مثل سيفٍ وُلد في غمده،
سيفٌ، سرعان ما شرعتْ زرقةُ البحر في صقله، لتحيله إلى موضع الندى.
هل يمكنني اقتراح هذا الوصف لعلاقتي بمدينة المحرق، التي ولدتُ عشتُ فيها أجملَ سنوات التكوين؟
لا أعرف لماذا خطرت في بالي هذه الصورة.
لكن من المؤكد أن ثقة السيف في
بيته، وشعوره بالاطمئنان في عزلته،
واستعداده الدائم للمجابهات
الجميلة والجديرة، هي
صورة سوف أحبها
يوماً بعد يوم.
مثل حنينٍ غير
معلن إلى عالم لم
يعد موجوداً.
بالرغم من معرفتي مدناً كثيرة بدرجات مختلفة، إلا أنني
أشعر باكتناز في
معرفة أناس
كثيرين وأشياء تستعصي
على الوصف في مدينة واحدة، مدينة كفيلة باختزال
المدن. وأظن أن معرفة ِأشياء كثيرة في مدينة واحدة، مثل مدينة
المحرق، يمكن أن تغني
عن معرفة مدن كثيرة.
بالنسبة لي، أقدر على القول بأنني تعلمتُ
في هذه المدينة درس الحياة، هذا الدرس الذي كان يسألني، فيما يعلمني:
كيف ستكتب النص: نص السيرة ؟
وهو سؤال لم يدر في بالي في أي مرحلة من مراحل الحياة والكتابة. أنا الذي انشغلت حيناً، وانهمكت كثيراً، في كتابة سيرة النص متفادياً الكلام عن
سيرة الشخص.
فلستُ ممن يحسن كتابة السيرة بالشكل المتعارف عليه في هذا
الحقل، ليس فقط بسبب ما ينتابني من القلق والارتباك عندما يتطلب الموقفُ كلاماً عن
الشخص، ولكن لأنني، خصوصاً، لا أشعر بقدرتي على كتابة ما ينتمي إلى السرد التاريخي
المتسلسل والمقيد بتسجيل الأحداث متتالية.
غير أن سؤال المحرق عن النص يفتح الكتاب, المؤجل, على هواء
الروح المنتظر.
إن تأمل التجربة الذاتية في ضوء التجربة الأغنى، لمدينة المحرق،
هو سياق يضعني في مهبٍ كنت قد تولعتُ به وأنجزتُ له نصوصاً متفاوتة الشكل والسياق،
الأمر الذي منحني حرية الزعم بأنني لا أكتب سيرة الشخص بقدر ما أحاول كتابة النص
الذي سألتني عنه مدينة المحرق ذات درس :
كيف ستكتب النص؟
أضع أبجدية الناس في قاموس الشخص العتيق،
أنسى فهرس الهجاء والمديح،
وأبدأ سرد النص الذي غفل عنه البحر منهمكاً في ورشة السفر.
***
يمكن الحديث عن هذه المدينة من مستويات وزوايا مختلفة، غير أنني
أحب أن أتحدث عنها متقاطعة بالرؤية
الإنسانية التي أنشأتني،
وتصاعدت في تجربة كان لها الدور الأكبر في
صياغتي ثقافياً وإنسانيا وإبداعياً.
لا أكتب كل شيء، لأنني لا اعرف كل شيء.
عرفت مدينة المحرق، في لحظتين باهرتين
من الاكتشاف:
الأولى بوصفها مدينة الأبواب المفتوحة دائماً.
والثانية بوصفها ورشة الأمل.
ورشة أمل، لأنني أرى في المحرق مشروعاً لا يكتمل إلا إذا اتصل
بحيوية الأمل الإنساني، ويمكن لملاحظ التاريخ الاجتماعي لهذه المدينة، أن يكتشف
كيف أن ثمة مشاريع عديدة ارتبطت بأشخاص، في حقول مختلفة، وقد نهضت بهم هذه
المشاريع كلما شعروا بالطاقة الصادرة عن الجمرة الخفية في شهوة الحياة والتغيير المتأججة في حركة لا تكفّ عن
الإنتاج. كل ذلك صادر من
كون هذه المدينة، طوال تاريخها المعروف،
مصدر بناء وحيوية وبوتقة أفكارٍ نابضة
بالعمل، حتى إنني أميل إلى اعتبار المحرق
سواد البحرين، أي مصدر حياتها، بالمعنى الواقعي
حيناً، وبالمعنى المجازي
غالباً.
كأنّ تلك المدينة كانت اقتراح المستقبل الإنساني بالنسبة لأجيالنا.
فهي إذن :
الأبواب المفتوحة من جهة
وورشة الأمل من جهة أخرى
وفي كلتا الحالتين كانت لحظة اكتشافي لهذه المدينة هي البرهة
الشاسعة للاندماج في مشاغل الحياة
وأحلامها. وأظن أن العديد من أبناء هذه المدينة سوف يشتركون معي في جانب كبير مما
سأشير إليه، أو أنهم سيدركون في أعماقهم ما أعنيه.
لقد كانت أبواب المحرق مفتوحة دائماً أمام طفولتنا.
بسبب طبيعة الأحياء الشعبية التي
كانت تشكل مناخاً اجتماعياً مشتركاً، سوف لن يصادف الطفل (ثم
الصبي والفتى والشاب والرجل والكهل والشيخ) حدوداً فاصلة بين
داره وعائلته، وبين الدور والعائلات الأخرى.
لأن ظاهرة الأبواب المفتوحة سوف
أصادفها بأشكال مختلفة في تلك الصيغة الاجتماعية. فمنذ أن وعيتُ في العائلة كانت
دارنا تزخر بالناس على مدار السنة تقريباً.
أولاً، لأن
بيتنا كان يمثل
نقطة تقاطع اجتماعي بين عائلات وفئات ومذاهب وأحياء كثيرة لظروف
إنسانية بالغة العمق والبساطة في نفس اللحظة.
ثانياً،
بسبب وجود (حسينية)
النساء التي كانت لا تكف عن العمل معظم أيام
السنة. ويجتمع بها أصناف من البشر وبشتى المذاهب يشاركون
في مواسمها، التي لا تتوقف، رجالاً
ونساءً، وأطفالاً
وكباراً، في نفس اللحظة.
ثالثاً، لأن علاقة رجال العائلة بعدد
لا يحصى من أًصدقاء العمل أيام الغوص وأيام السفر للعمل
في السعودية ودول الخليج الأخرى، ثم ممارسة المهن المختلفة
(النجارة، الـقِـلافة، الحِـدادة، البناء).
كل ذلك ساهم في انفتاح العائلة على
دور وعائلات كثيرة كانت أبوابها مفتوحة للجميع. وكان الجميع يلتقي في دارنا في
مناسبات الأفراح والأحزان وغيرهما.
في هذه الآلية الحيوية الغنية بالنماذج البشرية والمشاعر
والتجارب كنت أتعرف على شبكة من علاقات البشر، وأتحسس المعنى العميق والبسيط
لضرورة الفرد في المجتمع وحيوية تقاطعه مع الآخرين. فقد كان لكل فرد في الدار
(مقيماً أو عابراً) دور يقوم به ويؤديه بعناية الحريص على إثبات جدارته بجانب
الآخرين. وما سيساعد طفلاً مثلي على اكتشاف الحقائق الكبرى في سياق من البساطة
والعمق، كون الجميع يتساوى في حرية الاتصال والمساهمة مادام جاداً، فليس هناك حجب
أو حواجز تفصل بتعسف بين الرجال والنساء، وهو الأمر الذي يمنح الحياة في بيت يزخر بالحركة والعمل، مشروعية سلسلة من الرغبة في الحياة. فليس أسوأ من أن يفقد
الكائن الشعور بهذه الرغبة الباهرة في الحياة، حتى أن بعضنا كان يعتبر مجرد النوم
وقتاً ضائعاَ لأنه يحرم الشخص من العمل.
*** |