سعيت إليه كمن يذهب إلى حبيب.
قلت للأصدقاء :
أحضر إلى عُمان، شريطة أن
تأخذوني إلى (السيد).
قالوا: أي
(سيد).
قلت: الجبل
الأخضر.
فتعهدوا أن يرتبوا لي
موعداً مع السيد.
أعرف عن عزلته الطويلة، وأنه لم يزل في حزنه الرصين. أتخيله
متصوفاً يعتكف على كتابة مخطوطاته في ضوء شمعته القديمة، جالساً بين الغيم وغبطة
الناس في صمتهم. لم أعرف جبلاً مكتنزاً بالتاريخ مثله، ولا يتصرف بعيداً عن ذلك.
حين تقف أمام دارك، في المدينة، يستطيع السيد أن يراك من هناك، دون أن تدرك ذلك.
(إنه هناك). قال الصديق الذي جاء يأخذني، كأنه يتكلم عن شخص ينتظرنا في المنعطف.
وعندما كانت السيارة تتقدم في إسفلت نظيف لا ينتهي، كنا نستطيع أن نضبط أنفسنا
متلبسين بشعور غامض، ونحن نزداد اقتراباً من تلك الغيمة المنخفضة العصيّة على
التقدير. (إنه ينتظرنا هناك).
ردَّد صديقي إشارته، فشعرتُ أن كلمة (هناك) لم تعد دقيقة
فيزيائياً، لأنني أكاد أحسّ به يسير بجانب
سيارتنا، بل ربما كان مثل كائن هائل ينظر إلينا من الأعالي كما
في الأساطير. كان والدي يقصّ علينا في الطفولة حكايات موغلة في
الخرافة عن هذا الجبل. ثمة رجل عماني
في حينا في المحرق اسمه
(ناصر) راجتْ عنه خرافة صدقناها بدهشة الطفولة.قيل لنا انه يغيب في دامس الليل ليحضر
لوالدي حبات الهال الطازجة من الجبل الأخضر. وكان والدي يدخل علينا في الصباح
حاملاً في كفّه حفنة من الهال، يجعلنا نلمسها بأصابع مرتعشة، لنتأكد كم هي نديّة
لفرط طزاجتها (لقد أحضرها ناصر الليلة الفائتة من الجبل الأخضر. وحين نهمّ بالقول
إن هذا ضرباً من السحر، يبتسم والدي مفتخراً أنه
الوحيد الذي يمكن أن ينفي ذلك أو يؤكده. وأذكر أنه ذات سهرة، في غمرة حماسه هتف
بنا (إنه لا يذهب إلى مكان، الجبل هو الذي يحضر بين يديه). وعندما تقدم بي العمر
والتجربة، رأيت في الجبل الأخضر حلماً يستجيب لشهوة الشعر في تغيير العالم بدءاً
من هناك. و(هناك) ليس مكاناً، لكنه فصل من الزمن الذي يتصل بانطلاقة رفقة المستقبل الذين يعيدون إنتاج أحلام الماضي. فيما بعد، عندما تأملت المفارقة الشعرية بين الجبل وبين
الخضرة، بالغتُ في الثقة بقدرة الأخضر على أن يزخرف الجبل ويغلبه ويغويه، وبأن
الأحلام تقدر وحدها على استنبات العشب في الصخور
وإحيائها. لقد رأيت في تسمية (الأخضر) ضرباً من الشعر، يليق بسيد شاهق مثله.
وبالمقارنة مع جبل آخر (كان يصّاعد دخاناً ولا يعقد غيماً،
كما عبر الشاعر
الصديق
يعقوب المحرقي أوائل السبعينات)،
لا يحنو ولا يكترث بمن حوله، فإن شوقاً حميما جعلني أرى في الجبل الأخضر تاريخا
شخصياً لتجربتي. فللحجر أحياناً أن يكون أكثر رحمة من البشر.
كلما اقتربت السيارة من (بركة الموز)، صار للجبل حضور مهيمن لا
يمكن تفاديه. و(بركة الموز) هذه عبارة عن وادٍ (يراوح بين القرية والبستان)
يتميز بالخصب لفرط الماء الذي يتحدّر من الجبل. اشتهر بأشجار الموز فأخذ منها
التسمية. أذكرُ في زيارة سابقة، وقفتُ أقرأ سيرة (زاهر
المياحي) الصديق
الذي غابَ عنا باكرا، صادفَ أن داره الأولى في واحد من حقول الموز
هذه. أذكرُ، حاول ذلك الصديق أن يتبادل (بين الجبل والساحل) صوراً قديمةً تجعل
الحلم ممكناً. لكنه بوغت بالمسافة الشاهقة بين خفة
المكان ورصانة الوقت، فأصيب بالفقد.
كان الجبل ينظر إلينا من (هناك). أكتافه منحدرة دون تهدّل
ومسترخية دون كسل، مثل شيخ يتقدم في التجربة من غير أن تبدو عليه علامات الشيخوخة.
ترفع رأسك لتحصر حدود الحجر بعينيك، فلا تدرك ذلك تماماً، فتلجأ إلى نشاط المخيلة.
يزداد الهدوء كثافة كلما اقتربتَ من السفح. وغالباً ستشعر بأن ثمة انتقالاً
بين الفصول يأخذ بتلابيبك. عند خروجنا من المدينة كان الفصل صائفاً، وها نحن نكاد
نشعر، لفرط الغيمة الثقيلة التي تزداد انخفاضاً علينا، بأن طقساً يميل إلى البرودة
يقترح على جسدك أحاسيس منعشة، وتوشك على انتظار زخّـة مطر مفاجئة.كان أبي يقول لنا
عن السيول العظيمة التي تندفع من أعالي الجبل عبر السفوح، بقوة تجعل الطين الطازج
يتفلّت ليصل إلى مناطق مختلفة في عموم المنطقة، حتى أن
نساء الخليج كـنَّ يتبركنَ بنوع نادر من ذلك الطين، ويغسلنَ به شعورهنَّ، إيمانا
بأنه صعيد طاهر جبلته الأساطير لكي يطرد الشر عن البشر. لقد كان الجبل الأخضر يسبغ
كراماته على الجميع، مثل أحد الأولياء يخط المخطوطات في طين التجربة، ويبعث بها
لمريديه المنتشرين في الأقاصي. تقف السيارة عند دكانة صغيرة بالقرب من محطة
البترول في (بركة الموز).
هذه هي المحطة الأولى قبل الجبل.
يتوجب أن نستبدل سيارتنا. ثمة صديق ينتظرنا بعربة (الرانج) التي
تناسب المرحلة الثانية من الطريق إليه. صافحنا شخصٌ، شعرت أنه مبعوث الجبل. (هل
تريد أن تصعد حقاً؟) شعرت بأنه يسوق لي تحدياً مضاعفاً. التفتُّ برأسي نحو الأعالي
التي تحدق بنا الآن. (هل الطريق إليه وعرة إلى هذا الحد؟). لقد كان احتدام سؤالين
بهذا الشكل كافياً لتفادي الجواب على الجانبين. (على أية حال، فإنه على الموعد).
أطلقتْ (الرانج) صريخاً مكتوماً ونحن نأخذ أماكننا بثقة المكتشفين. شعر الصديق
الذي يجلس بجانبي برعشة جسدي الغامضة. (لماذا تذهب إلى الجبل كمن يصعد إلى
الأسطورة؟). خجلت لأول وهلة من القول بأن هذه هي الحقيقة بالنسبة لي. فقد كنت أذهب
إلى الجبل الأخضر ليس بوصفه حقلاً من تضاريس الأرض، لكن باعتباره جزءاً من تكويني
الروحي الممتد من الطفولة حتى مشارف الخمسين، إنني أذهب إلى الحبيب. الطفولة والتاريخ
يلتقيان في هذا الجبل مثل أسطورة نلمسها باليد. إنني، فيما أصعد إليه، إنما أتقهقر
فرحاً نحو طفولة ممزوجة بشهوة تاريخ لا يزال طازجاً مثل حبة الهال.
إنني فحسب أقرأ كتاباً أحفظه عن ظهر قلب. أخذت (الرانج) دورة
غير مكتملة علي طريق شبه ممهدة، قبل أن نجد أنفسنا في مدخل منبسط قليلاً، سرعان ما
ينتهي بطريق ترتفع تدريجياً وهي تتوغل في ممر صخري يستضيق كلما توغلنا، لنتوقف
أمام بوابة محروسة، ظهرت أمامنا بغتة.
كان الأصدقاء قد استصدروا أذناً خاصاً للصعود إلى الجبل (كأنه
لا يستقبل الغرباء قبل أن يعرف هويتهم). ابتسم الحارس عندما تعرّف على السائق
مرحباً كمن ينتظرنا. الأمر الذي ضاعف شعوري الغامض بأن الجبل الأخضر قد بعث لي
بكائناته لكي تجعل الأسطورة أقرب إلى الحقيقة. تستوجب
هنا الإشارة إلى الرفقة المجنونة من الشعراء الذين كانوا معنا،
سعدي يوسف وأمجد ناصر
ومن شباب عمان الصديقين ناصر العلوي ومحمود الرحبي ودليلنا في رحلة الجبل أحمد
سالم الريامي.
الغريب أن شعوراً بالوحدة كان يستحوذ عليّ طوال الوقت.
كنت متوحداً بصورة غير مرئية، بفعل اتصالي الخفي بالطفولة
والذاكرة والمخيلة في آن واحد. الأمر الذي لم يترك مجالاً لأية كائنات أخرى تزاحم
لقائي الشخصي بالجبل الأخضر. فقد كان ثمة شعور ذاتي جعل الجبل كائناً
يخصّني وحدي فقط. لذلك كان بعضهم يشدني بين الوقت والآخر من
ذهولي غير المعلن. ما إن عبرتِ (الرانج) حديد البوابة حتى أشعلت بعجلاتها المتوترة
أحجارَ الطريق منطلقة نحو مدارج أفعوانية صاعدة ببطء مكين.
لبعض الوقت سيطر صمتٌ كثيفٌ على الجميع. تحولت الأجساد المكنوزة
في العربة إلى كائنات أثيرية غير موجودة، يستعصي قياس خفتها وطاقتها على الوجود،
مثل الأواني المتجاورة وغير المستطرقة.
استغرق ذلك وقتاً خِـلته دهراً.
لم يرغب أحد منا أن يخرق ذلك الصمت الذي لا تُسمع فيه غير ضراوة
احتكاك العجلات الصلبة بالصخور المكسورة التي طحنتها آلة افتتحت المسار منذ سنوات،
ومهّدها العبور النادر. لقد كانت حقول النخيل التي عبرنا جانباً منها في طريقنا
السفلى إلى (بركة الموز)، تلفت إلى النعمة الخفية التي يدفقها الجبل على خلقه
المطمئن من حوله. وطاب لي أن أسمي ذلك سواداً يشفُّ عن خضرة قانية، يحسن الجبل
خطّها في دفاتر مريديه، حتى إنَّهم برعوا في رد التحية بأحسن منها. فحين يشحُّ
المطر، ويهدد العطش ثنايا جبلهم، يبتكر المريدون (الأفلاج) لتصعيد الماء من السفوح
نحو الأعالي، ويكافئون أسطورة جبلهم بمعجزتهم في هندسة الماء التي لا تزال عصيّة
على التفسير، فهي ضربٍ من مشاكسة قانون الجاذبية. مثل السحر، يعالجون حياتهم
بالغامض الأليف.
الانسياب المتأرجح يجعل (الرانج) خفيفة في حضن رحب. هل كان
يهدهدنا مثل أطفال في مهدهم الأول؟. غير أننا لا ننام. خبرة الدليل بأشياء الجبل
تمنح الطير والشجيرات والمهاوي، وقطعان الماعز المتقافزة والحيوانات الهائمة،
والأبراج الناهدة التي تحرس الطرق والثكنات الكامنة، والانهدامات الصقيلة
والمغارات الغامضة أسماء جديدة. أشارَ دليلنا إلى جيبٍ حفرته الطبيعة في تجاعيد الجبل
وقال: (في خمسينات الحرب، كانت الطائرات تقصف هذه الأرجاء بحثاً عن أحد مريدي
الجبل وهو يختبئ في هذه المغارة، يبعث برسائله من هنا، وهم لا يقدرون على الوصول
إليه. لقد كان الجبل يحميه. ويقال إنه عاش أكثر من مطارديه). كان الدليل يتكلم عن
الجبل بلغة تضاهي الحب، إنه ضرب من تبجيل العاشق والذوبان فيه. عندما كان يضع يديه
على حجر الطريق، يبدو كمن يلامس جسداً يحسّ به ويشعر بحركة النبض فيه ويحسن
مكالمته. (لم يبخل علينا بشيء. حتى في سنوات الجفاف كان يبكي لأجلنا فننال ما يبل
ريق أطفالنا. كنا نصحو في بعض الصباحات فيجد كل منا أمام بابه حفنة من التمر وحزمة
من فواكه ليست في موسمها. وكان الأطفال وحدهم يرددون أن ذلك من فضل السيد، دون أن
يسأل أحد من هو السيد. لقد كان الجبل لا يغفل عن مريديه حتى عندما يتمردون عليه)
قال دليلنا ذلك وهو يداري عنا عينين مغرورقتين لفرط التأثر.
هذا ليس جبلاً.
وأمسك كل منا أقرب فلذة إليه، في محاولة لسبر الحياة في هذا الحجر الحي. نبالغ في الصعود، والجبل ينحني بطقسه الحميم نحو شغافنا المبتهجة. بدأتُ
أشعر بقماش ملابسي الملتصق بجسدي، بفعل عرق داهم، يجفّ قليلاً ليتحول القميص إلى
نوع من قشرة رهيفة، ويتسرب هواء طازج يميل إلى البرودة كلما تقدمت العربة في
الصعود. كنا نشعر بالجبل يرافقنا مجاوراً للعربة، حيناً من اليمين وحينا من
الشمال. مثل شخص شاسع يحمي تقدم غزاة أليفين حاضناً فيهم مريدين مؤجلين، في محاولة
لمنحهم حناناً يحتاجونه في وعورة أحلامهم. وأخذت الصخور تتبادل الألوان أمامنا.
كأن الجبل يستبدل ملابسه بين لحظة وأخرى باحثاً عن زينة تناسب
زائريه. لا أعرف لماذا رأيت فيه كائناً حياً قادرا على الكلام معنا لو أن أحدنا
توجه إليه بالخطاب. كان يصغي لهسهسة أصواتنا برصانة الشيخ العاشق. دليلنا سائق
(الرانج) من سكنة الجبل، يلوذ إلى الصمت بين لحظة وأخرى، وكان بعضنا يستحلب منه
الكلام بأسئلة متباعدة عن الجغرافيا والطبيعة والتاريخ في آن واحد. غير أن الجبل
كان أكثر بلاغة منه، وكنتُ أتصلُ بحضوره على طريقة متصوفة البوذيين : أعضاء
مسترخية، أحداق مفتوحة، وحواس في يقظة الكشف، وهو يسرّ لي الأشياء. الجبال أيضاً
تميل إلى العزلة، الجبال أيضاً تنتظر، الجبال تعرف الحزن أيضاً، الجبال فقط تسعى
لمن تحب، وللجبال نعمة لا يمكن تفاديها.
منذ سنوات طويلة ظل هذا الجبل وحيداً، مفصولاً عن الناس. هو
الذي صاغَ لهم تاريخهم. وهو لم يأخذ تسمية الأخضر مصادفة، فقد كانت المنطقة تعتبره
سيدها الذي يهب لها شتى أنواع الزرع والضرع. وهو كان حصنهم ضد الخصوم. لكنه بعد
ذلك كله انتابه تعب العمل، فذهب معتزلاً لفرط جحود بعضهم وعدم تعلّم بعضهم الدرس
كاملاً.
بغتة لمحت تحتي هاوية تطل على الوادي، فبزغت في ذاكرتي صورة من
الطفولة، رأيت نفسي ذلك الطفل وهو يصعد البرج القديم في جنوب العراق، الذي يسمونه
(الملوية). غير أن الأمر هنا يبدو أكثر تشويقاً، حيث الطبيعة هي التي شيدت
كل هذه الصخور الهائلة، ومدّت فيها مسارات متعرجة مشغولة بكثير من العشوائية.
عبرتِ (الرانج) كتلة قديمة من الحديد على جانب الطريق، عرفنا
أنها بقايا طائرة حربية سقطت في خمسينات الحرب. طلبنا التوقف لمشاهدتها عن قرب.
كانت هناك آثار قبر الطيار البريطاني الذي دفن بالقرب من الموقع. أخذنا ندور حول
كتلة الحديد ونجسّ بأصابعنا تفاصيلها الضائعة، كمن يقرأ مخطوطاً قديماً في ضوء
ذاكرة واضحة. قبل أن نغادر
الموقع كنت قد حملت معي شظية من أشلاء الطائرة بحجم كتف صديق
عصفته تروسُ آلة ضارية، فسألني شاعر آخر:
- ماذا تفعل بالماضي؟
قلت:
- أشحذ به الزيت في قنديل الذاكرة.
حضرت الأساطير ثانية.
خلال حرب الخمسينات، كانت الحكايات تتوالى عن أساليب القتال
التي يبتكرها مريدو الجبل ومتمردوه لمقاومة الطائرات المغيرة. قيل إنهم، حين تنفذ
ذخائرهم، كانوا يسلّطون سحراً غامضاً، يجعل الطيارين أنفسهم منقادين، مثل حشرات
عمياء، للاصطدام بطائراتهم في تغضنات الجبل، بلا هدف ولا ذخيرة. حتى شاعت بينهم
رهبة تضاهي الخشية من عبور مثلث برمودا. وكان أبي يباهي بذلك في حضرة جلسائه الذين
يتابعون تلك الحرب المنسية. وكان يردد بأن أحداً لن يهزم الجبل الأخضر.
كان معدن الطائرة نظيفاً كأنه سقط قبل أيام. بدتْ لي بقايا هيكل
الطائرة مألوفة، ربما كانت هذه الطائرة قد أقلعتْ من مطار الجيش البريطاني بالمحرق
آنذاك. فزادت مشاعري احتداماً، وأنا ألامس الشظية كمن يجسّ بقايا آلة ضارية سبق
لها أن طافت على جسده. أية ذكريات يمكن أن تثيرها هذه الشظية عبر التاريخ؟ فسمعت
الجبل يهمس لي بأن هذه ليست أجمل ذكرياته. فالحجر أكثر قدرة على البقاء من حديد
الطائرات. فانحنيت أحمل معي حجراً مكنوزاً بالأجنحة.
الحجر هو أيضاً ضربٌ من الكتب.
هبتْ علينا ريح مشحونة برائحة زهرية نادرة لم ندرك مصدرها. قال
دليلنا إنها بقايا شجيرات الخوخ في غير موسمه. وأشار نحو جهة في الجبل (انظروا
هناك)، وكان علينا أن نتبيّن المشهد، ونجوس بأنظارنا لكي نلمح بقعة خضراء تبرق عن
بعد. رأيت فيها كتيبة كامنة وترنو إلى الجهر معاً، تزهو وتتماهى مع تجاعيد الجبل
في آنٍ واحد. ثمة ما يشبه الحقل منساباً في تضاريس يصعب عبورها. إنها واحدة من
الحقول المتوغلة في الطبيعة. وبعد قليل توقفت (الرانج) ليعلن الدليل أن الطريق
الصالحة للعربات قد انتهت، وعلينا، إذا أردنا مواصلة الرحلة، أن نترجل ونبدأ
العبور إلى آثار منازل محفورة هناك. والوصول إلى (هناك) استدعى منا سيراً مرهقاً
استغرق حوالي الساعة والنصف لكي نصل إلى دور شبه منحوتة في الجبل، دُورٌ لم تزل
تحتفظ بآثار بشر كانوا يسكنونها. وتقع هذه الدور على مسارب مهجورة (لأفلاج) لا
يزال أثر الماء مرسوما على حوافها بشريطٍ عتيقٍ من الخضرة الداكنة. ولبعض الوقت
تاه الجميع في تلك الدور، كان بعضنا يتوقع أن يدخل إحدى الغرف القديمة ليشاهد
أناساً تشغل أنفاسهم المكان. بقايا ملابس ملونة، أحذية قديمة (حملت منها فردة حذاء
لطفلة تخيلت أنها قد شبّتْ الآن وصارتْ أماً) حديد عتيق ينتمي إلى ما يقارب أثاث
المطبخ أو أسرّة النوم، خشب يَشِي بأنه صدّ حريقاً عابراً.
وقبل أن نغادر، طابَ لنا أن نستريح في باحة ما كان مسجداً. وهو
المبنى الوحيد الذي شعرنا بأن بشراً قد أدوا فيه طقسَ الصباح على الحصر النظيفة في
بهوٍ لا يزال يحتفظ برائحة الصلاة. رفعتُ رأسي لكي أنظر إلى هامة الجبل الشاهقة،
متخللاً بنظري حلقة كثيفة من أشجار غامضة ذات أزهار نارية اللون، كانت لا تزال
تظلل المكان. فيما يتسرب جدول ماء صغير بين صخور هائلة الحجم تدحرجت منذ أحقاب
طويلة لتصل وتشكل حصناً طبيعياً يحرس هذه الدور. تأكدت لحظتها أن كائنات خرافية
ساعدت الطبيعة على صياغة هذا الجسد الصخري العظيم. بدا لنا المكان صالحاً لعزلة
النساك بعيداً عن العالم، حيث لا تسمع فيه غير حركة الطبيعة. كيف تسنى لهذا الجبل
أن يحتفظ بالطبيعة كأنها بعض أثاثه في بيت الوقت.
الجبل لا يذهب إلى العزلة وحيداً.
ثمة سدنة مختارون يعملون على خدمته وحراسة تاريخه.
واختلط عليّ لحظتها معرفة من الذي يحرس الآخر في هذا المشهد.
كان الطقس لحظتها لا يتصل بالفصل الذي يغمر الأمكنة التي صعدنا منها، فقد كان فصل
المدينة مختلفاً، وفصل (بركة الموز) لا يشبه غيره، أما الطقس الذي غمرنا في بهو
المسجد فإنه يشي بشتاءٍ وشيك، ولو أننا تأخرنا قليلاً لكنا
غسلنا أجسادنا بزخة مطر محتملة. هل كانت البرودة التي انتابتنا في ذلك الموقف هي
بفعل وحشة الأرواح التي لم تزل تسكن المكان، أم أن للوقت سلطة على المخيلة ؟
في البيت الذي استضافنا على الغداء، كانت شتلات البصل والثوم تملأ الحديقة
الصغيرة، وبلا تردد رحتُ أقلع بعض تلك البصيلات ذات الخضرة القشيبة
الفاتنة، وأغسلها لكي أضعها معي على السفرة. ليس ألذ
عندي من استطعام خضرة هذا الجبل على طريقتي.
لكن الجبل هو أيضاً بشرٌ
دمثون يغمرونك بالحنان ذاته الذي منحتهم إياه الطبيعة والتاريخ الذي لا يزال. لذلك
ما كان لنا أن نتفادى دعوة شيخ مهيب صادفنا وأصرّ على دعوتنا لتناول القهوة في
داره قبل المغادرة. فرأيتُ في ذلك الشيخ ذي الذقن البيضاء
المرخية، المحاط بدفء العائلة
ورصانتها، واحداً من مريدي الجبل وسدنته، وربما كان أحد متمرديه أيضاً.
قال الشيخ :
- أشعر بالغربة كلما نزلتُ إلى المدينة.
إنهم هناك يتحدثون بلغات لا أفهمها. ظلامهم دامس، ولا تبدده الكهرباء. نحن هنا
أقرب إلى القمر في الليل، والشمس صديقة رحيمة بنا.
وكدتُ أسمعه يقول (لا أستطيع ترك الجبل وحده، أخشى أن يهاجمه
عدوٌ في غفلة منا. لم يبق لنا سواه. علينا أن نحميه مثلما يحمينا).
شعرتُ بالجبل من حولي يأخذ نفساً عميقاً، ويتنهد مطمئناً
لمريديه الذين لا يتركونه وحيداً في الليل. كأنه يتذكر أيضاً، حتى عندما كانوا
يتمردون عليه، فإنه يتفهم ذلك فيتمجّد
بهم ويشمخ.
ثمة أسطورة تقول إن الجبل يأخذ في الليل هيئة شخص يتجول في
القرى والأحراش، يمضي سهراته كل مرة في مكان، والناس يعرفونه في كل مرة، ويشعرون
بأن يداً رحيمة تغلق عليهم باب الدار في نهاية
السهرة، ليكون نومهم عميقاً وزاخراً بالأحلام.
وهناك من يقول إن الجبل يفعل ذلك طوال الوقت، وخصوصاً بعد
انتهاء خمسينات الحرب، فقد شعر بأن أبناءه قد عانوا كثيرا في تلك التجربة، الأمر
الذي جعل لياليهم مشحونة بالكوابيس، خشية أن تسقط عليهم القذائف، أو يداهمهم جندٌ
غير مرئيين. وبسبب ذلك غادر خلقٌ كثير من سكنة الجبل قراهم نازحين نحو المدن فيما
بعد، ولم يبق معه إلا عدد نادر من المريدين، هؤلاء الذين راح الجبل يحنو عليهم
ويكافئهم بالحب والماء الطاهر الذي ينبت الصخر ويغسل الطريق.
كانت عيون الأطفال الذين لوحوا لنا لحظة المغادرة ترسل بريقاً
غامضاً يشع بذكاء شفيف، ولم أدرك تماماً ما إذا كانت الابتسامة التي تزهر على
شفاههم لحظتها تشي بالحزن أو بالحلم. لقد اختلط على روحي الأمر، وأنا أترك أطفال
الجبل الأخضر هناك، هل كنت قد رسمتُ الجبل أم أنه رسمني مجدداً ؟
لقد سمعتهم يهمسون لي: (لا تخف علينا، نحن هنا في قلب الله).
وقبل أن أدخل غرفتي بفندق المدينة، بعد منتصف الليل، سمعته على
مبعدة، يروى حكاية جديدة لتهويدة
أطفال يذهبون إلى الأمل، ومكاشفة رجال ونساء يذهبون إلى العمل. فتمنيتُ
لو أن لي جبلاً يحبني بهذا الشكل.
**** |