ورشة الأمل

(سيرة شخصية لمدينة المحرق)
قاسم حدَّاد

 
ربانٌ مذعور،

خيرُ مرشدٍ إلى الهلاك

1

بحرٌ عاصفٌ. موج. جبالٌ من الماء الهائل تتلاطم وتدفع السفينة إلى الجنون. مياهٌ كثيفة تخترق الليل وتغمر سطح السفينة، فتتناثر محتوياتها وأدواتها على الجانبين. ثمة بقايا شراع شبه معقود تصفقه الريح فيتقوّس وينبعج، خارجاً عن سيطرة بحارة يركضون في الاتجاهات كلها، يتشبثون بما يصادفهم، فتبدو تضاريس السفينة، وهي في مهبّ الضياع، أطواقَ نجاة في أحداق الغرق.

ربانٌ يوزّع أوامره بصرخات مذعورة فيتضاعف الذعرُ في كوكب السفينة، فلم يكن ينقص البحارة والسفينة في تلك اللحظة إلا ربّان مذعور، حيث غضبُ القائد الخائف خيرُ مرشد إلى الهلاك.

في لحظات سريعة بدأ يتضاءل شعورنا الواثق بحجم السفينة، التي كان الأهالي يسمّونها (الديرة) لفرط ضخامتها واتساع سطحها ورحابة صدرها، يوم كانت تشقّ بحر السفر من جهة، وتغمر البحارة بالخير الوفير والراحة من جهة ثانية. ها هي الآن أكثر ضآلة من ريشة في الريح، ففي موج شاهق مثل هذا لم تعد الحجوم قادرة على المحافظة على نسبها، ففي الخطر تصبح جميع الأشياء تحت رحمة البحر، البشر والخشب والمعادن. تذكرتُ يوم قلتُ لأبي إنني أصبحتُ رجلاً كبيراً وأستطيع دخول البحر معك، حيث قال ساعتها:

 اسمعْ، ليس على البحر كبير، إنه أكبر من كل شيء، وما عليك إلا أن تجرّب ذلك.

الآن فقط أفهم المعنى الخطير في تلك الكلمة.

مثلما لا تستطيع أن تقبض على الماء تكون قبضة البحر قادرة عليك. وها نحن في العاصفة التي بدأت تمزق أخشاب السفينة، مثل طفل يعبث بلعبته الورقية. كل شيء كان في المهبّ، كل شيء عرضة لأن يستقر في مكانٍ ما في المسافة بين الريح والقاع. الصارية وحدها لم تزل ثابتة القاعدة في منتصف السفينة، فيما كانت قامتها تتأرجح مثل بندول معلق في فراغ، خشبة نحيلة شبه عارية تتأرجح منها حبال كثيرة كألسنة الأفاعي، في طرفها بقية من شراع، لتبدو مثل شخصٍ ذاهب إلى الحرب يلوّح للمودعين لكي ينقذوه، فيؤمنون بإصراره على الذهاب.

الصارية وحدها كانت هناك تتأرجحُ بفوضى واضطراب دون أن نعي سبب قدرتها على الصمود الغامض. وفي لمحة خاطفة أضاء البرقُ سطح السفينة لتشخص الأعين في قاعدة الصارية، كان ثمة شخص لا يزال مصلوباً هناك.

لحظتها فهمنا ذلك الصمود الغريب الذي كانت تتحصّن به الصارية، إنها محتفظة برهينتها، ففي غمرة ذلك المشهد العاصف، حيث الكارثة تحاصر السفينة وتحدق بالجميع، لم يزل ذلك الشخص موثوق اليدين والرجلين في أصل الصارية، عيناه طائرتان مثل عصفورين أفزعتهما العاصفة في غابة تحترق، حيث لا مفر.

لقد كان الشخص آخر ذكريات ما قبل العاصفة، يؤدي عقاباً سابقاً دون أن يجرؤ أحدٌ على إطلاقه. لقد كنت معه هناك، أعرفه ويراني، ونحن في المشهد العاصف نختلج في حضرةِ موتٍ وشيك .

2

كان والدي يسرد الحكاية، مرتعش اليدين مختنق الصوت ملتهب العينين محتقن العواطف، كمن ينقل خبراً تمنى لو أنهم اختاروا شخصاً سواه لقوله. تتنازعه لذة التجربة وعذاب الرواية.

توقف لحظة عن الكلام، وأخذ يزفر بأنفاس غواص خرج تواً من الأعماق.

حملقتُ في وجهه فرأفتُ به. كدتُ أطلب منه نسيان الأمر والانتقال لحديث آخر. لكنه أشاحَ بيديه كمن يطرد الفكرة. أشعل سيجارته وصرَّ عليها بإصبعين معروقتين تشوبهما صُفرةٌ قديمة، كاد أن يستسلم لبرهة من التأمل، ولكنه سرعان ما اعتدل وهمهمَ، كمن يحدث نفسه:

كيف يمكن أن تقيّد شخصاً وتلقي به في البحر، ثم تطلب منه أن لا يغرق؟.

بادرته بسؤال يتلجلج في حنجرتي طوال الوقت، عما إذا كان يتذكر اسم الشخص الذي كان مصلوباً في الصارية. نظر في عينيّ يلومني على السؤال الفاضح، ثم حاول أن يبتسم، فاندلعتْ تنهيدةٌ مريرةٌ مثل جمرة تحرق الشفتين والعينين معاً:

لا أهمية للأسماء، أي شخص منا يمكن أن يكون هناك، لقد كانت الصارية جواباً على كل سؤال.

قلت له: 

ولكن في تلك العاصفة، حيث يستوي الجميع في الموت، ألم تكن الضرورة تستدعي إطلاق المصلوب للمشاركة في إنقاذ السفينة.

انتفضَ كمن لدغته الفكرة، وهو الذي لا يريد أن يبدو أمام غَـرٍّ مثلي في صورة الغياب أو القصور عن إنقاذ السفينة:

مثل هذه الفكرة لا تراود أحداً في حالنا. لم نتعود على جرأة التفكير في مثل تلك المواقف. لقد كان كل مَنْ يستحق الصلب يخرج من حساب الموت والحياة، إنه لا يعود موجوداً على الإطلاق، فما إن يربط في الصارية حتى يصبح خارج البشر، إنه في حكم الصارية وجزءٌ من مصيرها، عليه أن يقضي العقوبة كاملة كيفما كان، لقد خرج عن (قانون الغوص) وعليه أن يقبل بحكمة الريح.

قال جملته الأخيرة وهو يحدّجني بعينين جمرتين، كمن يبحث عن يقين بموافقتي على قوله.

لم أكن لحظتها قادراً على بذل الأجوبة الشافية لأبٍ لا يريد أن ينسى تجاربه الأليمة في أيام الغوص، ولا يكفّ عن استحضار الحكايات، كما لو أنها تحدث الآن. في تلك الساعة خصوصاً لم أكن قادراً على مقاومة السحر الغريب الذي يستحوذ عليّ، بهذه الحكاية الفاتنة، لكي أستعيد حادثة أخرى، عن صديق أعرفه، صُلبَ على البوابة الداخلية في باحة السجن أمام رفاقه، لمجرد أنه فزع من نومه تحت وطأة كابوس الليل، فنهض يصرخ بالآخرين لكي يدركوه بالماء، لشعوره الغامض بعطش فاحش يكاد أن يقتله، وهو في هيئة جثمان يفرز أسراباً لا نهائية من الكائنات الصغيرة تدبّ من الجسد المسجّى، سرعان ما تنشر هذه الكائنات أجنحتها وتطير. وقد فسّر بعضنا ذلك الكابوس بطبيعة السجن الصحراوي، حيث الفقد كيمياء الحياة. اعتبر السجان صراخ الكابوس خروجاً عن قانون السجن، يستوجب مضاعفة العقاب في صورة الصلب. وفي ظهيرة اليوم التالي كان علينا نحن المعتقلين جميعاً أن نتجرع شعور اليأس والمذلّة، لعجزنا عن إطلاق صديقنا من صلبه، فقد كانت حناجرنا مجرّحة لفرط العطش.

تذكرتُ صلب ذلك الصديق في ذلك المشهد، لقد كنت معه هناك، أعرفه ويراني.

3

المحرق، ليست نهاراً فقط. لكنها ليل أيضاً. وهو ليل كثيف مشحون بالسهرات المكتنزة بالقصص والحكايات. ونادرا أن تصادف حكاية من حكايات المحرق لا تتصل بالبحر. كأن البحر هو جوقة من الرواة القادمين من الماء لفرط ما تزخر به تلك السهرات من أعشاب البحر ومخلوقات الأعماق والأسماك القادرة على التجول في أزقة المحرق تصحب أبطال القصص مثل زينة المشهد وأديمه.

أبي مثلاً.

انه نموذج لهم. لكل رجال المحرق الذين يشكل لهم الحديث عن البحر متعة من لا يريد التوقف عن السرد. وفي الشتاء سوف نقتسم الليل بين مطلع في اللعب خارج الدار وسهرة النوم متحلقين حول والدي وهو يروي قصص البحر التي صاغها وشارك فيها ووحده له حرية التغيير المستمر لنهاياتها.

حرَّكَ كومة الفحم المتأجج في مجمرته، ودَسّ حبات الكستناء في رمادها الملتهب:

"هذا شتاء يستحق الاحتفاء، لئلا يقال إننا كنا نهدر الانتظار، ولسنا مؤهلين لمطرٍ مثل هذا، ينصبُّ علينا مثل غضب الله الغاضب".

في العام الماضي أبلغه مهندس الطبيعة أن عطباً أصابَ إسطرلاب الطقس، فاختلتْ روزنامة الفصول، مما أدى إلى تخلف الشتاء عن وقته. وقيل إنه لم يذهب إلى أي مكان أبداً. سمع قشرة الكستناء تستجيب لكوامن الرماد، وتفتح بواباتها بصوت لذيذ، يذكره بتقصّف شروش المحار على سطح سفينة تمور وتنتقل من الذاكرة إلى المخيلة، كأنها الآن.

و(الآن) ليس ظرف زمان فحسب، لكنه ظرف مكان أيضاً.

حيث البحر سيد الوقت والمكان.

حرّك الجمرَ وأبعدَ حبة الكستناء عن برتقالة الرماد. تناول الحبة بأصابع ثابته، وأحنى ظهره يعدل من طيّة عبائته الوبرية حول جسده. وفيما يقشر بأصابع ثابتة حبة الكستناء، استغرق في استعادة الحكاية التي لم يسأم من سردها كلما سنحت له الفرصة. الحكاية ذاتها التي كانت تستهويني في كل مرة، كما لو أنني أسمعها للمرة الأولى :

***

( كل شيء كان على طبيعته، وكنت أتولى طرف الحبل الذي كان عمك يغوص بطرفه الآخر على محار الأعماق. هذا تقليد يعتمده أهل الغوص، إذا صادف وجود شقيقين معاً على مركب واحدة، لابد أن يغوص أحدهما و(يسوب) الآخر عليه، ففي هذا التقليد مجابهة مباشرة للمسئولية.

في الليلة السابقة كنت ضحية أرق لا أذكر له سبباً محدداًً، لكنه أرقٌ جعلني منهك القوى ضعيف المقاومة. مما أدى إلى غفلتي عن الحبل الذي بين يديّ، بحيث لم أنتبه إلى نترة عمك المنتظرة. كان عمك تحت الماء، بعد أن أنهى غوصته الأولى. شعرت فقط بصفعة (النوخذا) التي أطارت صوابي وهو يبعدني بعنف عن مكاني، ليسحب الحبل بسرعة. وفي ذهولي أكتشف أنني كنت في النوم، في الوقت الذي كان عمك يطلب نجدة من يسحب الحبل. وما إن شق سطح الماء برأسه، حتى انتفض مثل سمكة تنال حرية الماء ثانية. وهو يصرخ بصوت لا يمت للبشر، صوت بين النحيب والشهيق والصهيل والغيظ في آن واحد. وسرعان ما انتشله الآخرون ورموه على سطح السفينة، وهو لا يكاد يصدق أنه في الحياة.

لذتُ جانباً أرقب ما يحدث عاجزاً عن الكلام. لقد كان عمك على وشك الموت بسببي.

لم نتبادل كلمة واحدة.

كل ما استطعنا أن نفعله هو ارتماء كل منا في حضن الآخر في عناق شرس، كمن يعاقب الواحد منا شقيقه على أمر لا يحدث أبداً. لم يلتفت (النوخذا) نحونا، رَمى الحبلَ في وجهي بعينين محايدتين. استدار إلى منصته، قاذفاً نفسه في عالم التبغ، ولم يجرؤ أحد، حتى معاونه، على الاقتراب منه.

أمضى البحارة طوال تلك الليلة يتوقعون ما الذي سيكون عقابي على ذلك.

كنت أرقبه طوال الليل، لنصبح اثنين لم يقدرا على النوم: النوخذا وأنا.

في الصباح، بعد حبة التمر وقهوة العلقم، صرخ بي (النوخذا) لكي أقترب. تأملني لحظة ثم قال:

- إنه أخاك يا محمد، ماذا ستفعل لو أن أحداً غيرك ارتكب هذا الخطأ؟

من الواضح أنه لم يكن يطرح سؤالاً. لقد كان يعيد صياغة الاحتدام الكثيف الذي عانيته، معه، طوال الليل.

لم أعلق سوى بما يشبه الهمهمة. أدركَ منها أنني سأقبل الحكم الذي يراني أستحقه. صَفَنَ برهة أخرى، ثم نادى (المجدمي) وقال له :

- خذ محمد إلى الصارية.

انتفضَ بعض البحارة الذين سمعوا الأمر. وأكثرهم ارتعاشاً كان عمك. وفيما كنت أسير خلف (المجدمي) ناحية الصارية، اندفع عمك نحو النوخذا صارخاً:

- انه أخي، وها أنا سليم لم أصب بمكروه، إنني أعفو عنه ولا داعي للعقاب.

ابتسم (النوخذا) على غير عادته:

   إنه أخوك حقاً، ولكن هناك، في البيت، أما هنا فهو يرتكب الخطأ في حق الجميع، ربما تسامحه أنت، ولكن البحر لا يغفر لأحد.

وما إن التفت عمك ثانية حتى كان الحبل قد أكمل عقدته حول جسدي لكي أكون مربوطاً بالصارية. وسرعان ما انثنى الجميع متفرقين كل إلى عمله. وبقيت في الصارية ثلاثة أيام مع الماء والتمر فقط. دون أن أقوى على الاعتراض. ففي الغوص يا بني ليس الربان هو الحاكم، لأنه معنا على نفس المركب وفي نفس الخطر، الحاكم وقتها هو البحر.

في تلك الليالي المقمرة، والبحر في هدوئه، والجميع في آبار النوم، و أنا أحدق في بريق غامض يتراقص فوق سطح الماء، كان عمك وحده يجلس ساهراً بجانب (السريدان) يحرك الجمر الكسول، ليبقي توهجه ساهراً معنا في صمت السفينة الدامس. كان عمك يحرك الجمر في تلك المجمرة متخيلاً خشب الصارية وقوداً طيباً للشتاء القادم. لكنه ظل شتاء لم يأت، لم يأت أبداً يا بني).

4

عندما وصل أبي عند هذا الحد من روايته، كان قد أنهى تقشير كومة صغيرة من حبات الكستناء، وبدت أطراف أصابعه مسودّةً، فاستدار يبحث عن إناء الفناجين ليغسل أصابعه في الماء. ثم يقدم لي الكستناء المقشر، مازحاً:

- هيا، دعني أرى كيف ستقرض هذه الحبات كما يفعل الفأر، لقد فعلت ذلك من أجلك، أنت تعرف إنني لا أملك الأسنان اللازمة لهذه المهمة. فقد نال مني البحر كل شيء.. كل شيء يا بني.

كان عليَّ أن أكون مستعداً ذات سردٍ لكي أطرح السؤال على والدي، في محاولة لمعرفة هذا الهيام الغريب برواية قصة الصلب نفسها بين وقت وآخر، حيث يسرد التجربة بحماس مَنْ يستلّ شوكةً من باطن القدم تجعل المشي في الحياة متعذراً، حماسٌ سوف يجعل الجسد مثل ريشة في رواق تعصف به الريح.

كان عليَّ أن أختار مناسبة أكثر هدوءاً لئلا يكون رجلٌ مثل والدي قادراً على مواصلة أداء دور المهزوم الذي حانت لحظة انتقامه ممن يعترض الطريق نحو الحكاية التالية عن بحرٍ لا ينضب.

لو أن العمر امتدَّ بوالدي بعض الوقت لكنت سألته السؤال، وربما سعيت معه لجوهرة المشاعر المكبوتة، تلك المشاعر المتصلة بحادثة الصلب في الصارية. فقد بدأت تتوضح لي جوانب غامضة من طفولة كان والدي يرعاها بأسلوب لا يخلو من الصرامة المبالغ فيها أحياناً. فربما فهمتُ الآن، بعد فوات الأوان، تلك الحادثة التي وجد فيها والدي شكلاً خارقاً لمعاقبتي على خطأ غرّتني به طفولةٌ طائشة.

5

ما إن عدت من المدرسة ذات ظهيرة، حتى وجدت جو البيت محاصراً بالوجوم، تأخذني والدتي برفق لكي أتناول غداء مازلت أراه أمامي الآن مثل لوحة مألوفة لطبيعة صامتة، لأنني لم أقدر على مسّ قرص الخبز وحبات الحمص لفرط الهلع الذي انتابني. كان أفراد العائلة ينظرون إلي بأعين شاخصة متذرعة بالخوف المشفق، وهم يديرون رؤوسهم نحو تلك الخشبة المغروسة في حوش الدار، يتدلى منها حبلٌ يكفي لشنق تسعة أشخاص وجلب الماء من بئر بعمق تسعة أمتار بالباقي.

وعندما اقتربت من أبي الجالس في صدر المكان، متحصّناً بصمته المعهود حين يكون غاضباً، شعرت بأن ثمة كارثة تحدق بالموقف. ومثلما يعرف الخاطئ جرمه، أدركتُ أنني صاحب هذه الخشبة لا محالة، وإن هذا الحبل لن ينطوي على غيري في هذا النهار الرائع.

حين تأكد والدي أنني عازف عن تناول الغداء، نهض واقفاً وأمسك بذراعي (دون أن يقول كلمة)، وأخذني إلى الخشبة، وراح يقيدني ويشدني بالحبل إلى الخشبة واقفاً (دون أن أقول كلمة). ثم بدأ في تلقيني الدرس بعصا كان قد أعدَّها مسبقاً إلى أن تكسرت (دون أن ينبس أحد بكلمة).

وبعد أن فرغ من ذلك الدرس، وجميع أفراد العائلة يقفون عاجزين عن فعل شيء، جاحظي الأعين ومحتقني الوجوه، لفرط البكاء والغضب المكبوت. وقف والدي وهو ينظر إلى الجميع (أذكرُ أنه لم يتوجه لي بالكلام ولم ينظر في عيني طوال الوقت، وأذكر أن ذلك كان موجعاً لي أكثر من درس الصلب والضرب) وأنذرهم بأن لا أحد يقترب مني أو يفكّ الحبل عني حتى يعود من السوق في آخر النهار. ثم تركني تحت شمس ذلك النهار المبارك، وخرج تاركاً الجميع في جحيم بلا وعد بالجنة.

لكن الأب هو والد قبل كل شيء وبعده. والأولاد ليسوا قدوة للآباء.

فالمحبة هي الأصل.

فلولا أن عمي، (الذي كان مناكفاً تاريخياً لوالدي) عندما عاد إلى الدار وعرف بالأمر، قد بادر بتحدي تحذير شقيقه، لكان والدي قد فعل ذلك بنفسه بعد قليل. فقد عاد والدي من السوق (قبل موعده اليومي على غير عادته) باحثاً عني لكي يطلقني، وعندما عرف أن عمي قد أنزل المصلوب عن خشبته، طلبني لكي يحدّق في عيني بحنان المقهور الآسر، ويحضنني احتضانة سمعتُ بفعلها شيئاً مثل البلور الحزين يتكسر بين الأضلاع. وراحت أصابعه تتحسس جسدي من يريد أن يمسح أثر الجلد ببلسم الحنان. وكنت أسمع في صدره قلباً مفعماً يعتذر لي عن حب عنيف بهذا الشكل، حب يستعصي على الوصف. ثم همسَ في أذني بود فائض قائلاً:

- اذهبْ وارفع تلك الخشبة واكسرها لكي تستخدمها والدتك غداً في وقود التنور.

بقي ذلك السر أياماً طويلة قبل أن تعرف العائلة سبب ذلك الصلب.

لم يشأ والدي أن يتكلم عن الأمر لفرط الجرح الشخصي، ولم أرغب في ذلك شعوراً بالخطأ الفادح. إذا كان ثمة أب سيعاقب ولده بهذه القسوة، يتوجب أن يكون الابن قد فعل جرماً كبيراً شديد الوطأة على الأب.

لقد ارتكبت ذلك الجرم فعلاً.

لقد سرقتُ. سرقتُ بعض المال من والدي نفسه. لا أسوق الأعذار هنا لكي أبرر فعلتي، لكن هذا ما حدث بالضبط.

كان والدي قد صنع صندوقاً خشبيا صغيراً على شكل (حصالة) يوفر فيها جزءاً من دخل شقاء عمله في دكانة السمكرة التعلى كتباعده فيها. وكنت أنا الوحيد من يعرف سر ذلك الصندوق. ولشدة ولعي بالكتب التي كنت اشتري بعضها من المكتبة العصرية بسوق المحرق، بالغت في ذلك الولع، فرغبت في الحصول على كتب أكثر. لم يكن والدي مقتراً علينا، لكن دخله لا يكاد يكفي لضروريات العائلة، فيتجاوز بعض مبالغاتي. فما كان مني إلا أن انتهزت فرصة ذهابي المبكر لفتح الدكان لكي أستل بعض الوريقات النقدية بسلك قوى من شق الصندوق الخشبي المغلق، متوهماً أن والدي لن يلحظ ذلك. ولكنني استمرأت الأمر لكي يكتشف والدي بطريقة ما أن ما يوفره لنا في حصالته يتعرض للسرقة. وهو يعرف أن أحدا سواي لا يعرف عن سر حصالة التوفير الفقيرة هذه. نصب للسارق الصغير فخاً لكي يتيقن من شكه في الولد العاق، فتيقن ان لديه ولد يرتكب السرقة.

أفهم الآن كلمته الوحيدة التي قالها بعد فترة طويلة من درس الصلب: (لقد كنت أوفر المال من أجل طعامكم).

وأدركت حجم صدمة الأب في ولده.

إذا كنت سأنسى شيئاً في حياتي، فإنني لن أنسى هذه الخطيئة الفادحة التي جعلت والدي يهمس في أذني بعد سنوات طويلة بالكلمة الأخيرة عن الدرس القديم.

في سنواته الأخيرة ذكرته بحادثة الصلب. لم يغضب. لم يبتسم. لم يقل شيئاً. لكنني لمحت غيمة كثيفة من الحزن الشفيف فيما يحاول أن يتفادى النظر إليّ.

وبعد لحظات قال بصوت خفيض كمن يخشى أن يسمعه أحد:

(خفت أن تتعود على سرقة الناس. لقد شعرت بخطر فشلي في تربيتك بالأخلاق الصالحة. عاقبتك قبل أن يفعل ذلك الآخرون. الآن أنت تعرف كل شيء).

كيف يمكن لأب مثل هذا أن يموت؟

***

 
السيرة الذاتية
الأعمال الأدبية
عن الشاعر والتجربة
سيرة النص
مالم ينشر في كتاب
لقاءات
الشاعر بصوته
فعاليات
لغات آخرى