( 1 )
ترتبط تجربة تلقي التعليم في
المحرق بشخصين اثنين في
الكتّاب (امرأة
ورجل) حيث حفظ القرآن،
وثلاث مدارس رسمية (الجنوبية والشمالية ومدرسة الهداية)، ومدرسة
صيفية واحدة،
هي التي كان يفتحها الأستاذ عبدالله حجازي (مدرس اللغة الإنجليزية في مدرسة
الهداية) في داره التي كانت تقع فوق قرطاسية صغيرة لبيع الدفاتر والأدوات المدرسية
التي كانت مصدراً لأبناء المحرق طوال الخمسينات وبداية الستينات، وكان صاحبها (علي
عبدالكريم) رحمه الله، وهو من جيراننا في حي البوخميس.
مدرسة الأستاذ حجازي الصيفية التي درستُ فيها
هي عبارة عن فصلين لمادتي الحساب واللغة الإنجليزية برسوم رمزية. وأذكر أن السيدة
أم وليد (زوجة الأستاذ حجازي) كانت تعد لنا في مطبخها الفلسطيني ألذ خبز بالزعتر
ذقته في حياتي. السيدة أم وليد التي سرعان ما فجعت بفقد ابنها وليد، في حادث
تصادم، مع صديقه غسان ابن الأستاذ فريجة المدرس في الهداية أيضاً. وكان حادثاً هزّ
مشاعر أهالي المحرق آنذاك.
***
لقد كان حفظ القرآن مرحلة تأسيسية
مهمة بالنسبة للطفل قبل التعليم النظامي، واستمر هذا التقليد
بوصفه المزدوج: علماً
للطفل وتحصيناً له أخلاقياً ولغوياً قبل انخراطه في الحياة. حيث يعتبر الكثيرون أن
معرفة الإسلام، بدءاً من القرآن، واجباً دينياً قبل أن
يكون رغبة دنيوية في المعرفة. وكان التسابق إلى حفظ القرآن حقلاً يحق للأهل
أن يفاخروا بمن يجتاز ذلك الدرس بجدارة. فبعد الحفظ سوف يقوم الطفل بالسرد
المجرد (عن ظهر قلب) لكي يؤكد حفظه وأهليته لحفل الختام وإعلانه في الناس في طقس
يسمونه (الختمة).
لا اذكر أنني من الذين وفروا لأهلهم
التمتع بتلك المفاخرة. لم أكن ممن يتميزون بموهبة الحفظ في أية مرحلة
من حياتي. كأن الحفظ هو نقيض السليقة التي ذهبت لها حواس الطفل. فما حفظته
من القرآن لم يتجاوز النصوص الأولية التي لا تصلح لأكثر من احتياجات الصلاة مع بعض
الاستشهادات التي كان والدي يختبرني فيها أثناء سيري معه ذهاباً إلى السوق
أو أثناء سهرات الشتاء، وكان يكتفي بأن يطلب مني الجلوس بجانبه أثناء تلاوته
القرآن في ليالي رمضان خصوصاً. لم يكن الخلل في طريقة التدريس
التقليدية، فقد حفظ الكثيرون القرآن بنفس الطريقة، غير أن الخلل كان يكمن في طبيعة
تقبلي لفكرة الحفظ أصلاً، وأظن أن هذه الطبيعة هي التي ستستمر معي طوال الوقت،
فلست ممن يحفظون النصوص، وهذا أدى، لاحقاً، إلى عدم اعتيادي على
حفظ الشعر.. شعري خصوصاً.
وبالرغم من أن الجو
العائلي
كان
مشحوناً بالقراءة
والحفظ طوال السنة، إلا أن ذلك لم يؤسس عندي ميلا لتقليد من حولي. فبالإضافة إلى
والدي الذي كان يواظب على ترتيل القرآن في
ليالي رمضان وفي صباحات بعض المناسبات الدينية، فان عماتي (شقيقات والدي) كن يقرأن
كتب
قصائد و أراجيز
اللطميات والرثائيات في حسينية النساء الموجودة في دارنا منذ أن وعينا على الحياة. وكنت مولعاً بالإصغاء إلى ذلك الإيقاع المشحون بالحزن والحنين الكثيف، غير أن ذلك كله، أيضاً، لم يسهم
في تعويدي على قبول فكرة حفظ النصوص.
( 2 )
في المرة الأولى التي أخذتني جدتي (لوالدي) إلى
درس القرآن، كنت في سن
الرابعة تقريبا. وكانت المعلمة امرأة تدعى (مطوعة أمينة) وكان بيتها
قريباً جداً من
دارنا
في
فريق البوخميس. دخلتْ بي جدتي على (مطوعة أمينة) ذات صباح لكي تخبرها أن (جاسم)
سوف يتعلم القرآن على يديك. وتركتني بعد دقائق سريعة لكي أجد نفسي بين أطفال الحي
في عريشة مفروشة بالحصير وكتاب (جزء عَمَّ) مبسوطاً في أحضان
الأطفال.
وأذكر
أن هذا الانتقال الكوني من أحضان نساء العائلة إلى البيت الغريب بين جمع الأطفال
كان حدثاً بمثابة الصدمة التي سببت ما يشبه اللعثمة لدى الطفل الذي كنته، ولفرط
الارتباك، وصدمة التجربة الجديدة، شعرت بجفاف في حلقي بحيث احتجت إلى شرب الماء
عدة مرات في ذلك الصباح.
ولهذا نصحتني المعلمة
(أمينة) أن أحضر معي في اليوم التالي قنينة الماء من البيت، لتفادي تكرار القيام
والجلوس لشرب الماء من الزير الفخاري المنصوب بقرب المطبخ. وقد تعودت على
ذلك لاحقاً. وسرعان ما استغرقت في مشاركة الأطفال، بناتٍ وأولاداً، في تلك
الحركة الآلية
بأرجحة الظهر
التي يعتمدها جميع الأطفال فيما هم يقتعدون الأرض ويقرأون نصوصهم
المقررة بأصوات عالية تختلط إلى درجة أنك
لن تدرك تماما ماذا يقرأ كل منهم بالضبط.
وأذكر أن (المطوعة أمينة) كانت في معظم الوقت
تؤدي دورها التلقيني للأطفال وهي تتحرك في حوش وغرف دارها والمطبخ، منهمكة في أداء
مشاغلها البيتية وهي تتابع كل ما يقرأ عن بعد، وسوف تختصر الجلوس معنا بعد
الانتهاء من كل واجباتها من غسل وطبخ وتنظيف. هذه الآلية بالطبع هي ما جعل مهنة
تعليم القرآن على الأرجح بمثابة العمل التطوعي الذي يمزج بين الدوافع الدينية
والاجتماعية التي سوف بجري تقديرها، من قبل أهالي الأطفال، بدرجات مختلفة من
المكافآت المادية الموغلة في الرمزية، فربما كانت في بعض الحالات تتمثل في النقود
لكن من المحتمل أن تكون في صورة حاجيات ومواد أخرى تشي بالحس العفوي للمقايضة.
ولكن تبقى الهدية الكبيرة التي ينالها معلم القرآن، وهي عبارة عن قدر من المال بعد
أن يختم الطفل القرآن.
بعد الخطوة الأولى للتعرف على
القراءة، في (الكتّاب)، على يدي )المطوعة أمينة(،
انتقلت بعد ذلك
إلى (بيت كتّاب) آخر ومعلم آخر عرفناه
باسم (لحْمِدِي)-
بتسكين الحاء وكسر الميم والدال- في
حي (سوق الخارو) المجاور لحينا بالقرب من محطة السيارات القديمة،
المعروف باسم (فريق
ستيشن)، وهذا يعني أنني سأكون طوال الوقت في (بيت آخر) غير بيت العائلة. وهذا
التقليد كان يشكل بالنسبة لطفل مثلي تجربة متواصلة في اكتشاف العالم خارج الدار.
( 3 )
ولكي لا أشير إلا إلى التجارب المتصلة مباشرة بطفولتي الخاصة مع
مدينة المحرق، أذكر تجربة اليوم الأول في أول
مدرسة في حياتي. حيث أخذتني جدتي إلى المدرسة الجنوبية (في
المحرق كان وقتها مدرستان شمالية وجنوبية)
وتقع خلف مسجد الشيخ حمد. وكنت في
السادسة من العمر تقريباً.
ولأن تجربة اليوم الأول لطفل يبتعد عن داره كل هذه المسافة، هي
بمثابة الامتحان، فقد
كان الأمر طريفاً بحق. كان المفترض أن تعود جدتي لاستلامي من المدرسة في نهاية
الدوام ومرافقتي في طريق العودة إلى البيت. إلا
أنني كنت قد انتهزت فرصة سانحة لكي أخرج قبل سماع جرس الانصراف، واعتقدت أنني أعود
إلى البيت وحدي، الأمر الذي جعلني في متاهة طوال النهار، لقد تهت عن طريق البيت.
لكي تكتشفني جدتي آخر النهار في أحد بيوت المحرق، حيث دخلت تلك الدار
بشكل عرضي باكياً. وكان ضياعي في يومي الأول للدرس هو بمثابة (حسن
الطالع) الذي لم يفارقني، ربما
حتى الآن، لأنني، لاحقاً، تركت المدرسة قبل إنهاء المرحلة الثانوية،
لكي تنتهي إلى الأبد علاقتي بالدراسة، دون أن يكون ذلك مدعاة فخر لأحد.
عندما تهت في الطريق إلى البيت،
وجدت أبواباً كثيرة مفتوحة وكنت أعتقد (لأنني شعرت لحظتها) بأن كل دار منها هي
بيتي الافتراضي. والطريف أن جدتي قد أخبرتني فيما بعد أن البيت الذي لجأت إليه،
وتناولتُ الغداء مع أهله، لم يكن إلا بيت صديقة قديمة لعائلتنا.
سيبدو كلامي أكثر وضوحاً عن فكرة الأبواب المفتوحة، عندما يتذكر
معي الكثيرون من أهالي المحرق، عندما كنا نسير، آنذاك،
في أحياء المدينة ونصادف ظاهرة تستحيل
مصادفتها الآن، فقد كانت كل أبواب البيوت، بلا استثناء، مشرعة، ومن المألوف أن ترى
أهل هذه البيوت يتنقلون بحرية من بيت إلى آخر. بل إنك سوف تعرف،
بعد جولة صغيرة في أحد أحياء المدينة،
ماذا ستأكل كل عائلة على الغداء في ذلك اليوم. وعليك أن ترقب الحركة الرشيقة التي
ستبدأ لحظة الوجبة حيث ستنتقل الأطباق جاعلة هذه الأبواب المفتوحة تزخر بالناس.
ومما يجعل فكرة الأبواب المفتوحة في المحرق أكثر رحابة، استعادة تلك الجولات
الجماعية أيام الأعياد، حيث يجوب الناس، جماعات وأفراداً، شوارع وأزقة المحرق،
خروجاً من بيت ودخولاً في بيت آخر طوال النهار حتى المساء، لتبادل التهاني وتناول
الغداء والعشاء على موائد مفتوحة اتصالاً بالأبواب المشرعة. وهو تقليد قل نظيره،
وأخشى أننا لم نعد نشاهده في السنين الأخيرة، كما لو أن ثمة ملامح إنسانية هي الآن
قيد الانقراض من حياتنا.
كانت أبواب المدينة
مفتوحة دائماً للجميع يوم كنا أطفالاً مشغولين
بالألعاب الشعبية وندخل
أي دار تصادفنا.
فيما بعد سوف أكتشف هذه المدينة
أكثر، وأتعرف عليها في مرحلة انخراطي في العمل المبكر، وقت كنت أشتغل "فاعلاً"
في البناء، حين كانت أعمال البناء مياومة بأجرة لا تتجاوز الخمس روبيات. ففي العطل
الصيفية كان كثير من أبناء جيلي يشتغلون في مهن مختلفة. وأثناء العمل كانت تجربة
التعرف على فلسفة الباب المفتوح في المحرق، جعلتني أكتشف ماذا يعني، بالنسبة
للأهالي، أن يكون صبيٌ في
الثانية عشرة أو الرابعة عشرة يشتغل عاملاً في البناء،
حيث يتحول في معظم البيوت كما لو أنه جزء من العائلة.
ثم تعرفت على المحرق أيضاً عندما كنت أعمل مع والدي في دكان
السمكرة الذي يصنع فيه علب الحلوى من صفائح علب التمر الكبيرة الفارغة، وقد كنت
أجمعها من سوق المحرق،
وأقوم بتقطيعها لتحويلها صفائح مبسوطة وأنظفها بالماء، ليعيد والدي إنتاجها مجدداً
في صيغة علب للحلوى البحرينية أو في صيغة الأدوات المنزلية، ثم يضعها لي في كيس
كبير من الخيش وأحملها على ظهري وأجوب بها مدينة المحرق من شمالها، حيث دكان
(يوسف البلوشي)
صاحب محل الحلوى المجاور لدكان (بوهيال)
رحمه الله، حتى جنوب المحرق، حيث سوق (الكراشية)
ودكان بائع الحلوى (بوطالب العماني)
الذي كان يشترى مني بعض تلك العلب
التي أحملها.
ويبقى المرحوم (حسين
شويطر) في مركز سوق المحرق، (محله لا يزال في
موقعه القديم بإدارة ابنيه محمد وفؤاد)،
هو أهم من كان يشتري من والدي علب الحلوى. وفي هذه
السوق الأشهر في المحرق (وأظن في البحرين أيضاً) تعرفت على المحرق بالشكل الذي
ازعم بأنه صاغني روحياً واجتماعياً.
لأن معرفة المدينة، بالمعنى الإنساني، من مظاهر
الحضارة في حياتنا. كما أن الشخصيات الشعبية التي زخرت بها المدينة القديمة، كانت
من الخصوبة والطرافة الإنسانيتين مما
يجعلها تحتاج الوقت الكثير والسياق الأنسب للحديث عنها.
***
|