كما لو أنهم جزء من مدينة بورسعيد المصرية فعلاً، إخلاصا لهذا
الاسم الذي طاب لهم المباهاة به. فعندما زار رئيس الوزراء البريطاني سلوين لويد في
شهر مارس عام 1956 البحرين استقبلته مدينة المحرق بأسلوب لم
تنسه بريطانيا ولم تغفره السلطة المحلية.
فبعد أن هبطت طائرته في مطار المحرق كان في استقباله رجال
الدولة آنذاك، وكان لابد الموكب الرسمي أن يعبر جسر المحرق من خلال الشارع الوحيد
الذي يمر بسوق المحرق. وعندما وصلت سيارة الضيف البريطاني في المنعطف الذي يتقاطع
فيه شارع الشيخ حمد بالضبط أمام قهوة عبدالقادر، المقهى الأشهر في سوق المحرق، حيث
مصطبة شرطي المرور بمظلتها الخشبية المألوفة تأخذ مكانها في وسط نقطة تلاقي الشارعين
المؤدية إلى جسر المحرق. كان أهالي المحرق قد حشدوا جمعاً غاضباً للتعبير، أمام
المسئول البريطاني، عن رفض الاستعمار في بلادهم، والاحتجاج على سياسة بريطانيا
تجاه ثورة عبدالناصر. كان أهالي المحرق قد تسلحوا بكل ما طالته أيديهم من الأحجار
والأخشاب لقذف سيارة سلوين لويد.
كنتُ في سن الثامنة في ذلك اليوم عندما أخذني (عيسى) ابن عمتي
للمشاركة في الحشد، لكي يكون ذلك أول درس لي أتعلمه في الاحتجاج السياسي.
ويمكنني هنا أن أذكر أطرف أشكال التعبير عن الاحتجاج التي شارك
فيها عدد كبير من العمال الذين استعدوا لهذا الاستقبال بأغرب طريقة يمكن أن تدور
على البال. فقد اتفقوا على ارتداء الأحذية الجلدية المصفحة مقدماتها بالحديد التي
كانت شركة النفط، آنذاك، توزعها على عمالها لتوفير السلامة أثناء العمل، خطرت هذه
الفكرة على بال العمال بعد أن علموا أن لاعبي كرة القدم في المحرق سوف يرتدون
أحذيتهم المشهورة وقتها (الأحذية الخاصة بلاعبي الكرة، ذات المقدمة الصلبة). كل
ذلك من أجل الاشتراك معاً في رفس سيارات موكب رئيس الوزراء البريطاني بالأقدام
المصفحة.
أتذكر هذه الحادثة، بالذات، ليس بسبب طرافتها فقط، ولكن خصوصاً
لكوني في الثامنة من العمر، وكنت أرى الصورة بوضوح أكثر على مستوى نظر طفل يقف بين
تلك الحشود ممسكاً بطرف ثوب مرافقه، ولا يرى سوى جوانب السيارات العابرة والأقدام
المصفحة بالأحذية الحديدية وهي تحدث أضرارا واضحة في أجسام السيارات الفارهة، إنها
صورة لا تزال ماثلة في ذاكرتي البصرية.
وعندما احتدم الحشد وراحت الجموع تتدافع، خشي عليّ ابن عمتي
فرفعني عن الأرض وأوقفني على احد المقاعد المستطيلة المرصوفة بموازاة الشارع أمام
مقهى عبدالقادر، مما أتاح لي رؤية أكثر وضوحاً لكل تلك الجموع التي كانت بالنسبة
لطفل مثلي بمثابة التجربة الهائلة.
كان موكب السيارات يتقدم ببطء وصعوبة، ورجال الشرطة عاجزون عن
صد اندفاع الجموع المنفعلة أو حماية الضيف البريطاني ومرافقيه. انه موكب يريد
اجتياز منطقة غير صديقة على الإطلاق، في لحظة الذروة من أحداث 56 التي عصفت بالبحرين ووضعتها في سياقها من النضال الوطني والقومي.
ومجرد اضطرار الموكب المرور بمدينة المحرق يسبب للسلطة مأزقاً غير مأمون العواقب.
كأن جمهور المحرق يريد التأكيد للمسئول البريطاني أن الصعوبة التي يواجهها في عبور
الشارع الرئيسي في هذه المدينة الصغيرة، هي تجربة يجب أن تذكره بصعوبة عبور مدينة
بورسعيد المصرية.
ربما لم يكن ينقص أهالي المحرق آنذاك نشاط المخيلة ولا حس
الدعابة السياسية، دعابة مشحونة بسخرية المواطن البسيط من الدولة الكبيرة التي
كانت تستعمر بلاده. لكن من المحتمل أيضاً أن ثمة من كان يصدر عن فانتازيا الذاهب
إلى سرادق العزاء مرتدياً ملابس العرس.
لقد كانت المحرق تلهو مع الخصوم السياسيين بقدر من روح الدعابة
السوداء التي لا تنسى. وفي ظني أن ذلك كان يجعل من النضال الوطني، في خمسينات
وستينات القرن الماضي، تاريخاً زاخراً بالمتعة المشوبة بروح التضحية دون الاكتراث
بالمصالح الذاتية وحرة من الأنانية.
وقتها لم يكن الناس هناك يملكون ما يخسرونه.
حتى أن بعضهم كان يذهب إلى السجن كمن يذهب إلى بيت الدولة.
***
|