بعد تلك الفترة
بسنوات، سوف نصادف أبواب المحرق مشرعة لنا مرة أخرى، أثناء صداماتنا
مع شرطة (مكافحة) الشغب، في
انتفاضة عام 65
من القرن الماضي، وفرارنا، متوزعين، في الطرق
الداخلية للمدينة عندما كانت الشرطة
تطارد المتظاهرين لتفريقهم بالقنابل المسيلة للدموع،
كان الأهالي، في أحياء المحرق يقفون في انتظارنا
على أبواب بيوتهم المفتوحة حاملين
قطع القماش المبللة بالماء ثم بحبات البصل التي كنا
نقاوم بها الدخان الخانق.
أجمل من ذلك أن أبواباً (طوال النهار والليل) كانت مفتوحة لنا
أيضاً أثناء العمل النضالي عندما كان بعضنا يتفادى المبيت في داره أثناء الأحداث
بسبب ملاحقات رجال المخابرات. كنا نجد المجال مفتوحاً
برحابة القلب لدى بيوت كثيرة لكي نقضي كل ليلة في بيت مختلف. وكانت العائلات، ومعظمها
لا تعرفنا شخصياً، تهيْ
لنا المبيت والطعام وتسهر علينا كما لو أننا من أبناء الدار، بتعاطف وحنان آسرين.
بل إنَّ معظمهم كان يتمنى علينا أن نعود ثانية. وأذكر أن رجلاً في إحدى العائلات،
جنوبي المحرق كان يبكي لأن أحدنا سوف يغادر بعد ثلاث ليال من المبيت في بيته،
متهدجاً:
"
إلى أين تذهبون ".
لم نتمكن من وصف هذا السؤال بغير تضرع
المحب.
لكن، في العمق، عندما نتأمل سؤالاً على هذه الدرجة من العفوية
والصدق والحب، يمكن أن ندرك أنه كان سؤال المحرق المبكر عن مستقبل البحرين المؤجل.
غير أنه، أيضاً، سؤالٌ قد تم توجيهه لمن كان في تجربة البحث،
حيث لم يكن الأفق واضحاً ولا الجواب متاحاً.
فمن يزعم، آنذاك، أننا كنا نعرف: أين كنا ذاهبين ؟
نحن الذين لا نستطيع الزعم (حتى الآن، بعد أكثر من ثلاثة عقود)
معرفة طريقنا؟
( 2 )
بقي أن أقول عن المستوى المعرفي
الآخر لمدينة المحرق، وهو المستوى الذي سيكون اكتشافي له بمثابة
فتح الكنز لكائنات الريح.
انه البعد الحضاري لمدينة
المحرق، التي أحب أن أسميها أيضاً (ورشة
العمل)، التي لا تكف عن الإنتاج. وأعني به أولاً
الطبيعة السوسيولوجية
التي جعلت المحرق عبارة عن مجموعة أحياء متجاورة متداخلة، غالباً ما يأخذ كل حي
أسم مهنة أو حرفة من الحرف اليدوية ذات العلاقة المباشرة بالحياة اليومية للناس
طوال تاريخ المدينة المعروف على أقل تقدير. فمما يلفت النظر في هذه المدينة أنها
اشتهرت بالمهن التي
يُعرف بها عدد من أشهر أحيائها. وهو أمر أتمنى أن يتولى دراسته
مختصون لكشف البنية السوسيولوجية
والانثروبولوجية لمدينة المحرق، التي لا تزال أرضاً بكراً من هذه الزاوية.
ويمكنني، كمثال، الإشارة إلى أسماء أحياء (البنائين، الصاغة،
الحدادة، الحياك، القلاليف.. وغيرها)، وهي أحياء كانت، بالنسبة لي شخصياً، العالم
الأقرب إلى ممارسة الحياة،
ليس لقربها أو تقاطعها مع حياة البيت
ومعيشة الأسرة فحسب، ولكن،
بوجه أخص، لكوني عملت في معظم هذه المهن والحرف
اليدوية في فترات مختلفة من حياتي، وعرفت عن كثب علاقة معظم هذه المهن بالحياة اليومية للناس في مراحل نشوء هذه المدينة منذ فترة الغوص وصناعة السفن، وارتباط مهنة الحدادة
مثلاُ بمهنة صناعة السفن. ثم فترة البناء حيث كان بعض أشهر البنائين في المحرق،
وفريق البنائين خصوصاً، يجري الاستعانة بهم لتشييد العديد من أشهر البيوت في
المحرق والمنامة والرفاع لكون هؤلاء البنائين من بين أمهر العاملين في حقل زخرفة
الجبس والبناء عموماً. وأذكر بالتحديد خصوصاً
(أحمد الميل) رحمه الله، الذي عرفته شخصياً بحكم الصداقة التي تربطه بوالدي، وقد
أخبرني والدي أن شيوخ
العائلة الحاكمة في الرفاع
كانوا يطلبون (أحمد الميل) شخصياً
ليشارك في بناء بيوت وقصور العائلة لخبرته
المتميزة، وكان يضطر- حسب رواية الوالد-
للإقامة فترات طويلة في الرفاع لإنجاز العمل، بسبب عدم
تيسر المواصلات في ذلك الزمان. وفي تقديري أن الإسهام العمراني لأحمد الميل وأمثاله هو أحد
مظاهر البعد التنموي الذي كان أسهم به أهالي المحرق في سياق فنون
العمران كحرفة تقليدية، ليس اقتصاديا فقط،
ولكن بالمعنى الفني للكلمة، خصوصاً إذا لاحظنا أن ما يجري ترميمه في السنين
الأخيرة من البيوت القديمة هو بالضبط ما كان الحاج (أحمد الميل)، وأقرانه من بنائي
المحرق، قد أنجزوه سابقاً.
ولعلك إذا صادفت الآن أبناء وأحفاد
(الميل الكبير) ستعرفهم مباشرة بقاماتهم الفارعة التي ورثوها منه مثلما ورثوا
مهارته في فن البناء. وليس من غير دلالة أن من بين أشهر الذين تستعين بهم إدارة
الآثار بوزارة الإعلام لصيانة المباني القديمة في
السنوات الأخيرة هو (الأستاذ
علي الميل) الذي تربطني به صداقة مبكرة أيضاً
وقت كنا نشارك معاً في مواكب العزاء بالمحرق وهو أشهر من قاد فرقة (الزنجيل/ ضرب
الظهر بالسلاسل) في المحرق، والمشهور بقامته الفارعة،
وهو نجل أحمد الميل الذي أتكلم عنه، و(علي الميل) هو من بين
أكثر أبناء حي البنائين دماثة وحباً وإخلاصا للعمل، وقد أسعدني أن اشتغلت ذات مرة
تحت إشرافه في البناء أوائل الستينات. في الفترة التي كنت عملت معظم الأوقات تحت
اشراف الأستاذ عبدالله بن عيسى الحداد، الذي أشتهر وقتها بأسد الحدادة، ومنه تعلمت
الكثير.
إنني أدين لوالدي كونه عرَّفني على كل هذه التجربة الغنية
التنوع، فقد وجدت في الأشخاص
الذين تعرفت عليهم كنزاً من الخبرات والأخلاق والمشاعر.
تعلمت دروساً لم أصادفها في حقول
معرفية أخرى. إلى درجة أنني أستطيع الآن أن أستعيد بوضوح، شبه كامل، العديد من
المواقف والأشخاص كلما تعلق الأمر بتجربة أو موضوع محدد في حياتي منذ أن وعيت
علاقتي بمدينة المحرق. لقد كنا عائلة واحدة بحق.
وأذكر كيف أجهشتُ في البكاء وأنا أشاهد منظراً لا أستطيع نسيانه
إلى الأبد، في ذلك الصباح يوم كنت أقف على الرصيف الخارجي الجنوبي المحيط بمبنى
بمدرسة الهداية، المطل على شارع المطار، وإذا بي أرى أحد البيوت على الجانب
الموازي لشارع المطار المقابل لسور المدرسة، حيث كان به عمال بناء يشتغلون، ينهار
قسمه الأعلى ويتصاعد صراخ العمال وهم يحاولون الفرار خارج البيت، وكان (أستاذهم)
من بيت (موسى بن حمد) وهم أيضاً من المعروفين بمهنة البناء في المحرق. رأيت البيت
ينهار فجأة على العمال، وكنت أعرف شخصياً بعض أولئك العمال، وقد تُوفي بعضهم تحت
ركام البيت المنهار، ومن بين المتوفين في ذلك الحادث أحد أبناء (موسى بن حمد). البيت
كان قديم البناء، وهو كما أذكر بيت
الفنان (أحمد الجميري)
آنذاك، ويجاوره من جهة الجنوب الشرقي منزل الأستاذ (عتيق
سعيد) رحمه الله المقابل لبيت (عائلة
الشتي).
لقد كان حادث انهيار البيت فوق
رؤوس العمال مفرط القسوة،
بحيث أمضيت عدة أيام طريح الفراش مريض الروح والجسد،
بسبب صدمة المشهد والواقعة، فقد شعرت جسدياً بما حدث لأشخاص أعرفهم وربما عملت
معهم في العطل الصيفية. ووجدتُ
نفسي أنهار (مثل بيتٍ آخر)، منخرطاً في بكاءٍ مكتوم
لهول الصدمة، مما جعل إدارة المدرسة يومها أن
تسمح لي بالعودة إلى البيت. وكانت الحادثة قد روعت أهالي المنطقة.
بهذا المعنى أستطيع أن أقرأ الآن تلك العلاقة، وأزعم أنني أعرف
مدينة المحرق على طريقتي.
( 3 )
ولكي تكتمل معرفتي بهذه المدينة الناشطة
في تاريخنا الاجتماعي والسياسي الحديث، فإنَّ جانباً ثقافياً مهماً لابد من
الإشارة إليه. فالامتزاج الحميم بالحياة اليومية لمدينة المحرق أتاح لي معايشة
واكتشاف عبقرية التعبير الشعبي لدى أبناء هذه المدينة، فقد كنت أستمع
يومياً، من والدي وجدتي،
وغيرهما كثيرين، إلى عشرات
التعبيرات والأقوال وخصوصاً الأمثال التي كنت
ألتقطها بالحس العفوي للفتى المتعطش للمعرفة، معرفة العاطفة العفوية وليست المعرفة
المنظمة، غير أنني الآن أشعر بالاكتناز الثري بقدر هائل من الأمثال والأقوال التي أجد
نفسي أستخدمها عفو الخاطر في حياتي
اليومية، مما يلفت
الأصدقاء أحياناً، لأنهم غالباً يسمعون هذه الأمثال والأقوال لأول مرة. ولفرط
جمالية دلالاتها ومقدرتها على الاختزال
والذكاء والرشاقة في التعبير، يسارع بعضهم بتسجيلها.
والحق أن عبقرية بناء هذه الأقوال والأمثال وبلاغتها الرشيقة البالغة الذكاء
والاختزال والمكر التعبيري، هو ما يشدني لحفظها، بل والاستفادة منها في بعض البنى
التعبيرية في بعض ما كتبت.
*** |